الشارع المغاربي – مذكرات الهادي البكوش: كتاب لـم يشف الغليل حول «ليلة التحوّل» / بقلم: أحمد الهرقام

مذكرات الهادي البكوش: كتاب لـم يشف الغليل حول «ليلة التحوّل» / بقلم: أحمد الهرقام

18 مايو، 2018

الشارع المغاربي: من الفوائد القليلة التي أنتجتها الأحداث التي هزّت تونس منذ 2011، هذا الانفجار الهائل في القول بالقلم واللسان، وكان من الطبيعي أن تشهد البلاد بعد عقود من الكبت في التعبير والحركة، إقبالا شديدا من الناس على حوارات التلفزيون وتواصلاتفايسبوكوغيرها من وسائل الاتصال الحديثة.. وقد اتسمت السنوات المتتالية التي عشناها بنوع من الفلتان اللفظي والنفسي الذي يخلط بين الحرية والتجاوز، وبين القول واللّغو، وبين الحوار والضجيج الأهوج.. ولكن من بين هذا الركام الزائل، ازدهرت حركة النشر ببلادنا في جميع المجالات تقريبا، الأدبية منها والتاريخية والسياسية كذلك. وأخذ كثير من السياسيين القدامى والمخضرمين وأساتذة الجامعات نصيبهم في الإدلاء بشهاداتهم حول تجاربهم وعلاقاتهم في محاولة لـقول شيء ماأو إنتاج وسيلة للتبرير والتفصي أو التشفّي، وفي بعض الأحيان رغبة منهم في الإفادة وإنارة الرأي العام.

وقد صدر في هذا الإطار كتاب مذكرات للأستاذ الهادي البكوشبكل صراحةفي أكثر من خمسمائة صفحة باللغة الفرنسية تناول فيها الرجل حياته الحافلة بالأحداث والمسؤوليات الحزبية والحكومية منذ خمسينات القرن الماضي إلى اليوم، مُفصّلا كلّ مراحل مسيرته المهنية والنضالية في مختلف العهود منذ الاستقلال. وبقدر ما كان واضحا تفصيل المسيرة الطويلة للكاتب وتقلّبه في شتّى المناصب والمسؤوليات، يظل القارئ يبحث عن جدوى السرد المطول لـالسيرة الذاتيةبدون تحليل أو تعميق لمختلف الأزمات التي هزّت تونس منذ الاستقلال، وكأنّ ذكر الأشخاص والأحداث التي أتى عليها الكاتب ليست عنده أكثر من صورة عن مدى تطوّره شخصيًا من مرحلة إلى أخرى دون أن يكون شاهدا متأملا متفكّرا في أزمات نظام الحكم ودون أن تتضمّن رؤياه قراءة متأنّية لصراع الفرقاء والإخوة الأعداء في نظام بورقيبة من أجل الخلافة، ودون تحديد مسؤوليّة كلّ فريق في الانهيار البطيء الذي وصل إلى مداه سنة 1987

فلم يتوقف الأستاذ البكوش طويلا عند الزلزال الكبير الذي ضرب صرح النظام في العمق سنة 6970 ولم يحلّل خفايا القرارات وبواعث القوى التي حملت الزعيم بورقيبة على التراجع عنالاشتراكية، ودفعته إلى التضحية بأجيال كاملة في صفوف حزبه ونتائج ذلك على تدمير نظامه بأسره

ولم يتبيّن القارئ على مرّ الفصول سوى أنّ الكاتب خرج من الأزمة تلو الأخرى في حياته بفضل رفع المظلمة عنه من قبل نفس القوى التي أودت به إلى السجن والمحاكمةوكيف فاز من جديد برضاء الزعيم الأكبر وعاد سالما إلى دواليب الدولة، ولم نفهم من خلال السياق هل أنّ الدولة هي التي تغيّرت أم أن المعني بالأمر هو الذي تغيّر!؟. والواقع أنّ الكاتب لم يعرف جيّدا أو لم يفصح عمدا عن خفايا الصراعات والأدوار التي قامت بها مراكز النفوذ داخليا وخارجيا ومدى تأثيرها في القرار البورقيبي بما في ذلك دور وسيلة بن عمار ومن معها في هذا الشأن.

والحقيقة أنّ انصراف الكاتب إلى الحديث حصرًا عن مسيرته الشخصيّة وعلاقاته المباشرة تلميحًا أحيانا أو تصريحًا، يكشف بجلاء أنّ أعداء النظام الحقيقيين والذين أودوا به إلى السقوط المدوّي سنة 1987 هم رجال النظام أنفسهم. فالصراع بينهم كان شديدا والأحقاد مستحكمة، والسباق على رضاء الزعيم والفوز بمزاياه يأخذ الأولويّة عن مشاكل ومصالح البلاد والعباد

ولابدّ من القول إنّه من خلال بعض الصفحات، التي لا تخلو من عمق وصدق،في تحليل بعض الشخصيات والأدوار مثلما جاء بشأن الطاهر بلخوجة والهادي نويرة والقذافي وبوتفليقة وغيرهم،يظل القارئ في حيرة من أمره ودون جواب شاف،وتتساءل لماذا كلّ هذا الحقد بين أبناء النظامالواحد،وبين رفاق الحزب الواحد؟

وممّا يلفت الانتباه أنّ أجمل ما جاء في الكتابفي رأييهو محاولة توفيق مراحل الأزمة بين اتّحاد الشغل والحزب الدستوري آنذاك، وتحليل جذور الصراع بين الرئيس بورقيبة والحبيب عاشور، والتلميح لأهداف الاتحاد في السعي إلى تقويض نظام الحكم خدمة للطموحات الشخصية وأحقاد الماضي والحاضر.. حتى ليُخيّل للقارئ أن هذه الصفحات (361-366) تحكي بنفس الحرارة والألم عن تقلصات الحالة النقابية التي نعيشها اليوم، وعن التحالفات الخطيرة التي تهدف إلى نسف مصالح المجموعة الوطنية..

ولعلّ أهمّ ما جاء في هذه المذكّرات ذلك الكثير منالمسكوت عنهحول نشأة فكرةانقلاب السابع من نوفمبر” (قبل 10 أيّام فقط من تنفيذه؟)، وتحليل مختلف مواقف الأطراف المشاركة فيه، واستعراض أفكارهم ومشاريعهم في حالة النجاح أو الفشل، فلا يجد القارئ ما يُشفي غليله سوى  مجرّد سرد لسيناريوليلة التحوّل“!.

وقد تمّ ذكر بعض الأسماء كأدوات تنفيذية وإدارية، لا غير، دون الاهتمام بالأبعاد السياسيّة والفكريّة لمختلف هذه الشخصيات  وأغلبهم من الشباب آنذاك الذين وضعوا أكفانهم على رؤوسهم عندما دخلوا مبنى وزارة الداخلية في تلك الليلة المشهودة. واقتصر الكاتب على الإشارة إليهم ضمن سيناريو فيلمشبه بوليسيلا غير، وليس ضمن تحوّل تاريخي عميق يمهّد لميلاد حكم جديد، سرعان ما خان كلّ التعهّدات والآمال فيه، وتطوّر هو الآخر باتجاه دكتاتوريّة عائليّة مافيوزيّة

فلم نعرف إلى اليوم، كيف تمّت عملية نقل الزعيم بورقيبة في تلك الليلة الفاصلة؟ وكيف تقرّرت الإقامة الجبرية وفي أي ظروف كانت؟، ولم يتعرض الكاتب كذلك لتلك المفاجأة المدوّية التي أدلى بها منذ بضعة أشهر خلال اجتماع لبعض القيادات في الحزب الدستوري السابق عندما قال، في لحظة تجلّإنّ بن علي كان ينوي تسميم بورقيبة للتخلّص منه، وأفاد بأنّ هذا السمّ يمكن أن يجلب من إيطاليا عن طريق أحد المشاركين في عمليّة الانقلاب

ويتفرّغ الكاتب، إثر ذلك للحديث عنرحلة التيه الثالثةالتي واجهها بعد إقالته من منصب الوزير الأول، ووضعه في شبه عزلة من طرف بن علي وزبانيّته، وظلّ يتناول الأحداث، بصورة انتقائية، مقتصرًا على العلاقات الشخصية مع مناوئيه وأعدائه، متغافلا عن تطوّر وتردي حالة التونسيين تحت سطوة الحكم الفردي وصراع أجنحة العائلة الحاكمة وأطماع السماسرة والمهرّبين

خلاصة القول أنّ هذا الكتاب يبدو، رغم الجهد المبذول فيه، وكأنّه ذكريات خاصة توثّق مسيرة شخص يتوجّه بها إلى أهله وذويه، أكثر منها مساهمة جادّة في الحوار الدائر لإنارة تاريخ وطن ونضال شعب من أجل الكرامة والحرية.

وقد بدا لي في بعض المواضع، رغم نبرة الصدق في التعبير عن بعض المواقف، وكأنّ الكاتب يريد أن يعتذر للقارئ عن شيء ما لم يفصح عنه، مثل تلك الجهوية المفرطة التي اصطبغ بها الحكم في مختلف مراحله منذ الاستقلال، أو تلك الشلليّة التي تصل إلى حدّ الطبقية التي صاحبت أجيال النخبة الحاكمة داخل الإدارة وفي مفاصل الحكم المحلي ومعابر الحزب الحاكم على مدى نصف قرن

ولعلّ ما جاء بالفصل الأخير من الكتاب تحت عنوانأربعة أيّام في القصبةأبلغ دليل على ما اتّسم به نظام الحكم في تونس منذ الاستقلال، فقد عبّر الرجلبكل صراحة، من خلال تلك الأحداث العصيبة، عن حجم مأساة النخبة الحاكمة في بلادنا وعن تخبّطها وارتجالها نتيجة انقيادها لأطماعها وانصرافها عن الهموم الحقيقية لشعبها الصابر.

بعد القراءة النقدية السريعة لأهمّ مفاصل هذا الكتاب يجد القارئ نفسه في حيرة، فهو لم يتقدّم كثيرا في فهم ورسم ملامح واضحة لشخصية الكاتب. ولم يتمكن من الإمساك بمفاتيح بعض القضايا والتساؤلات العالقة في تاريخ الحكم والبلاد.. وهكذا يبقى هذا المجلد الضخم مجرّد ذكريات خاصة، عن مسيرة خاصة، حافلة كغيرها بالنجاح والإخفاق ولكنّها تظلّ خاصّة في كلّ الأحوال.

وفي الختام يظل السؤال الملحّ الحائر هو: لماذا يصرّ المسؤولون من مختلف الأعمار على الكتابة والنشر باللغة الفرنسية، قبل أن يدركهم الوعي بعد ذلك، بضرورة ترجمة كتبهم إلى لغة العباد والبلاد بالعربية. إنّه موقف عجيب يشترك فيه أغلب السّاسة في بلادنا، قبل أن يعود إليهم الوعي  المفقود ذات يوم ويرغبون في الإدلاء بشهاداتهم التي غالبا ما تكون انتقائية، وأحيانا غير محايدة، وتلك قضية أخرى سوف يفصّل فيها المؤرخون.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING