الشارع المغاربي – تونس مهدّدة بقائمة سوداء للدول الممنوعة من التزويد بالأدوية: التونسيون بلا دواء! / بقلم : معز زيّود

تونس مهدّدة بقائمة سوداء للدول الممنوعة من التزويد بالأدوية: التونسيون بلا دواء! / بقلم : معز زيّود

4 أبريل، 2018

الشارع المغاربي : يعيش صالح وسليم حياةً عاديّةً، ويتوقان إلى الأفضل لمجابهة المتطلّبات المتزايدة لعائلتيْهما. يعملان بكدّ وجدّ ويتعايشان مع مرضيْهما المزمنيْن، فالأوّل مصاب بمرض السكّري والثاني بضغط الدمّ، لكنّهما عادا بالأمس مذعوريْن بعد أن جابَا ،دون جدوى، صيدليّات النهار والليل بحثًا عن دواءٍ به تستمرّ الحياة. أزمة نفاد مخزون البلاد من الأدوية تُنذرهما بخطر وشيك، وربّما تضع حدّا لأحلام أسرتيْهما. قد تكون هذه الواقعةً خياليّة، لكنّها تكشف بعض دلالات صيحة فزع أطلقها منتسبون للصيدلية المركزيّة

لا يمرّ يوم حتّى يُصاب التونسيّون بإحباط جديد في أحد مجالات الحياة، واليوم يتناهى إلى أسماعهم أنّ المخزون الإستراتيجي للأدوية الذي كان يُغطّي حاجات البلاد بما لا يقلّ عن ثلاثة أشهر تضاءل إلى حدود النصف. ليس هذا بتأويل أو تضخيم وإنّما هو ما يُستشفُّ من شهادة عبد المؤمن بن عمار الكاتب العام المساعد للصيدلية المركزيّة الذي حذّر صارخا من أنّ مخزون بعض أصناف الأدوية قد لا يُغطّي أسبوعًا واحدًا.

تآكل المخزون وأدوية مفقودة!

الخطر الداهم لم يعد سرًّا وقد أقرّ به حتّى وزير الصحّة عماد الحمّامي في ظلّ النقص الفادح في مخزون الأدوية، بما في ذلك الحيويّة منها. ويكفي لأيّ كان أن يجوب صيدليات البلاد طلبًا للعديد من الأدوية الحيويّة ليكتشف أن لا أثر لها، مثل أدوية السكّري وضغط الدمّ والتخدير وأصناف من المضادّات الحيويّة Antibiotiques وحتّى حبوب منع الحمل ومستلزمات التنظيم العائلي، فضلا عن فقدان عدد من الأدوية العادية للأمراض السرطانيّة، فما بالك بالباهظة الثمن على غرار «الهيرسبتين» Herceptine. المُتحدّثٌ باسم النقابة الأساسيّة للصيدليّة المركزيّة نبّه بدوره لتآكل مخزون بعض الأدوية الأساسيّة كليّا، بما في ذلك ما يُستخدمُ منها في غرف الإنعاش على غرار «الكوليميسين» Colimycine و»الفوسفوسين» Fosfocine

أزمة الدواء المحدقة بالبلاد لها أطوارها وأسبابها وتجلّياتها. فالصيدلية المركزية هي التي تتكفّل بحماية الأمن الدوائي للتونسيين باعتبارها المورّد الوحيد للأدوية في تونس، غير أنّها تشهد منذ أشهر أزمة أكثر من خانقة. فقد تزايدت ديون المؤسّسة الوطنيّة وبلغت المستحقّات غير المستخلصة للمزوّدين الأجانب ما يُناهز 389 مليون دينار. وهو ما أدّى إلى انعكاسات خطيرة على تراجع تزويد الصيدليّة المركزيّة بما تحتاج البلاد من أدوية مختلفة. والنتيجة المباشرة أنّ عددا من شركات الأدوية العالميّة هدّدت بالكفّ عن «تزويدها بالأدوية في حال عدم خلاص مستحقاتها»، مثلما أكّد كاتب عام الجامعة العامة للصّحة عثمان جلولي في تصريح سابق لـ«الشارع المغاربي».

ودون السقوط في ترويج أرقام غير دقيقة، فإنّ الاختلال المالي للصيدليّة المركزيّة وعجزها عن خلاص مُزوّديها الأجانب لا يعود، وفق المصادر النقابيّة، إلى إشكال داخلي أو فساد ينخرها أو سوء تصرّف يخصّها، بل يرتبط بتراكم الديون في ذمّة حرفائها. فقد امتنع الصندوق الوطني للتأمين على المرض (الكنام) والمؤسّسات العموميّة للصحّة عن دفع ما يفوق 800 مليون دينار من الديون للصيدليّة المركزيّة. وهو ما يُمثّل محفظة ماليّة لو ضُخّ حتّى نصفها إلى الصيدليّة المركزيّة لَما انتهى بها المطاف إلى وضعيّتها الحالية الخطيرة ولتمكّنت بيُسرٍ من خلاص الشركات الأجنبيّة الدائنة.

قائمة دوائيّة سوداء!

باتت الصيدليّة المركزيّة إذن تعيش حالة شلل مالي غير مسبوق. وممّا عمّق أزمتها أنّها عوّلت على إيفاء الحكومة (وزارة الماليّة ووزارة الصحّة) بتعهّدات ماليّة سابقة قطعتها على نفسها خلال مجلسيْن وزاريّيْن، ولاسيما منها الديون المتخلّدة في ذمّة مجامع الصحّة الأساسيّة للسنتين الماضيتين وجزء معتبر من ديون الصندوق الوطني للتأمين على المرض. وأمام استمرار الوضع المالي للصيدليّة المركزيّة على ما هو عليه، أطلّت علينا مفاجأة من العيار الثقيل تتمثّل في ما راج عن تهديد شركات الأدوية العالميّة بإدراج تونس على «قائمة سوداء للدول الممنوعة من التزويد بالأدوية» نتيجة عدم استخلاص ديونها المتراكمة.

وطبعا فإنّ وزير الصحّة عماد الحمامي استشعر هذا الخطر الوشيك الذي من شأنه الإساءة لسمعة تونس لدى الشركات العالمية المزوّدة للبلاد بالأدوية منذ عقود طويلة، لكنّه يبدو إلى حدّ الآن غير قادر على إيجاد حلّ لهذه الأزمة المتفاقمة. فالصندوق الوطني للتأمين على المرض يشهد وضعًا أكثر كارثيّة، باعتبار أنّه يشكو من عجز ماليّ يُقارب 3 آلاف مليون دينار، ممّا يعني أنّه يفتقد الحدّ الأدنى من القدرة على دفع ديونه للصيدليّة المركزيّة. كما أنّ محاولة دفع الصيدليّة المركزيّة إلى الحصول على قرض لخلاص جزء من ديونها لا يعدّ إلاّ مُسكّنا مؤقّتا، قد يؤدّي إلى إرجاء انفجار حمم الأزمة، لكن من شأنه أن يُعمّق عجز المؤسّسة الوطنيّة ويُثقل كاهلها بديون إضافية وفوائد جديدة.

ومع ذلك فإنّ التداعيات الأخطر للقائمة السوداء المحتملة لا تقف عند مسألة الإساءة لصورة البلاد في مجال حيوي آخر، وإنّما تتمثّل في أنّها ستؤدّي بالضرورة إلى تآكل ما تبقّى من مخزون الأدوية الحيويّة. وهو ما من شأنه أن يُهدّد صحّة الآلاف من التونسيين المصابين منهم خصوصا بأمراض مزمنة مثل السكّري وضغط الدمّ وأمراض القلب وغيرها. ولا يخفى أيضا ما يُشاعُ عن تأجيل إجراء عمليات جراحيّة بعدد من المؤسّسات العموميّة للصحّة جرّاء نقص فادح في مواد التخدير وعدد من الأدوية الضروريّة لأقسام الإنعاش

والجدير بالذكر أنّ أزمة الصيدلية المركزية انعكست أيضا على الشركة التونسية للصناعات الصيدلية (سيفات)، فقد بدت هذه المؤسّسة بدورها عاجزة عن اقتناء الموادّ الأساسيّة لتصنيع الأدوية، نظرا إلى أنّ الصيدليّة المركزيّة تمتلك ما يُناهز 66 بالمائة من رأسمالها. وهو ما يعني أنّ النقص في الأدوية سيشمل كذلك ما يُصنّع عادة في تونس.

الفساد زاد الطين بلّة!

أمام صيحة الفزع التي أطلقها عدد من منظوري الصيدليّة المركزيّة، تحرّك وزير الصحّة على أكثر من صعيد، مُحاولا توزيع مسؤوليّة الأخطار المحدقة بالقطاع الدوائي. في هذا المضمار جاءت قراراته المنبثقة عن زيارة تفقّديّة أدّاها إلى المخزن المركزي للأدوية التابع للوزارة. فقد أذن بفتح ثلاثة تحقيقات في شبهات فساد يخصّ أحدها الصيدلية المركزيّة، وهو ما فُهم منه محاولة الضغط على المؤسّسة الدوائية الوطنيّة بهدف تحديد خياراتها للأزمة الراهنة. عماد الحمامي ذكر، في تصريح لإذاعة «موزاييك»، أنّه اكتشف وجود أدوية منتهية الصلاحية أتلِفت لكن المحاضر كانت مغايرة لذلك، فضلا عن وجود أدوية ذات قيمة جسيمة لم تتلف بعد، معتبرًا ذلك دليلا على عدم قيام الصيدلية المركزية بالتعديل.

في السياق ذاته صرّح وزير الصحّة بأنّه وجد في المخزن المذكور كميّة كبرى من الأدوية مثبّتة عليها ملصقات السعر «vignettes»، في حين يُفترض ألاّ تكون تلك الأدوية مُسعّرة باعتبارها متأتية من الصيدليّة المركزيّة وموجّهة إلى هياكل الصحّة الأساسيّة. وهو ما اعتبره «إخلالا كبيرا جدّا وشبهة تكاد تُؤكد وجود مشكلة فساد لأنّ هذا الدواء يُمكن أن يُهرّب قصد بيعه للصيدليّات الخاصة»

يؤكّد ما كشفه وزير الصحّة إذن حقيقة وجود فساد ينخر قطاع الأدوية في تونس. وممّا يُبرهن على ذلك أيضا أنّ الأجهزة الأمنية والقمرقية ضبطت، في مناسبات عدّة، شبكات لتهريب شحنات من الأدوية نحو الجار الليبي. ومع ذلك فإنّه من الخطورة أن تُوظّف تلك القضايا رغم أهميّتها في تعويم القضيّة الأهمّ اليوم وهي المتعلّقة بالتآكل الشديد للمخزون الدوائي الوطني، لاسيما أنّ الأدوية تحمل رموزا وأرقاما تُتيح بيُسر تتبّع الجهات الضالعة في سرقتها وتهريبها أو بيعها في مسالك موازية.

والواضح عمومًا أنّ موظفي الصيدليّة المركزيّة ونقابتهم  أعطوا، هذه الأيّام، المثل في الدفاع عن ضرورة إعادة التوازن المفقود إلى هذا المرفق العمومي الحيوي. فهم لم يُمارسوا سياسة «أنا ومن بعدي الطوفان» مثلما تفعل نقابات عامّة في قطاعات أخرى معلومة. هؤلاء لم ينفّذوا إضرابًا واحدا عن العمل منذ الثورة، حسبما شهدت نقابتهم، بل استصرخوا وزارة الصحّة ورئاسة الحكومة أن يحفظا الأمن الدوائي التونسي المهدّد وأن ينقذا الصيدليّة المركزية من إشكال أوقعها فيه الصندوق الوطني للتأمين على المرض والمؤسّسات العموميّة للصحّة.

وإجمالا فإنّ تونس التي كانت تغطّي نصف احتياجاتها الدوائيّة، بل وتفخر ذات زمن بتصدير العديد من أصناف الأدوية الجنيسة Médicaments génériques، أضحى مخزونها اليوم من بعض الأدوية الحيويّة يُقارب الصفر أو يكاد. ورغم أنّ المسؤوليّة الأولى والأساسيّة مُلقاة في هذا المضمار على عاتق المؤسّسات العموميّة، فإنّه لا غرابة أن تكون هناك يد لبعض لوبيّات صناعة الأدوية في تونس والخارج في تعميق الأزمة الراهنة، خدمة لمصالحها على حساب المواطن التونسي الذي قد يُمسي بلا دواء


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING