الشارع المغاربي – عبد الحميد الجلاصي... النهضوي الحرّ / بقلم: معز زيود

عبد الحميد الجلاصي… النهضوي الحرّ / بقلم: معز زيود

16 مارس، 2018

الشارع المغاربي : لا يعرفه الكثير من التونسيين، فهو من غير مُحترفي الجلوس في منابر الفضائيات. وبخلاف مُريدي حركة النهضة وعُتاة أنصارها ونزر من نُخبة المشهد السياسي، قد تجهل الأغلبيّة أنّ صاحب الصوت الأجشّ ما كان ليكون كذلك لولا محنة السجن والتعذيب التي بقيت آثارها راسخة في جسده وذهنه. ذاكرة لم تحلْ دون توق القيادي النهضوي عبد الحميد الجلاصي إلى التحرّر، بالقدر الممكن، من إكراهات فكر الجماعة وطاعة صاحب الأمر

من مظاهر القصور لدى المهتمّين بتطوّر الحراك السياسي في البلاد، أنّهم لم يتوقّفوا عند تصريحاتٍ غير مسبوقة أدلى بها القيادي التاريخي البارز بحركة النهضة عبد الحميد الجلاصي. فقد سبق غيره إلى الإقرار بجملة من الأخطاء ارتكبتها حركة النهضة بعد الثورة، بل وكانت نظرته أشمل ليتحدّث عن أخطاء سائر الفاعلين السياسيين سواء من الإسلاميين أو من حلفائهم الماسكين بدفّة الحكم أو من مناوئيهم من اليسار.

معارضة أم تنفيس؟!

لا يخفى على متفحّص للمشهد السياسي التونسي أنّ الجلاصي كان قبل الثورة وبُعيدها في قلب تنظيم حركة النهضة، إلى حدود الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة لعام 2014 التي ترأس خلالها هيئة الانتخابات في حزبه وأشرف على حملته. ومع ذلك فإنّ المؤتمر العاشر للنهضة شكّل المنعرج، حين ارتأى الجلاصي وعدد من قياديي الحركة كعبد اللطيف المكّي وعلي العريض وسمير ديلو معارضة التوجّه السائد المتمثّل في الإبقاء على هيمنة رئيس الحركة على دفّة التسيير. ومن ثمة فشلت محاولات تنقيح القانون الأساسي للحركة في اتجاه انتخاب المكتب التنفيذي بدلا من تعيينه من قبل رئيسها الثابت راشد الغنوشي. وفي المقابل أصابت تبعات هذه المعارضة أصحابها، ومسّت بمواقعهم في هياكلها القياديّة

ومع أنّ حراك هذا «التيّار» المغمور استمرّ إلى حدّ ما، فإنّه بقي سجين الأطر الداخليّة للحركة، ولم يجرؤ رموزه على نقد الأداء أو الإقبال عمومًا على المراجعات. عبد الحميد الجلاصي شكّل تقريبا الاستثناء، فهو لم يكتف بالمعارضة الداخلية والخوض في مسألة الصلاحيات الواسعة جدّا للزعيم، وإنّما صارح الرأي العام كذلك بما ارتكبته حركة النهضة من أخطاء كبرى. فقد اعتبر الجلاصي، في حوار أدلى به يوم 26 ديسمبر 2017 لإذاعة «جوهرة»، أنّ حركة النهضة «لم تبذل ما يكفي من الجهد للتمايز عن المتشدّدين في الساحة الدينية». وطبعا فإنّه لم يذهب في هذا النقد الذاتي إلى أقصى مداه، باعتبار أنّ المسألة لم تكن تتعلّق فقط ببذل الجهد وإنّما بالاستفادة من الزخم التعبوي الذي كان يُشكّله أنصار التيّار المتشدّد، ولاسيما زمن انتخابات المجلس الوطني التأسيسي.

الجلاصي انتقد أيضا حركة نداء تونس في مسألة لم يسبقه إليها أحد من حركته ممّن لا يفوّت مناسبة للإشادة بثمار «التوافق» بين النهضة والنداء. فقد اعتبر أنّ حزب قايد السبسي أخطأ بعد انتخابات 2014 في عدم تحمّله مسؤوليته بصفته حزبًا اختاره الشعب.

ومع أنّه يعتبر أنّ حركة النهضة قد قامت بـ«مراجعاتها التي تتطلّبها رؤيتها وتطوّرها»، فإنّه في المقابل يرى أنّ اليسار التونسي قد فوّت على نفسه الفرصة ليكون يسارا اجتماعيا بدلا من أن يبقى «يسارا إيديولوجيا». يقول في هذا الصدد «لم أر نقدا ذاتيا لدى اليسار، ولم أر نقلة من دكتاتورية البروليتاريا إلى الديمقراطية الليبرالية، لم أقرأ نصا لليساريين إلى حدّ الآن، ومن سيتحدث عن الخطاب المزدوج نقول له هذا كتاب لوائحنا منشور، ولا يمكن محاسبتنا إلا على الممارسة. وبودّي أن أرى كتابا في الحياة السياسية يُضاهي كتاب اللوائح السياسية لحركة النهضة».

قد يكون الجلاصي إذن على حقّ في أنّ اليسار لم يقم بعد بمراجعاته لا لفترة حكم بورقيبة ولا لفترة نظام بن علي ولا حتّى لِمَا بعد الثورة، غير أنّ التزامه بما يحمله من فكر الجماعة جعله يمتنع نظريا عن المضيّ في النقد الذاتي للمرجعيات والممارسات. كما أنّ النفس التحرّري الذي بدا عليه الجلاصي مؤخّرا لم يُحرّره بعد من عبء الجماعة التي بقي أحد أصواتها المتكلمين باسمها حتى من دون تفويض رسمي. فباستثناء لوائح المؤتمر الأخير التي تندرج ضمن الترويج لسياسة الواقع لم تصدر حركة النهضة رسميا إلى حدّ اليوم أيّ نصّ مرجعي يُمكن اعتباره نقدا أو مراجعة عميقة للجذور والأسس والسياسات. فالمراجعات الحقيقية تستوجب الوقوف عند الأخطاء السابقة والاعتراف بها، لا فقط الاكتفاء بالإعلان عن خارطة طريق سياسية للخطوات المقبلة.

مكامن القوّة

يتفوّق الجلاصي على غيره من القياديين الغاضبين، خلال المؤتمر العاشر لحركة النهضة، في كونه أضحى اليوم متحرّرًا من حسابات الربح والخسارة في المعترك السياسي الداخلي والخارجي الذي يحوم حول الحزب. ومع ذلك يُدرك أيضا أنّ زعيم الحركة لا يمكن أن يمسّ بالأساسيّات، وقد لا يفكّر أصلا في ذلك. فالغنوشي لم يتردّد في إزاحة شقّ القيادات التي تُعارض مبدئيّا صلاحياته غير المحدودة وفي مقدّمتهم الجلاصي. فقد جُرّد من أيّة مسؤوليات تنفيذية، رغم تعيين حوالي 70 نهضويا ومستقلا سابقا في كلّ من المكتبين التنفيذي والسياسي للحركة، بل ومن الدلائل الرمزية أنّنا لا نجد صدى لعبد الحميد الجلاصي حتى في الموقع الإلكتروني للحزب أو صفحته الرسمية في موقع «فايسبوك» طيلة أشهر بعد المؤتمر الأخير. ومع ذلك فإنّ الشيخ الرئيس لا يجرؤ على المسّ بما يُمثّله قلب التنظيم.

معلوم أيضا أنّ الجلاصي مهندس أفنى حياته، لا في الهندسة، وإنما في النضال الحركي. ومن هنا تتأتّى قوّته واستقلاليّة قراره من جهة مقابل دفاعه المستميت عن الجماعة من جهة أخرى. ومن يعرفه عن قرب يشهد بأنّه لا يعير اهتماما كغيره للغنائم والمكاسب الشخصيّة، بدليل أنّه لا يزال يُقيم في بيت على وجه الكراء في العاصمة، وآخر على ملك عائلة زوجته في سوسة

صوته التوّاق إلى التحرّر يمكن تحسّسه أيضا حتّى من خلال مواقف رفيقة دربه وعضو كتلة حركة النهضة بالبرلمان منية بن إبراهيم. ومثال ذلك أنّها خالفت صوت جماعتها عبر التصويت ضدّ قانون المصالحة الإداريّة. عقيلة عبد الحميد الجلاصي حافظت على استقلالية قرارها مثلما تمسّكت كذلك بلقبها، غير مكترثةٍ بعادة تونسيات كثيرات بالذوبان وراء ألقاب أزواجهنّ أخذا بإرثٍ غربيّ صرف. قالت آنذاك حرفيا «نحن لم نكن يوما قطيع أغنام نُساقُ بهوى بعض الأشخاص»، لكن من الواضح أنّ استخدامها لـ«النحن» يخصّها هي والجلاصي أساسا، في ظلّ ارتكان الأكثريّة لطاعة صاحب القرار الأوّل والأخير

كابد عبد الحميد الجلاصي الأمرّين لسنوات طويلة، حين حُكم عليه بالسجن المؤبّد، ومن عذاباته أنّه لم ير ابنته إلاّ بعدما بلغت عامها الـ16. ومع كلّ ذلك لا يزال وفيّا لفكر الجماعة ومدافعا عن تماسكها، رغم ما أتاح نشر الكتاب تلو الآخر لصاحب الصوت الأجشّ من قدرةٍ على التحرّر البطيء من السجن التنظيمي إلى حين


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING