الشارع المغاربي – اتفاق "اليكا" : هيمنة جديدة شاملة ومعمّقة على تونس(2) /بقلم: أحمد بن مصطفى

اتفاق “اليكا” : هيمنة جديدة شاملة ومعمّقة على تونس(2) /بقلم: أحمد بن مصطفى

23 يوليو، 2018

الشارع المغاربي : في هذا الجزء الثاني سنركز على جوانب الاتفاق التي تشكل استهدافا  مباشرا لكيان الدولة الوطنية التونسية وما تستند إليه  من قيم ومبادئ كونية ومنها خاصة السيادة واستقلالية القرار في رسم السياسات والخيارات وسن القوانين والتشريعات النافذة داخل الحدود الوطنية وإقامة العدالة على أساسها بين كافة المواطنين والمقيمين وفقا لمبدأ المساواة أمام القانون الذي ينطبق على الجميع دون أي شكل من أشكال التمييز مهما كانت مبرراته.

ولا شك أن هناك تناقضا واضحا بين القواعد والأعراف الدولية ا التي تتأسس عليها الدولة الوطنية مثلما حددها الدستور التونسي،  والمرتكزات والأهداف  التي تقوم عليها التجمعات الاقتصادية المتعددة الأطراف مثل الاتحاد الأوروبي التي تسعى  إلى توسيع  التبادل التجاري الحرصلبها وفي علاقاتها بمناطق الجوار أو النفوذ دولا كانت أو مجموعات، و ذلك من منطلق أن الانفتاح  التجاري مفيد لكافة الدول بقطع النظر عن التفاوت في مستويات التنمية وانه يقتضي تباعا التضحية بالسيادة الوطنية بدعوى الاستفادة من  عولمة الشبكات التجارية والإنتاجية تفعيلا للمنافسة وتعميما للنمو والتشغيل.

وبالتالي فان هذه المنظومة تحتاج، وفقا لهذا المنظور، إلى قواعد جديدة للتعامل عابرة للحدود وغير خاضعة لقيود السيادة و التشريعات المحلية التي يفترض أن تتكيف مع الأسس المنظمة للعلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية مثلما وضعتها منظمة التجارة العالمية التي تم بعثها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية بغرض فرض منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر الخاضع للهيمنة الغربية كإطار  وحيد لتنظيم التعاون والعلاقات الاقتصادية والتجارية العالمية .

التناقض بين بناء الدولة الوطنية واندماج تونس الاقتصادي صلب الاتحاد الأوروبي    

ومن المهام الأساسية الموكولة لمنظمة التجارة العالمية تحرير تجارة السلع والخدمات وحركة رؤوس الأموال  تماشيا مع رغبات الدول الصناعية الكبرى الخاضعة في واقع الأمر لشركاتها المتعددة الأطراف ذات الطاقات الإنتاجية الصناعية والفلاحية  والخدمية الفائضة المحتاجة تباعا للهيمنة ولاحتكار الأسواق والاستفراد باستغلال الثروات المادية و البشرية لتوظيفها، بفضل تفوقها التكنولوجي، للسطو على شبكات القيمة والقطاعات والأنشطة الاقتصادية الأكثر ربحية عبر العالم.

وإزاء تعثر المفاوضات في إطار منظمة التجارة العالمية لفرض التحرير الكلي الشامل و المعمق للتجارة والخدمات والأنشطة الاقتصادية بسبب التحفظات التي أبدتها، دفاعا عن مصالحها، عديد الدول الصاعدة لجأت الدول الغربية  إلى صيغة الاتفاقيات الثنائية المفروضة منذ منتصف التسعينات على البلدان الضعيفة والتابعة ومن بينها تونس.

وهذا هو الإطار الذي جاء فيه التوقيع على اتفاقية تحرير تبادل السلع الصناعية سنة 1995 التي تنص على إدماج تونس بعد عشر سنوات  في الفضاء الاقتصادي الأوروبي عبراليكاو التحرير التدريجي الكلي لكافة المبادلات التجارية  و الأنشطة الاقتصادية و ذلك بقطع النظر عن مدى قدرة تونس، من حيث تقدمها الصناعي و التكنولوجي وتواضع طاقاتها الإنتاجية الصناعية والفلاحية والخدمية، على الاستفادة من هذا التبادل المختل أو تحمل تبعاته الاقتصادية والاجتماعية التي ثبت أنها كانت كارثية بكافة المقاييس.

وبعد الثورة كان من المفترض أن تسعى الحكومات المتعاقبة لمراجعة أسس هذه العلاقة المختلة بتفعيل البنود الوقائية لمنظمة التجارة العالمية ولإتفاقية 1995 التي تسمح بتعليق العمل بها إذا بلغت نسبة العجز في التوازنات المالية والتجارية معدلات حرجة مثلما  هو الحال بالنسبة لتونس، لكنها تجاهلت تحذيرات المختصين الذين نبهوها في الإبان من مغبة استفحال العجز التجاري والمالي وخروجه  مع المديونية الخارجية عن دائرة السيطرة وهو ما حصل بالفعل .

كما كان عليها  التفاوض مع الجانب الأوروبي لوضع إطار جديد للتعاون المشترك يراعي الواقع الاقتصادي التونسي ويساعد تونس على تجاوز أزماتها الاقتصادية والمالية الخانقة وحل قضاياها التنموية من خلال بناء اقتصاد إنتاجي موجه لتلبية حاجاتنا الأساسية من الغذاء والسلع الصناعية ويكون  قائما على التطور العلمي و التكنولوجي والتثمين الصناعي المحلي  لثرواتنا الوطنية المستند إلى كفاءاتنا و طاقاتنا العلمية المبدعة.

وبدلا من ذلك انساقت هذه الحكومات وراء الإغراءات الكاذبة لمجموعة السبع التي سرعان ما تحولت إلى ضغوط و إملاءات تهدف بالأساس للمحافظة على علاقات الهيمنة المسلطة على تونس منذ الاستقلال و مزيد تكريسها و توسيعها من خلالاليكاومجموعة القوانين المندرجة في  ما يسمى بالبرامج الإصلاحية للمؤسسات المالية الدولية التي أدت إلى تثبيت وتوسيع  منظومة الامتيازات الخاصة بالأجانب العائدة إلى الحقبة الاستعمارية مما ساهم في استفحال حالة الانهيار الاقتصادي التي تشكو منها تونس نتيجة السطو المقنن والمنظم بالاتفاقيات المختلة على ثرواتها المادية والبشرية وتحويل وجهتها إلى الخارج.

وهكذا اضطرت تونس في واقع الأمر لتعطيل مشروع الإصلاح والبناء  المؤسساتي والديمقراطي  للدولة التونسية  ولسياساتها الاقتصادية والاجتماعية مثلما اقرها الدستور الجديد المتناقض نصا وروحا مع  الاندماج الاقتصادي  في الفضاء الأوروبي الذي لا يعدو أن يكون سوى توسيعا لمشروع الهيمنة الأوروبية المطلقة على تونس.   

التناقض بين السيادة الوطنية واتفاقية اليكا

مثلما سبق بيانه في الجزء الأول ستفتح اليكا المجال للمؤسسات الأوروبية للنشاط و السيطرة على كافة  مفاصل الاقتصاد الوطني والأنشطة الإستراتيجية بما فيها الصفقات العمومية وقطاع الطاقات المتجددة والأنشطة الزراعية وتكنولوجيات الاتصال والنقل وغيرها.و لتحقيق هذه الغاية ينص  المشروع على إحداث آليات تخول للاتحاد الأوروبي التدخل في سن التشريعات  التونسية لتوفير الحماية لرأس المال الأجنبي مع السماح للمؤسسات الأوروبية  باضفاء الصبغة التنفيذية  على قوانينها بتونس دون ترخيص مسبق و على نحو يمس من  سيادتها التشريعية ومن الدور التعديلي والاجتماعي للدولة  لصالح الفئات الضعيفة والمهمشة. و هو ما يتناقض بشكل واضح مع مقتضيات الدستور التونسي عموما و تحديدا جوانبه المتعلقة  بإقرار مبدأ التمييز الايجابي لفائدة الطبقات و المناطق المهملة والفقيرة  بفعل السياسات الاقتصادية البائسة المتبعة منذ ثلاثة عقود تحت الضغط الأوروبي الغربي المتواصل.

وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى النقاط التالية:

_ ينص الاتفاق على أن تونس مدعوة إلى تبني القوانين و التشريعات الأوروبية و إدماجها بمنظومتها التشريعية وهو ما يشكل مساسا واضحا بالسيادة التشريعية التونسية التي شكلت إحدى الأدوات الأساسية للتخلص من رواسب الاستعمار بعد الاستقلال علما أن عديد القوانين المعتمدة خلال السنوات الأخيرة تندرج في هذا الإطار و منها قانون   الاستثمار الجديد  وقانون الشراكة بين القطاعين العام والخاص و قانون استقلال البنك المركزي الذي كانت له آثار مدمرة على قيمة الدينار بفعل تجريد الدولة التونسية من هامش التحرك للحفاظ على استقرار عملتها الوطنية.

وفي نفس السياق جاء الأمر الرئاسي عدد 67 بتاريخ  2 ماي 2017 الصادر بالرائد الرسمي  بتاريخ 16 ماي 2017 والقاضي بنشر الاتفاق المبرم بين تونس و المنظمة الأوروبية لبراءات الاختراع علما انه يجيز لهذا الهيكل الأوروبي اعتماد البراءات الأوروبية بتونس دون موافقة مسبقة من الجهات التونسية المختصة مثلما كان معمولا به سابقا  لتصبح هذه البراءات محمية وقابلة للاستغلال على قدم المساواة مع البراءات التونسية  وذلك تجسيدا لمبدأ  المعاملة الوطنيةللمؤسسات الأوروبية وتأمين حقوق الملكية الفكرية وفقا للمعايير الأوروبية.

والملاحظ أن هذه العينات تبين أن الجانب الأوروبي، في نفس الوقت الذي يدعي فيه أن المفاوضات ستستغرق وقتا طويلا وانه سيراعي المصالح التونسية والتفاوت في موازين القوة، يعمل بنسق حثيث، وبتواطئ رسمي تونسي،  على تجسيد المبادئ والبنود الواردة باليكا  من خلال إدراجها بالقوانين التونسية وفقا لإستراتيجية مرحلية مدروسة ستفضي إلى جعل الاتفاق امرأ واقعا ومدرجا في أهم جوانبه بالمنظومة التشريعية التونسية.

ويتأكد ذلك من الخطاب الدعائي الأوروبي المروج  عبر بعض الجمعيات الممولة أوروبيا و منها جمعيةسوليدارالتي تدعو إلى تجزئة الاتفاق بحيث يقع اعتماده تدريجيا بالنسبة للقطاعات التي تدعي إن تونس تتوفر لها  فيها قدرة تنافسية  مثل قطاع تكنولوجيات الاتصال مع الإشارة إلى الخطاب المطمئن المتداول في الأوساط الرسمية التونسية  المتعهدة بملف المفاوضات التي تشدد  أيضا علىالمكاسب  المنتظرة من اليكا

_ وعلى صعيد متصل يقتضي اقرار مبداالمساواةو المعاملة الوطنية لفائدة المستثمرين الأوروبيين المتفوقين تكنولوجيا على نظرائهم التونسيين تجريد الدولة من احتكار بعض القطاعات الخدمية الحيوية و كذلك  حقها في  إعطاء الأولوية لشركات الخدمات الوطنية المرتبطة  بالنسيج الصناعي التونسي المهدد بالاندثار. كما ستفقد تونس حقها في ربط الصفقات العمومية الممنوحة للمؤسسات الأجنبية بشروط من قبيل نقل التكنولوجيا أو إلزامية تشغيل التونسيين.

وستمنح تونس مهلة خمس سنوات  للتخلي عن احتكار الدولة بعض القطاعات الخدمية  وكذلك إلغاء المنظومة التونسية  للدعم الحكومي للمناطق المهمشة وستتحول صلاحية تصنيف هذه المناطق إلى سلطة سيقع إحداثها بموجب الاتفاق للسهر على ضمان احترام تونس مقتضياتالمنافسةمع إسنادها، بمعية اللجنة الأوروبية، أحقية تحديد المناطق التونسية الفقيرة  التي تستحق المساعدات وسقف هذا الدعم وكل ذلك وفقا للتوجهات و المعايير الأوروبية المعتمدة في الغرض.

_ تجريد تونس من سيادتها القضائية باستحداث هيكل جديد للفصل في النزاعات مع المستثمرين الأجانب المخول لهم مقاضاة وتغريم الدولة التونسية على أي إجراء تعديلي من شأنه المساس بالمنافسة أو الحد من هامش تحقيق الأرباح لدواع اجتماعية

وبذلك ستتحول هذهالشراكة المميزةإلى وصاية أوروبية مباشرة على مؤسسات الدولة التونسية وعلى استقلالية قرارها في رسم سياساتها وفقا لأولوياتها الوطنية مع تجريد السياسة التنموية  التونسية من أبعادها  الإنسانية والاجتماعية وجعلها خاضعة فقط لمقاييس الربح والخسارة وللمصالح الحصرية للجانب الأوروبي.

وخلاصة القول إن مصير المشروع الديمقراطي التونسي ومشروع الإصلاح الاقتصادي أضحيا مرتبطين بطبيعة العلاقات المستقبلية مع الاتحاد الأوروبي ذلك انه أصبح من الواضح أن التمادي في الانصهار العمودي في الفضاء الأوروبي سيكون حتما على حساب سيادة تونس و انتمائها  إلى محيطيها العربي و المغاربي و تطلعات الشعب التونسي لبناء الدولة الوطنية التونسية الديمقراطية  القائمة على المؤسسات الدستورية و التداول السلمي على السلطة.

ولا شك ان الانتخابات التشريعية و الرئاسية القادمة سنة 2019 هي الفرصة الأخيرة المتاحة لإنقاذ الانتقال الديمقراطي بتونس من خلال الاحتكام  للشعب التونسي لتكون له الكلمة الفصل في الملفات الإستراتيجية المتعلقة بالسياسة التنموية المستقبلية لتونس المرتبطة شديد الارتباط بمصير العلاقات الخارجية مع محيطنا الإقليمي والدولي ومع  الاتحاد الأوروبي باعتباره الشريك الأساسي لتونس حاضرا ومستقبلا.

عن أسبوعية “الشارع المغاربي” 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING