الشارع المغاربي – الدولة المغربية تستهدف تونس/ بقلم : معز زيّود

الدولة المغربية تستهدف تونس/ بقلم : معز زيّود

27 أبريل، 2018

الشارع المغاربي: وجّهت السلطات المغربيّة، الأسبوع الماضي، ضربة قاسية إلى تونس. فعلى الرغم من إدراكها صعوبة الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تمرّ بها بلادنا فإنّها أبت إلاّ أن تفرض ضرائب تصل إلى 50 بالمائة على أسعار الكرّاس التونسي المروّج في أسواقها. إجراء عقابي غريب ربّما لم يستشرف الأشقاء المغاربة أبعاده وانعكاساته التي لن تتوقّف على هذا القطاع الإنتاجي في تونس فحسب، بل قد تُسيء للعلاقات الوثيقة القائمة بين البلدين على أكثر من صعيد. فلنُشخّص هذا الاستهداف بسوابقه وخلفيّاته وتداعياته الوخيمة

معلوم أنّ للسلطات المغربيّة الحقّ في اتّخاذ قرارات سياديّة للحفاظ على تنافسيّة نسيجها الصناعي إزاء المنتجات الأجنبيّة المستوردة. أمّا أن تضرب صادرات تونس تحديدا من الكرّاس المدرسي وتفرض عليها «إتاوات» تتراوح نسبتها بين 31 و51 بالمائة من قيمتها دفعة واحدة، فإنّ ذلك يطرح أكثر من مجرّد استفهام. إجراء غير متوقّع جعل عمليّة استهداف الاقتصاد التونسي والآلاف من مواطن الشغل بوحدات الإنتاج تخرج، هذه المرّة، من السرّ إلى العلن

خطورة الإجراء المغربي!

قبل قرارها الأخير كانت السوق المغربيّة تستوعب كميّة لا تقلّ عن سبعة آلاف طن سنويًا من الكراس المدرسي التونسي، وفق ما أكّد المهنيّون. وهو ما يتجاوز بقليل ثلث ما تُصَنِّعه تونس من هذه المنتجات، لاسيّما أنّها كانت معفاةً من دفع الرسوم القمركيّة عملا باتفاقيات التبادل التجاري الثنائيّة والمغاربيّة و«اتّفاقيّة أغادير» التي تنصّ على «إعفاء كامل من الرسوم القمركيّة والرسوم والضرائب الأخرى ذات الأثر المماثل للسلع الصناعيّة المتبادلة بين الدول الأعضاء»، وهي تونس والمغرب ومصر والأردن. أمّا بعد إقدام المغرب على اتّخاذ هذا القرار الأحادي عبر فرض رسوم قمركيّة مفرطة على منتجات تونسيّة دون سواها، فإنّه من المتوقّع أن يفتقد الكرّاس التونسي قدرته التنافسيّة في السوق المغربيّة بالمقارنة مع منتجات مماثلة تستوردها المغرب من أسواق أجنبيّة أخرى.

الغرفة النقابية للطباعة والورق باتّحاد الأعراف لم تُخفِ خشيتها من أن تُفضي تلك الخطوة إلى منع صادرات تونس للمغرب من هذه المنتجات مستقبلا. وهو طبعا ما تُدركه السلطات المغربيّة إدراكًا كاملا، ممّا يعني أنّها قد اتّخذت قرارًا «مُغلّفًا» بقطع دابر الإنتاج التونسي من أسواقها. وهنا تحديدا تكمن خطورة قرارها غير المحسوب التداعيات اقتصاديّا وسياسيّا

لسنا هنا طبعا بصدد مطالبة الحكومة التونسيّة بوجوب المعاملة بالمثل، مثلما دعت الى ذلك النقابة المذكورة، لاسيّما أنّ المغرب تُوَجِّه العديد من منتجاتها إلى السوق التونسيّة. فمن شأن التصعيد الضرائبي المتبادل أن «يؤزّم» العلاقات بين البلدين على أكثر من صعيد. ومن ثمّة من الأهميّة تشخيص هذه التطوّرات فهمًا وتبصّرًا دونما تشنّج. وفي الأثناء على الدبلوماسيّة التونسيّة القيام بدورها المطلوب في البحث مع نظيرتها المغربيّة قصد التراجع عن هذا القرار الخطير، خاصّة أنّ تونس لم تتّخذ بعد قرارًا مُماثلا إزاء المنتجات المغربيّة بحكم التزامها بالاتفاقيّات المشتركة.

سوابق وإكراهات متبادلة

القول بأنّ استهداف المغرب الاقتصاد التونسي قد خرج هذه المرّة من الخفاء إلى العلن يعني أنّ هناك سوابق أخرى تندرج ضمن هذا الاستهداف العقابي. فمن المعلوم أنّ أسواق التجارة العالميّة، سواء في مجال الطاقة أو غيرها، لا تخضع للعاطفة أو لمقولات «التضامن» التي لا يلوكها سوى مسؤولي البلاد العربيّة نِفاقًا ومن دون أدنى مضمون. بهذا المنطق الربحي الصرف، اتّسم تعامل السلطات المغربيّة حيال النزيف الذي كابده قطاع إنتاج «الفسفاط» في تونس. فلا يخفى أنّه أمام عجز «شركة فسفاط قفصة» عن تلبية حاجات عملائها في العالم، من جرّاء الاعتصامات العشوائيّة المتناسلة بمنطقة الحوض المنجمي وتوقّف عجلة الإنتاج، توجّه العديد من هؤلاء الزبائن إلى المغرب الذي يُعدّ الأعلى إنتاجًا في هذا القطاع الاقتصادي الحيوي. وهو ما أدّى إلى خسارة الشركة التونسيّة الكبرى عددٍ من أسواقها وصفقاتها بسبب الشروط التي فرضتها المغرب من أجل إبرام عقود بيع طويلة المدى مع الحرفاء التقليديّين لتونس.

ومع ذلك بقيت هذه «الإجراءات الاحتكاريّة» طيّ الكتمان، ولا يعرفها إلاّ المطّلعين على ملف قطاع مناجم الفسفاط في البلدين. وبدلا من أن يقوم هذا القطاع الحيوي على التعاون والتآزر والتنسيق بين شركتي البلدين من أجل تقوية الفعل التفاوضي في الأسواق العالميّة بما من شأنه أن يُسهم في رفع الأسعار، فقد تحوّل التنافس إلى حربٍ ضروسٍ، قد تُذكّرنا برواية «الإخوة الأعداء» أو بمقتل هابيل ابن آدم على يد أخيه قابيل، لكنّ قابيل في قصّة الحال لم يمُتْ وقد ينجو من جراحه العميقة رغم شدّة ما عانى من الداخل قبل الخارج

ذكرنا هذا المثال للتأكيد على أنّ وراء الأكمّة ما وراءها. فعلى الرغم من أنّ التونسيّين مكتفون بأنفسهم ولم يسعوا بأيّ حال من الأحوال إلى تصدير ثورتهم، لا إلى دول الجوار ولا إلى غيرها، فإنّ المسار العسير غير المكتمل بعد لتحوّل تونس إلى ديمقراطيّة، هي الوحيدة في المنطقة العربيّة قاطبة إلى حدّ الآن، قد أحدث حالة ارتباك عامّة مخافة العدوى التي لم يخل بلد عربي من بعض إرهاصاتها. ومع ذلك من الأهميّة التأكيد أيضا على أنّ أبواب الجنّة أو النار غير مغلقة أو مشرعة على بلد دون سواه، بمعنى أنّه لا جدوى من محاولة تسيّد هذه الجهة على تلك. ومن ثمّة فإنّه لا إمكانيّة لإقامة علاقات سويّة على المدى المنظور أو البعيد بين تونس والمغرب مثلا إلاّ على أساس الاحترام المتبادل والتعاون الأفقي الكفيل وحده بتحقيق الحدّ الأدنى من توق شعوب المنطقة إلى الالتحام بقدر أكبر.

وبعيدا عن مقولات اللغة الخشبيّة والخطاب البروتوكولي، يكفي أنّ بلدان المنطقة تشترك في خضوعها لتهافت بعض القوى الغربيّة عليها مثل الولايات المتّحدة وحتّى فرنسا، باعتبارها لا تمتلك المقوّمات الماليّة والاقتصاديّة والتكنولوجيّة والعسكريّة التي تُتيح لها رفض إملاءات هذه الدول علنا

التعاون بدل الأضرار المتبادلة!

من المعلوم أنّ المغرب تُصدّر الكثير من منتوجاتها الصناعية الاستهلاكيّة إلى السوق التونسيّة. وبحكم تشابه النسيج الصناعي في البلدين، فإنّ للعديد من المنتجات المغربيّة نظائرها في تونس. ومع ذلك فإنّ الإحساس بأنّ الشعبين التونسي والمغربي ينتميان إلى فضاء رحبٍ واحد يفترض التعامل بروح الانتماء نفسها مع منتجات البلدين. وهو ما يحول دون إقدام أحد الجانبين على معاقبة منتجات الآخر، وإلاّ فإنّه سيتسبّب في إعادة إنتاج الممارسة ذاتها ضدّ بلده.

نُشير هنا، على سبيل المثال، إلى ما نجده مبثوثا في المساحات التجاريّة التونسيّة الكبرى من شموع الزينة المغربيّة المختلفة الألوان والأحجام وذات التصاميم الراقية، وما إليها من مواد الزينة والمنتجات المغربيّة الأخرى. فلا أتصوّر أنّ الإخوة المغاربة يعتقدون أنّ المصنّعين التونسيين غير قادرين على إنتاج مثيلتها. ورغم إقبال التونسيين حاليا على اقتناء تلك الشموع مثلا فإنّها قد لا تجد طريقها إلى الترويج في تونس مستقبلا في حال تضاعف ثمنها، بالمقارنة مع شموع صينيّة أو أوروبيّة أقلّ سعرًا.

ومع ذلك فإنّ من شأن أزمة فرض إتاوات مجحفة جديدة على الكرّاس التونسي في المغرب،  أنّ تدفع المصنّعين التونسيّين إلى البحث عن أسواق جديدة لمنتجاتهم. فبعد الكرّاس قد تَحرم السلطات المغربيّة شعبها من تذوّق التمور التونسيّة التي تُعدّ الأجود في العالم. وفي كلّ الأحوال فإنّ الأسواق الإفريقيّة ليست ببعيدة، كما أنّ شركة الخطوط التونسيّة قد أطلقت أجنحتها بعد نحو وجهات جديدة في تلك الآفاق التجاريّة السمراء الرحبة.

ولا ننسى مع ذلك أنّه على النخب السياسيّة التونسيّة، أمام الضغوط الأجنبيّة المماثلة سواء المغاربيّة أو العربيّة أو الغربيّة، أن تتوحّد من أجل خدمة المصالح العليا للدولة التونسيّة، وأن تتعالى خصوصا على انتماءاتها الحزبية وعلاقاتها الشخصيّة القويّة مع قيادات أنظمة دول أخرى لا تعمل إلاّ على فرض أجنداتها. فلئن كان المرزوقي أو الغنوشي أو قايد السبسي مثلا مدِينيْن للمغرب أو للجزائر أو قطر أو الإمارات أو تركيا بأفضال ما لاعتبارات تاريخيّة أو راهنة، فإن ذلك لا يعني ذلك إطلاقا أنّ من حقّهم إعلاء مصالح تلك الدول على المصلحة العليا للوطن التونسي الأوّل، مهما كانت الأسباب والحوافز والمبرّرات!.

انعكاسات سياسيّة وخيمة!

رغم كلّ ما يُقال عن وجود تضييق وضغوط على الحريّات العامّة في تونس، وفي مقدّمتها حريّة الرأي والتعبير والصحافة، فإنّه ينبغي أن نكون على وعي أيضا بأنّ واقع الحريّات في البلاد لا يُمكن بأيّ حال من الأحوال أن يُقارن مع ما هو عليه في أيّ بلد عربيّ آخر. والمقصود هنا أنّه على أنظمة دول المنطقة، وخصوصا الأقرب إلينا كالمغرب والجزائر وليبيا، أن تتبصّر معاني اكتساب الشعب التونسي حريّته وانعتاق نُخبه المختلفة من سيوف القمع والمحاصرة التي سُلطت عليه طويلا. ومثالا على ذلك فإنّه خلال المظاهرات الحاشدة للتونسيّين، أيّام الثورة، خرجت بعض المجموعات الموالية لجبهة «البوليزاريو» تحمل أعلام ما يُسمّى بـ«الجمهوريّة العربيّة الصحراويّة الديمقراطيّة» وتُنادي باستقلال الصحراء الغربيّة عن المغرب. والحقيقة أنّ التونسيّين، في غالبيّتهم، لم يحفلوا بذاك التحرّك لأنّهم يجهلون وجود هذا «الكيان» وربّما لم يسمعوا باسمه أصلا من جهة أولى، كما ترفض معظم نخبهم تقسيم المقسّم وتشتيت الجسد المغاربي المشتّت في حدّ ذاته من جهة أخرى.

وليس هذا طبعًا بتلميح إلى مقايضة سياسيّة إزاء إقدام السلطات المغربيّة على محاولة ضرب الاقتصاد التونسي، بل إشارة إلى ردّ فعل سياسي محتمل قد تخوضه بعض النخب التونسيّة من باب الدفاع عن مصالح تونس وممارسة الضغوط مقابل الضغوط. فالجميع يُدرك أنّ مسألة الصحراء والوحدة الترابيّة تُعدّ القضيّة الوطنيّة المغربيّة الأولى سواء في مواجهة «البوليزاريو» أو الجزائر باعتبارها الداعم الأوّل لها أو الجهات الأخرى الداعمة لـ«القضيّة الصحراويّة» في إسبانيا والاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة.

ولا يخفى كذلك، في ظلّ التصعيد السائد حاليًا بين المغرب والبوليزاريو على الحدود مع الجزائر، أنّه كان بالإمكان أن يقبل المغاربة بالطرح الجزائري القائم على ضرورة تحييد قضيّة الصحراء في عمليّة بناء الاتّحاد المغاربي، غير أنّ بنية الأولويات قد أدّت إلى ما يعتمل من صراع بين الجارين والشقيقين. فكان من نتائجه الوخيمة إغلاق الحدود بينهما منذ عقود، وهو ما أسهم في «تفقير» مناطق ومدن حدوديّة بحالها.

وبما أنّ تونس قد أضحت، بعد الثورة، ساحة رحبة لكلّ الحركات التحرّريّة المُضَيَّقِ عليها في بلدان الجوار، فإنّه لا غرابة أن يؤدّي الاستهداف المغربي المعلن للاقتصاد التونسي إلى بروز ردود فعل سياسيّة مضادّة، من شأنها أن تنحت في تونس موطئ قدم سياسي لجبهة «البوليزاريو». وهو ما لن يزيد إلا في تعكير صفو العلاقات الثنائيّة وفي إحلال الصراع بدلا من التعاون والتكامل، لاسيما أنّه لم تعُد لتونس معارضة في الخارج يُمكن أن تخشى مناوراتها

سؤال المستقبل

السؤال المطروح إذن يتمثلّ في الآتي: لماذا تسعى السلطات المغربيّة إلى استهداف تونس واقتصادها؟ وهل يعني ذلك أنّها على استعداد لفتح جبهة سياسيّة جديدة ضدّها؟

من المؤكّد أنّ الرباط تعلم حقّ العلم والمعرفة أنّ التونسيين كانوا ومازالوا من أوّل المناصرين للوحدة الترابيّة للمغرب وأكثر المُحبّين لإخْوتهم المغاربة مثل الجزائريين والليبيين، فهل تستوعب التداعيات المحتملة لخطوتها الخطرة؟

هكذا يبدو إذن أنّه ليس من مصلحة السلطات المغربيّة أن تكون معولا لجهات غربيّة تحاول استهداف تونس وتجربتها الناشئة ووضعيّتها الدقيقة، وإلاّ فإنّها ستمضي في دفع النخب الوطنيّة التونسيّة دفعًا إلى التحوّل من «أصدقاء مخلصين إلى أعداء لدودين»


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING