الشارع المغاربي – محافظ البنك المركزي أخطأ في الداء وفي الدواء/ بقلم: جمال الدين العويديدي

محافظ البنك المركزي أخطأ في الداء وفي الدواء/ بقلم: جمال الدين العويديدي

16 مارس، 2018

الشارع المغاربي : قبل التعرض إلى القرارات التي اتخذها البنك المركزي مؤخرا في علاقة بمحاولة تعزيز قيمة الدينار ومقاومة نسبة التضخم حسب ما جاء في بلاغ البنك يجب التذكير بالإطار القانوني الجديد التي فرضه صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي منذ سنة 2016 في إطار ما تم الاصطلاح على تسميته بـالإصلاحات الكبرى“.

حيث جاء القانون عدد 35 لسنة 2016 المؤرخ في أفريل 2016 و المتعلق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي التونسي تحت عنوان براق يتحدث عن تكريس استقلالية هذه المؤسسة السيادية و لكن يتضح في الحقيقة أنه اعتمد تجريد الدولة من أدواتها المالية.

هذا القانون أُسند للبنك المركزي صفة تاجر (خاضع للقانون التجاري) بمقتضى الفصل الثالث من هذا القانون فهو إذالا تنطبق عليه أحكام مجلة المحاسبة العمومية“. كما حدد الفصل السابع الهدف الأساسي للبنك المركزي في الحفاظ على استقرار الأسعار (مقاومة التضخم) عبر آلية تحديد سعر الفائدة الرئيسية وهو الهدف الوحيد الذي بقي بعهدته تقريبا.

ودون الرجوع إلى كل التفاصيل التي توجد في هذا القانون الجديد الذي رغم أهميته القصوى تم تمريره في ظروف تميزت بغياب عديد النواب إضافة إلى أن عديد اجتماعات لجنة المالية اقتصرت على خمس أو ست نواب لا غير إلى جانب أنه حتى عند تمرير مشروع القانون في الجلسة العامة لم يحضر إلا 105 نواب من إجمالي 217 ،يمكن القول إن اخطر ما جاء في هذا القانون ما نص عليه الفصل 25 و بالضبط في التفصيل الرابع منه والذي أشار إلى أنهلا يمكن للبنك المركزي أن يمنح لفائدة الخزينة العامة للدولة تسهيلات في شكل  كشوفات أو قروض أو أن يقتني بصفة مباشرة سندات تصدرها الدولةمثلما كان عليه الحال قبل هذا التغيير مما يجعل الخزينة العامة تفقد أهم سند لمجابهة الوضع الصعب الذي تمر به البلاد  و تتوجه للبنوك التجارية للحصول على القروض المالية بنسبة فائدة تتراوح حاليا بين ثمانية و تسعة بالمائة قابلة لمزيد الارتفاع بحكم الزيادة في سعر الفائدة الرئيسية ب75 نقطة دفعة واحدة التي أقرها البنك المركزي مؤخرا.

في خطوة لتكريس هذا التوجه نحو تجريد الدولة من أدواتها المالية والحال أن البلاد تمر بظروف صعبة ومرحلة خطيرة ودقيقة وسعيا للتجاوب مع شروط صندوق النقد الدولي تم بعث رسالة نوايا بتاريخ الثاني من ماي 2016  إلى المديرة العامة للصندوق كريستين لاغارد موقعة من طرف كل من الشاذلي العياري المحافظ السابق للبنك المركزي والمرحوم سليم شاكر بصفته وزيرا للمالية آنذاك ومرفقة بمذكرة شاملة ومفصلة حول السياسة الاقتصادية والمالية التي تلتزم بتنفيذها الجمهورية التونسية بين 2016 و2019. وقد تم في خلاصة هذه الرسالة التنصيص على تمكين صندوق النقد الدولي من نشر محتوى هذه الرسالة  وكل الوثائق المرافقة لها للعموم وذلك في خطوة اعتراف واضحة من الطرف التونسي بقبول الشروط التي التزمت بها الدولة التونسية لدى المؤسسة المالية العالمية.

وبالرجوع إلى موضوع القرارات الأخيرة التي صدرت عن البنك المركزي نذكر أن الفقرة 18 من مذكرة السياسة الاقتصادية والمالية التي التزمت بها الدولة التونسية في هذه المذكرة نصت بوضوح على التزام البنك المركزي بـالحد من تدخلاته في سوق الصرف إلى مستوى يتعلق فقط بالتخفيف من حدة التقلبات في سعر العملة الوطنية بطريقة تترك للسوق المالية لعب الدور الرئيسي في تحديد سعر الديناركما أضاف الطرف التونسينحن عاقدون العزم على تحديد تدخلات البنك المركزي و على ألا تكون إلا في حالة انعدمت الحلول في السوق الماليةبما معناه بكل وضوح أن البنك المركزي يلتزم بالحيادية  وترك الدينار ينخفض حسب مبدأ العرض والطلب في السوق المالية لأنه تبنى قرار صندوق النقد الدولي على أنهيجب ترك الدينار ينخفض بطريقة تجعله يتخلص من المغالاة في قيمته الحقيقية و يتماشى مع واقع المؤشرات الأساسية للاقتصاد الوطنيالمتدهورة طبعا.

في هذا الإطار المحدد سلفا منذ 2016 والموقّع عليه منذ اتفاق جوان 2013 بين الطرفين تأتي القرارات التي جاءت مؤخرا من طرف البنك المركزي وكأنها غير ملمة بهذا التعهد في حركة مدفوعة بأهداف سياسية غير قابلة للتنفيذ بقدر ما هي مضرة.

فبعد تعيينه على رأس البنك المركزي، ارتأى السيد المحافظ أن يقوم  بخطوة تبدو في ظاهرها بادرة إعلان عن إعتزامه الدفاع عن قيمة العملة الوطنية. غير أنه سرعان ما تبين أنها حركة غير مدروسة أضرت برصيد الدولة الضئيل من العملة الأجنبية الذي انخفض في وقت وجيز من 84 يوما عند تسلمه مهامه إلى 77 يوما مباشرة بعد قراره ضخ مبالغ هامة من رصيد البلاد من العملة الأجنبية في السوق المالية بقيمة تفوق مليار دينار. لقد بات من الواضح أن البنك المركزي لم يُقدّر مدى خطورة هذا القرار فكانت النتيجة أن تقلص الرصيد الوطني بلا نتيجة ملموسة على مستوى تحسين قيمة الدينار. هذه الهزة جعلت محافظ البنك المركزي يتراجع بسرعة و يعلن أنه لا يمكن الدفاع عن الدينار التونسي لأنرصيد الدولة لا يسمح بذلكتصريح غني عن أي تعليق.

في نفس الوقت وفي علاقة بارتفاع نسبة التضخم إلى حدود 7,1 بالمائة مقابل 4,6 بالمائة في نفس المدة من السنة الماضية حسب ما أصدر المعهد الوطني للإحصاء مؤخرا، قام البنك المركزي باتخاذ قرار بالترفيع في سعر الفائدة الرئيسية ب75 نقطة أساسية دفعة واحدة وهي حركة لم تعهدها البلاد معللا ذلك بضرورة مقاومة التضخم المالي عبر التقليص في الاستهلاك عبر الترفيع في كلفة القروض البنكية.

لذلك نعتبر أنه كان خروجا غير موفق للبنك المركزي في المناسبتين و يرجع ذلك للأسباب التالية:

أولا انهيار قيمة الدينار هي مسألة هيكلية و ليست ظرفية بدأت منذ أواسط الثمانينات  وتعمقت منذ أواخر التسعينات في علاقة بالمنوال التنموي وفي علاقة مباشرة باتفاق الشراكة الذي تم التوقيع عليه مع الاتحاد الأوروبي سنة  1995 والذي تم بمقتضاه تفكيك المعاليم الديوانية على المنتوجات الصناعية الأوروبية عند الدخول للسوق التونسية مما أدى إلى اختلال كبير في الميزان التجاري التونسي لصالح الطرف الأوروبي.

في هذا الباب يجب التذكير بأنه عند اعتماد العملة الأوروبية الأورو رسميا في سنة 1999 تم تحديد سعر الدينار التونسي ب 1,19 دينار للأورو الواحد. غير أن العملة الوطنية بدأت بالتدحرج بصفة حثيثة، هيكلية و مستمرة حيث كانت في حدود 1,610 دينار في سنة 2005 ثم 1,910  في سنة 2010  و 2,280 في سنة 2013 ثم ناهز 3 دينارات مقابل الأورو الواحد تقريبا منذ سنة 2017 حيث فقد الدينار 60 بالمائة من قيمته تقريبا وذلك في علاقة مباشرة بتدهور النشاط الاقتصادي الوطني المنتج وخاصة على مستوى الإنتاج الصناعي و الفلاحي مقابل ارتفاع كبير في مستوى التوريد الفوضوي  والمكثف الذي تفاقم بعد الثورة . هذا طبعا في مستوى الاقتصاد المنظم ناهيك عن استفحال نسبة الاقتصاد الموازي و التهرب الجبائي وتهريب رؤوس الأموال إلى الخارج وهي كلها عوامل تؤثر تأثيرا كبيرا على استقرار قيمة العملة الوطنية.   

لذلك نعتقد أن رد الاعتبار لقيمة الدينار التونسي يبقى بالأساس رهين إصلاحات هيكلية للمنوال التنموي تنطلق من ضرورة مراجعة عديد الإجراءات التي تم اتخاذها في إطار تدخل المؤسسات المالية العالمية والإقليمية بما في ذلك إلغاء مفعول القانون عدد 35 لسنة 2016 واعتماد القانون الأصلي للبنك المركزي إلى جانب اتخاذ إجراءات سيادية لترشيد التوريد وتشجيع الإنتاج المحلي والتصدير طبقا للقانون عدد 12 للمنظمة العالمية للتجارة والفصل 35 من اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي.

أما على مستوى قرار الزيادة في سعر الفائدة الرئيسي بـ75 نقطة دفعة واحدة بدعوى مقاومة التضخم المالي فيجب التذكير بأن هناك تقريبا ثلاثة أسباب أساسية للتضخم المالي تتلخص في ما يلي :

أولا يعتبر انهيار قيمة الدينار بمثابة المصدر الأساسي للتضخم عبر ما يسمى بـالتضخم المستوردبمعنى أن فارق صرف الدينار مقارنة بالأورو والدولار الأمريكي يتم تحويله مباشرة إلى أسعار بيع البضائع سواء منها المستوردة  أو حتى المنتجة محليا نظرا للمواد الأولية والنصف المصنعة المستوردة التي تحتويها. وهذا واقع الحال بالنسبة للوضع في تونس خاصة أن العملة الوطنية فقدت أكثر من خمسين بالمائة من قيمتها بين 2010 و 2017 من بينها 21 بالمائة بين سنة 2016 و سنة 2017.   

ثانيا تعتبر الزيادة في الطلب على استهلاك البضائع والخدمات الناتج عن الزيادة في الأجور خاصة عندما تكون بلا زيادة في الإنتاجية مصدرا أيضا للتضخم. غير أن هذه الفرضية لا تنطبق على واقع الحال في الوقت الحاضر نظرا لتقلص القدرة الشرائية للدخل الفردي للمواطن لأن الزيادة في الأجور لا تغطي نسبة التضخم الناتج عن انهيار قيمة الدينار.

ثالثا يعتبر شبه انعدام مراقبة الأسعار على مستوى مسالك التوزيع ناهيك عن المضاربات والاحتكار والتهريب من المصادر التي تؤدي أيضا إل التضخم في السوق التونسية خاصة إذا علمنا أن السلطة اعتمدت حرية كاملة في تحديد الأسعار باستثناء بعض المواد الغذائية الأساسية و المحروقات. هذا زيادة على أنه كان أيضا للترفيع في نسبة الأداء على القيمة المضافة في قانون المالية لسنة 2018 أثر على ارتفاع الأسعار عند الاستهلاك بالتأكيد.

لذلك نعتقد أن الترفيع في سعر الفائدة الرئيسية ب75 نقطة الذي علله البنك المركزي  بالمحافظة على القدرة الشرائية للمواطنين وأنه سوف يوفر الظروف اللازمة للنمو الاقتصادي هو في غير محله لأنه سوف تكون له نتائج عكسية بالضبط  سواء على مستوى القدرة الشرائية للمواطن الذي سوف يتحمل عبئا إضافيا على مستوى ارتفاع الفائدة للقروض الذي سينجر عن هذا القرار. كما أن دفع الاستثمار والتنمية  الاقتصادية سوف يتضرر أيضا لأن كلفة القروض البنكية سوف ترتفع بدرجة هامة ستؤثر مباشرة على القدرة التنافسية للمنتوج الوطني مما سيعيق الاستثمار والتشغيل.

أما المنتفع الأول من هذا القرار فسيكون القطاع البنكي نظرا لأنه أصبح المصدر الوحيد للقروض التي يوفرها للخزينة العمومية.   

لذلك فإن التحكم في التضخم يمر بالأساس عبر تعزيز قيمة الدينار التونسي والذي لا يمكن تحقيقه إلا عبر التحكم في التوريد بصفته المصدر الأساسي لانهيار العملة الوطنية في انتظار تشجيع الإنتاج المحلي والتصدير وكذلك يجب أيضا إعادة النظر في تحرير الأسعار بصفة عشوائية وتكثيف المراقبة  ومقاومة التهريب بصفة جدية وجريئة في علاقة بالمرحلة الاستثنائية والصعبة التي تمر بها البلاد.       


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING