الشارع المغاربي – "جماليّة التجربة الخزفيّة التونسيّة المعاصرة"... بقلم د. مبروكة بوهودي

“جماليّة التجربة الخزفيّة التونسيّة المعاصرة”… بقلم د. مبروكة بوهودي

قسم الأخبار

10 أبريل، 2018

الشارع المغاربي – خاص – د. مبروكة بوهودي: باحثة تشكيليّة في علوم وتقنيّات الفنون

مهما تنوّعت الفنون البصريّة في خطابها ومحتواها عبر العصور، فقد احتفظت بعلاقة وثيقة بفنّ الخزف الذي شغل العديد من الخزافين التونسيين، وقد وجدوا فيه ما يحتضن الذاكرة والرؤى، وما يوفر لهم في نفس الوقت مفردات بصريّة ذات إمكانات تعبيريّة وجماليّة تساهم في تأليف أعمالهم الفنيّة. ونظرا للتطور الحاصل في الحركة التشكيليّة الخزفيّة التونسيّة المعاصرة وما شهدته من تحوّلات على صعيد البنية والشكل والتقنية والمضمون، فإن فنّ الخزف قد انعطف من حيث التكوين عن مساره الذي تمتد جذوره في عمق التاريخ. وهو ما أدّى إلى ظهور العديد من الأساليب الفنيّة بما يتماشى مع الاتجاهات الفنيّة العالميّة وخصوصا التجريديّة منها. ومن هنا ربّما يكون الخزف التونسي المعاصر قد تجاوز جانبه الوظيفي بهدف إعطاء قيمة أكبر للجانب الجمالي، لأنّ لكلّ فنّ خصائص مميّزة. وقد تكون هذه الخصائص مستمدة من مرجعيّات متعددة تفرضها البيئة والثقافة المجتمعيّة للبنية الباعثة له. ولما كان الوسط الحضاري التونسي حاوياً على محفزات فكريّة وإبداعية وتعبيريّة، أصبحت البيئة الطبيعيّة المحفز الأول والأساس في تجذير الماهيات المعرفيّة للفنان التونسي، مرورا بالموروث الحضاريّ وما يكتنزه من مفردات ثقافيّة بعمقها الفكريّ والتعبيري والجمالي، وانتهاءً بمقاربات الحداثة.

 

تعدّدت الاتجاهات الفنيّة الخزفيّة المعاصرة في أساليبها ومفاهيمها مما ترتب عليه تنوع في تناول الخامات والتقنيات والاتجاهات التشكيليّة والتعبيريّة. ونجد من بين هؤلاء الخزافين التونسيين تجربة الخزاف التونسي خالد بن سليمان (ولد سنة 1931) وقد اهتم بالرسم والخزف وتعدّ تجربته واحدة من بين أهم وأعرق التجارب الفنيّة في مجال الخزف في تونس، بل لعلّها الأكثر تأصّلا وتميّزا في المجال عينه. بحث هذا الفنان في الموروث المحليّ والإسلامي، واعتمده كمرجع فنّي لما يحتويه من جماليّة وروح صوفيّة، فتحوّلت الأفكار في اغلب أعماله الفنيّة إلى نماذج مجردة وأشكال هندسية تعتبر وسيطا فعالا لإدراك العالم المرئي. ويختزل هذا الفنان العالم بين أضلاع مثلث، مخروط، هرم… هذه الأشكال الهندسيّة التي يشكلها في حركات مختلفة، هي في الحقيقة أشكال مجرّدة لمعاني مجردة.

وتكتسب هذه الأشكال في الفن الإسلاميّ صفة رمزيّة فيتحوّل الشكل إلى رمز وتتحوّل اللغة إلى لغة رمزيّة، فلا قول ولا تصريح، إنّما إشارة وتلميح. وبالتّالي يتّضح لنا في أعماله الخزفيّة العلاقة التلازميّة بين الفنان والموروث الحضاري المحلي ذو الخصوصيّة العربيّة الإسلاميّة، وتأثره خاصة بالخزفيّات المحملة بالموروث الشعبي، ويقدّمها بشكل إبداعات معاصرة.

رغم التحوّلات المذهلة للخامات المتعددة في رؤية هذا الخزاف التونسي، فإنه قد سطر التعبير الوجودي للكتابة، وخطه للتعبير الصوفيّ، أو بالأحرى عبر الطريقة الاحتفالية بالكون لدى الصوفي، وهو يردّد في بعض من أعماله الخزفيّة كلمة “يا لطيف يا لطيف يا لطيف”، حيث لا يمكن المرور نحوها دون بدأ الترديد، والالتفاف دائرياً حول العمل الفني، حتى الوصول إلى كلمة “هو”، الممزوجة في تراتيل الكتابة على قطع الخزف وما تقدمه من دلالة للهتاف الصوفي.

نلاحظ مدى الأثر الذي تركه فيه المخزُون الجمعي من علامات ورموز، صاغه لنا الفنان بطريقته الخاصة عن طريق الخيال والتخيّل، خاصة من خلال استعماله للقيمة الضوئيّة الأسود والأبيض، وهو ما يعكس حضور المعنى المتسامي مع الفلسفة الروحيّة للإرث الإنساني. ويلتصق مفهوم الرّؤية بالعين التي تنظر وتحسّ، فتعود كل هذه الأحاسيس إلى الفنان الذي يستدعي الواقع المحسُوس بحواسّنا وخاصة بحاسّة الرّؤية التي تتميز بإشراقاتها، وآمالها التي تؤجّج الشطحات الرّوحانيّة المتمثلة في المعاني المكتوبة على الأطباق والصّحون الصغيرة والمسلات الاسطوانيّة التي ما تلبث أن تحمل أيضا اسم الجلالة “هو”. ولعلّ في هذه العلامات تعبير عن حالة من التوحدّ بين مخيلة الخزاف الإبداعيّة وبين روح الذاكرة الجماعيّة. وقد نلمسها من “شدة الغرام وعشق الرّوح” على حدّ قول جلال الدّين الرّومي.

هذه التجربة الفنية الخزفيّة المتأصلة في تراثها، هي في الحقيقة تجسيد متعالي من الفنان، ويعدّ منبعاً لكل حضارة حقيقيّة وجوهرها العميق، فهي تأخذ طريقها دائما نحو الانطلاق وتجد منافذ لها للتعبير عن فظاءاتها الخطابيّة سواء كانت جماليّة، دينيّة، فكرية وفنيّة بكافة ميادينها. لذا كان المقدس دائما مركزا فعالا لأكثر نشاطاته وهو يُعتبر قدرة على التعبير عن الروح والخبرة بالمطلق و ترجمة لجمالياته.

استثمر خالد بن سليمان لخبرته الطويلة في مجال الخزف للخروج بهذا المنجز الإبداعي إذ من خلال توظيفه لعناصر العمل ككل من حيث الإنشاء واللون والخطوط والمفردات، والموضوعة التعبيريّة، التي استقاها من جراء المزاوجة ما بين التقاليد العريقة للخزافين اليابانيين1 والموروث الحضاري المحلي والإسلامي. “فالشكل أو الصورة تكون بمثابة العناصر التي تضفي النظام أو الترتيب على أجزاء العمل الفني الخزفيّ، والتي تنتظم وفق مخيلة الفنان الخزاف الناتجة عن الخبرة المتراكمة، والتكوين المهذب لخاصيّة لديه”2. كما أن العاملين الديني  والتاريخي حبكا للظهور بقيمة تعبيريّة فلسفية جسدها الفنان من خلال التقنية أولا واللون ثانيا والاختيار الدقيق لحجم المحامل المتنوعة والنابع عن تأمل فلسفي للمفردات المكونة للعمل الفني والتي اقتصرت في الأساس على لفظ الجلالة والتقسيمات الخطيّة المقصودة للسطح الخزفيّ، إذ أن للخطوط والأشكال والألوان التي قسمت سطح العمل لها دلالات مختلفة، فمثلا الخطوط الأفقية تمنح الإحساس بالراحة واتساع الفضاء، أما الخطوط العمودية فتومئ بالعلو أو ما هو مرتبط بالعالم الإلهي والروحي. وبالتالي وظف الفنان المعتقد الديني ما بين حقبتين مختلفتين زمانيّا لإخراجه ضمن بيئة الأعمال الفنيّة المعاصرة وهو بذلك يكون قد وثق عن طريق الخطوط اللينة والمنحنية والمساحات اللونية والحروفيّات والانسجام ما بين الفضاءات ثلاثة قراءات لكل تاريخ الإنسانيّة.

فضلا عن ذلك، لم يكن الفنان التونسي محمد اليانقي بمنأى عن التجارب الخزفيّة التونسيّة المعاصرة، بل مثّل جزءا لا يتجزأ من هذه الممارسة الفنيّة، وما تكتنزه إبداعاته من تنوعات في مجال الرسم والخط العربي. واهتم أيضا بمسألة الهويّة العربيّة من خلال تجسيده لجماليّة الكتابة، واسترجاعه للموروث الثقافيّ الحضاريّ المحليّ التونسيّ وما يتضمنه من تنوع لعناصره الثقافيّة والحضارية.

تميّزت الأعمال الخزفيّة للفنان محمد اليانقي بقيمتها الجماليّة، التقنية والفكريّة، نظرا لتجذرها العميق في الاكتشاف والتجريب. وكان ولم يزل هذا الفنان يحاول اقتراح أنماط وأساليب من الصياغات الفنية بما يسمح له بالعثور على مفردته التي يستطيع بها وعبر أشكاله الفنية أن يكون قادرا على تكريس هويته أولا، ومن ثم مفردات حالات التأثير والتأثر من الطبيعة الخامة ومظاهرها التي كرست خصوصيّة ومحليّة الخزف التونسي المعاصر.

عندما نشاهد لوحاته الخزفيّة، نلاحظ إتقان الفنان لمادة الطين وذلك من خلال استعمال مهارته الأدائية بما يخدم عملية عرض أو تقديم المضمون أو الفكرة، فضلا عن استغلاله لجميع العناصر التشكيليّة كالخط واللون والملمس… وعندما يستخدم هذا الفنان الأكاسيد المعدنيّة أو الصبغات الملونة، يراعي في نفس الوقت درجات التلوين، ونقصد بذلك تركيزه على اعتماد اللون الواحد من خلال الدرجات المتفاوتة طبقا لنسبة الماء في الأكسيد أو الصبغة الملونة، ويستعمل كذلك التحكم في الضغط القوي بالفرشاة والذي يعطي في حد ذاته الدرجة السميكة من اللون، بالإضافة إلى سرعة الأداء.

إنّ المتأمل في تجريداته الخزفيّة التي تحمل الحروفيّات، يدرك أنها تفصح عن خطاب بصري متخيل، يغري المشاهد بهندسة التكوين وطبيعة الألوان الصارخة فيه. كما أن المساحة التي تبديها الأنساق الصوريّة هنا تندرج ضمن جذور تميل للبساطة والعفويّة، ولا تلزمنا بالتغريب والغموض بلوازمها البنائيّة. فهي في الحقيقة كما يقول الدكتور فاتح بن عامر: “مجسّمات خطيّة ماثلة في الفضاء وساكنة فيه، يقوم الخطّ فيها بدور العنصر الزخرفيّ في نفس الوقت(…) تتشكل الحروف في تسابق وتشابك وتلاحم في احتواء وتلاحق، يزيدها النتوء بروزا والقصّ والاقتطاع ظهورا3. ولم یكتف الفنان محمد اليانقي بمسألة البناء الكتلي أو مزج الحرف ضمن عجینة الطین المحروق والمزجج، ولكنه یھتم كذلك بإثراء المشھد البصري العام لكافة المسطحات المؤلفة لأعماله من خلال معالجة الملامس الناتئة والغائرة، والتي تساهم في إضفاء جمالیّة على مسطحات القطع الخزفیّة المتمیزة، وقد نجد من خلالھا تباینات بین مسطح وآخر من حیث اللون أو الملمس أو طریقة المعالجة في سعي منه لتحقیق خصوصیة تسھم في منح كل قطعة من القطع الخزفیة دلالاتھا الفلسفیة ومضامینھا الفكریة قادرة على مخاطبة ذھنیة المشاھد.

وممّا لا شك فيه أن الخزف التونسي المعاصر قد تعددت أساليبه وتقنياته، وغدت نتاجاته تتوسم كل ما هو تجريدي خالص تتجاوز المحاكاة. وتتوسم تجربة اليانقي البعد الروحي والوجداني، فهي في الحقيقة ممارسة ذاتيّة محمولة بضرورة داخليّة وطاقة روحيّة مرتبطة بمرجعيّات وتأثيرات دينية وتوجهات إسلامية، وهي مكونات وموضوعات تبحث في الماهيات والوصول إلى خطاب بصري جمالي يتسم باللامحدوديّة.

وتعدّ تجربة الخزاف التونسي الهاشمي الجمل، من التجارب الخزفيّة الرائدة في تونس وخارجها. واستلهم الفنان في أعماله الفنية من التراث البربريّ والعربيّ، حيث نجد أن أغلبية عناصره التشكيلية التي استخدمت في رسم المسطحات الخزفيّة، هي في الحقيقة عناصر مستوحاة من العادات والاحتفالات الشعبيّة والطقوس الدينية، وجسدها على الصفيحة الطينيّة في شكل علامات ورموز. وتعامل هذا الفنان مع العنصر المتشكل كوحدة تصميميّة تشغل فراغ المسطحات، مراعيا في ذلك نسبة الأحجام، تدرج الاكاسيد و تفاعل المواد.

كما نجد أن هذه الرموز الشعبيّة هي نتاج مؤسس من الانثروبولوجيا الحضاريّة لاسيما وأنها تنتمي في مرجعياتها إلى النتاج الروحي والمادي للفنان، معبرة في محتواها عن وعي جمعي يغذي سلوكيات مجتمعية في زمانها ومكانها. لذا فانه قد استعمل عدة طرق لإظهار رموز معينة ومنها الرموز المحليّة، حيث نرى انه اعتمد رموزا استعملت في الماضي، واستحدث علامات جسدت في الحاضر للدلالة عن التراث والحالة النفسيّة في بعض الأحيان.

جمع الهاشمي الجمل بين الرؤية والأسلوب، في منحوتاته ولوحاته الخزفيّة، التي تشكل ثنائيات القديم والجديد. خزفيات فيها من الطاقة والثراء ما يدفع المادة الطينيّة اللينة إلى معانقة الصلابة والديمومة. فيخضع هذا الخزاف لقدراته وإبداعاته لتتكامل وتتفاعل وفق رؤية فنيّة معاصرة ومواكبة للتطورات الحديثة.

ويتعامل هذا الخزاف مع طينته اللينة بأسلوب متحرّر وخال من التكرار والتقليد، فيعجنها لتتشكل إلى صفيحة ملساء وناعمة، يظهر من خلالها الصفات التعبيريّة لسطح العمل الخزفي، ويعمل كذلك على صقله أو تركه خشنا نكاد نلمس فيه الخصائص الفنيّة للخامة (الطين)، فيعطي إيحاءا تعبيريا بملمسه الخشن يرتئيه هذا الخزاف في أعماله كسمة مميزة لتحديد مقولته الفنيّة.

أما فيما يخص اعتماده للألوان، فإنه قد اهتم بطريقتين الأولى إيحائيّة والثانية كيميائيّة. فمسألة إدراكنا للون وتعبيراته في أعمال الهاشمي الجمل الخزفيّة هي في الحقيقة استجابات شرطيّة وذهنيّة راسخة في مخيّلته وبصيرته التي تثيرها القيم الاجتماعيّة والطبيعيّة الجغرافيّة والمعتقد الديني التي ورثها ونشأ عليها. كما أننا نلاحظ الانسجام والتلاؤم مابين السطح الزجاجي والشكل التعبيري للعمل الخزفي، فانتقائه للألوان المناسبة وتلاعبه بتدريجاتها والتضاد المدروس بينها، يحقق جاذبيّة وديناميكيّة لعمله الخزفي.

أما تجربة الفنانة التونسيّة سارة بن عطيّة (1977) فهي تعدّ واحدة من بين أهمّ التجارب الفنية المُعاصرة في مجال الخزف في تونس، بل لعلّها الأكثر ثراء وتميّزا في المجال عينه، كيف لا وهي التي بحثت في التركيبة الكيميائيّة للطين ولازالت تبحث في هذا المجال نظريّاً وتطبيقيّاً، وهو ما ساهم في فرادة تجربتها وتميّز فعلها التشكيلي من خلال تبنيها رُؤية جماليّة وفلسفيّة خاصة، تتجاذبها إشكاليّات وجوديّة وكونيّة، فضلاً عن ذلك فقد عنونت الفنانة كلّ عمل خزفي قائم بذاته، بعنوان خاصّ به، يُعبّر ربما عن الرؤية الذاتيّة والتصوّر التشكيليّ لأعمالها الخزفيّة. ومن بين هذه العناوين الفنيّة نجد: الإبحار، إيقاع “زينيثي”، لُعبة الموت، الميزان، التوازن، الولادة… هي في الحقيقة أسماء إيحائيّة تستقيم بها الأعمال الخزفيّة كتجربة ذاتية نكتشف من خلالها صراع الخزافة مع عجينتها الطينيّة، وداخل هذا الصراع الفكري والحسيّ تبرز خصوصيّة المبدعة التعبيريّة في إطار نظرة جماليّة ذاتيّة تنطلق في تشكلّها من “تفكير ماديّ” (اليدين)، حيث تتصارع المادة بين أناملها لكن سرعان ما تطوّعها وفق رغباتها الحسيّة والذهنيّة على حدّ السواء.

تعتمد سارة بن عطية في أغلب أعمالها الخزفية سواء كانت منحوتات أو لوحات حائطيّة، على تقنيات مختلفة مثل تقنية التمليس، الصفائح، الحبال… واتجه أسلوبها الفني إلى التشكيل البنائي باستخدام الشريحة الخزفيّة كطريقة تعبيريّه، لأنها تعد من الأشكال التي لها قيمة فنيّة وتنطوي على بلاغة التعبير وتحقيق وحدة الشكل والمضمون. وتتضح قوة تعاملها مع مادة الطين في تجسيد الفراغ وملئ الفضاء المحيط وقدرتها التشكيلية على تحقيق المفهوم البنائي والجمالي من خلال المداخل الفكريّة والتقنيّة في التشكيل كوسيط بنائي في حالاتها المتنوعة المستوية، المقوسة، الدائريّة والنصف دائريّة، المتكررة، المتناظرة، المحدّدة، والمنشئة للفراغ والمتراكبة، فهي “العنصر البنائي الذي مورست عليه أفعال تنسيقيّة وترتيبية وتركيبية، فتكرر مكوّنا لتراكيب قوامها تنظيم هندسي حسب توزيعات واتجاهات معينة”4. وتهتم بالوسيط التعبيري في منجزها الفني من خلال اللون، الملمس، الحركة والسكون.

وقد سعت سارة بن عطية لتطوير وسائل وتقنيات إنتاج أشكال منحوتاتها الفخارية باعتماد تقنية التلميع بالدلك أو غلق المسامات  الفخارية باستخدام محاليل طينيّة ملونة وإضافة بعض المركبات الصاهرة لها، واللون في الخزف هو التقنية الرئيسة في إحداث لمسة جماليّة على السطح الخزفي وهذا ما نلاحظه في جميع التجارب الخزفيّة التونسيّة المعاصرة.

قدمت لنا هذه الفنانة الكثير ولا تزال تغدق علينا بسخاء من خلال تنظيمها لدورات تكوينيّة هامة، أحاطتنا خلالها بالعديد من التقنيّات الخزفيّة المعاصرة من أهمّها: تقنية الراكو والبريق المعدني والأكاسيد اللونيّة. كما أن تقنية “الراكو” في حدّ ذاتها هي تقنية تقوم أساسا على الحرق المؤكسد والاختزال الأوّلي داخل الفرن، “وهو فن المتعة أو الاستمتاع وهو أحد أساليب الخزف المبتكرة والمطورة في اليابان خلال الربع الأخير من القرن السادس عشر، ويحمل خصائص طقوس دينيّة مقدسة وتمثل نماذجه الخزفيّة على وفق هذه التقنية قمة الجمال الرّوحاني والصّافي لهذه الحضارة”5. وهو كذلك نتيجة لآلية تجريبيّة، إذ تعتمد هذه الفنانة فعل التجريب من مواد وآليات تنفيذ، وان ما دأبت إليه الخزافة المعاصرة هو تفعيل فعل التجريب والناجم عن تكرار التجربة وملاحظتها مراراً وتكراراً كحاجة ملزمة للفنانة دائما في حوارها مع التقنية بإيقاعاتها وقوانينها كافة. فكل مادة تتطلب جهد الفنان في ترويضها وإخضاعها لمختلف التقنيات المكتسبة والمستنبطة بفضل الخبرة والمهارة التي تحيلها إلى مادة طيّعة تناسب أسلوب المنجز التشكيلي وشكله ومضمونه، إذ تنتقي الفنانة المواد التي تستخدمها لا لسهولة العمل بها، بل بالأحرى لأنها مواد يجب أن تعامل معاملة خاصة ولأنها تعطي أثرا معيناً.

تُعاين هذه الفنانة مختلف الاعتبارات الجماليّة للمواد الكيميائيّة وقطع الفخار بما في ذلك: تنسيق الأجهزة التكوينية، وتغيير التحوّل من حيث الشكل والصور، واختيار الحجم، وما إلى ذلك. وقد كشفت لنا هذه الفنانة كذلك التقنيات المختلفة التي تستعملها في معظم أعمالها الخزفيّة، مثل درجات الخلطات اللونية والترابيّة والأكاسيد وتراكيبها الكيميائيّة، من طلاءات ذهبيّة وفضيّة والبلاتينيّة.

إنّ المادة الطينيّة كبيرة بقيمتها التعبيريّة، خاصة عندما نتأمل في المنحوتات الخزفية للفنانة سارّة بن عطية، نلاحظ ملامستها للمفاهيم الفلسفيّة والكونيّة، من خلال اعتمادها على مجسمات خزفيّة لكائنات بشريّة مجردة، ترمز بها إلى الحب والتلاقي والولادة والحياة… وتشير بها الفنانة كذلك إلى طريقة الإحساس وفهم العالم بأكمله، لأن “أي أسلوب وأيّة فلسفة في الحياة لا بدّ أن يكونا مبنيين على لون خاصّ من الاعتقاد والنظر والتقييم للوجود، وعلى لون معين من التفسير والتحليل(…) ويصطلح عادة على هذا الأساس وتلك الخلفيّة باسم الرؤية الكونيّة”6. وبالتالي يمثل الإطار الذي يقوم من خلاله كل فنان برؤية، تفسر العالم المحيط والتفاعل معه ومع مكوناته. فهذه الأشكال الكرويّة والمجسمات الطينيّة تكشف لنا دراسة للتكوين الجمالي التعبيري والواقعيّ. ويتوقف البناء الوصفي في بنية العمل الفني التشكيلي، ومنه هذه المنحوتات الخزفيّة، على رُؤية الفنانة وكيفيّة استلهامها لأفكارها وموضوعاتها والتعبير عنها بشكل مألوف أو غير مألوف فهذا العمل قد يقدّم لنا تأثيرات مختلفة، يجعلنا نقف، ننظر، نتأمل ثم ننفعل تجاه الموضوع الذي تطرحه الفنانة بشكل مباشر وصريح، وندرك حينها قضية الحياة والموت، وربما استرسلنا التأمل في تعدد ألوان الأطيان والمجسمات الصغيرة لندلف إلى فكرة تعدد المصائر في العالم الآخر.

لا يزال فن الخزف المعاصر، محلّ اهتمام متزايد للفنانين التونسيين، حيث سعوا جاهدين إلى تقديم إضافات تقنية لهذا الفن، مستفيدين من تطور هذا المجال عالميّا. وشهد هذا المجال في تونس خلال العشر سنوات الأخيرة نهضة كبيرة، نظرا لما يشهده من اهتمام متزايد من قبل الفنانين التشكيليين التونسيين من خلال الأنشطة الفنيّة والمعارض، باعتباره فنا متكاملا ومستقلا بذاته أكثر من كونه مجرد تقنيات حرفيّة.

__________________________

بقلم د.مبروكة بوهودي – باحثة تشكيليّة في علوم وتقنيّات الفنون

 الهوامش:

1- علي اللواتي، كاتلوغ لخالد بن سليمان، المركز الثقافي الدولي بالحمامات، مارس 1996.

2- لانجر سوزان، فلسفة الفن عند سوزان لانجر، دار الشؤون الثقافيّة العامة، بغداد، 2000، ص 19.

3- فاتح بن عامر، مقال صدر عن مجلة الحياة الثقافية، العدد 230، أفريل 2012، ص 108.

4- الحبيب بيده، المفردة التشكيلية، منشورات الفن الحي بتونس، البلفيدير 1988.

5- علي صالح البدري، التقنيات العلمية لفن الخزف : التزجيج والتلوين، دار الكندي، عمان، الأردن، 2000، ص 82.

6- مرتضى مطهري، الرؤية الكونية التوحيدية، مركز الإعلام الإسلامي، قم، إيران، ص 8، 1989.

المراجع:

– علي اللواتي، كاتلوغ لخالد بن سليمان، المركز الثقافي الدولي بالحمامات، مارس 1996.

– فاتح بن عامر، مقال صدر عن مجلة الحياة الثقافية، العدد 230، أفريل 2012.

– لانجر سوزان، فلسفة الفنّ عند سوزان لانجر، دار الشؤون الثقافيّة العامة، بغداد، 2000.

– الحبيب بيده، المفردة التشكيلية، منشورات الفن الحي بتونس، البلفيدير 1988.

– علي صالح البدري، التقنيات العلمية لفن الخزف : التزجيج والتلوين، دار الكندي، عمان الأردن، 2000.

– مرتضى مطهري، الرؤية الكونية التوحيدية، مركز الإعلام الإسلامي، قم، إيران، 1989.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING