الشارع المغاربي – الغنّوشي يُعلن جهرا تمكّنه من الدولة - بقلم/ لطفي النجار

الغنّوشي يُعلن جهرا تمكّنه من الدولة – بقلم/ لطفي النجار

23 نوفمبر، 2018

الشارع المغاربي : «خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون » الأنبياء 37 – قرآن كريم
«نحن لسنا مجرّد الحزب الأوّل بل الحزب الأساسي …وانتصرنا عندما تفرّقت الصفوف »، هكذا أعلنها راشد الغنوشي جهارا نهارا في زهو وعجلة بنصره في خطابه خلال الجلسة العامّة السنوية الرابعة لكتلة حركة النهضة. خطاب فاحت مضامينه وإشاراته بكلّ معاني الانتشاء والتطاوس ترجمت إلى «إعلان مستعجل » بأنّ الحركة قد «تمكّنت » من الدولة وهي اليوم الآمرة والناهية أو لنقل «العمود الفقري » كما وصّفها الغنوشي والبقية الباقية أطراف وأعضاء مشدودون إلى «العمود » شدّا وثيقا يأتمرون بأمره وينتهون حيث نهى.

خطاب الغنوشي الأخير في البرلمان أمام أعضاء كتلة النهضة هو بيان نصر وتبيين لمظاهر التمكين للحركة من الدولة: تمكين السلطة والقوّة وما يستدعيه ذلك من تصرّف في حاضر البلاد وغدها بحكم أنّ الحركة كما قال رئيسها «هي التي تمسك البلاد ». وهو أيضا )الخطاب ومضامينه( عود على بدء، والمقصود هنا البدء الدعوي الذي بدا جليّا في ديباجة الخطاب وتوطئتها أسّ كلام الغنوشي ولبّه الذي لم ينفصل عن السياسي كما ادّعى وأعلن وروّج له.

التوطئة الدعوية

استغرقت توطئة الغنوشي ثلثي مدّة الخطاب الذي امتدّ ل 18 دقيقة تقريبا، اختار لها رئيس النهضة أن تكون تذكيرا بتاريخ «المظلومية » التي كابدتها الحركة خلال نصف قرن من تأسيسها أو كما نحتتها السردية النهضوية ورسّختها في الأفهام لدى أطياف مناصريها وأتباعها. عاد الشيخ في «ديباجته البرلمانية » على الأعقاب أي إلى روح «الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي » )كما سطّرها عبد المجيد النجار سنة 1984 في مؤتمر سمّي حينها ب »المؤتمر المضموني » نظرا لأنّه حامل للأساس والمضمون العقائدي والفكري للحركة(، فانزاح الخطاب قصدا في مقدّمته المستفيضة إلى ما يشبه «الخطبة المسجدية » لا فصل فيها بين الدعوي و السياسي والحزبي ولا هم يحزنون.

حديث عن «الرسالة الإسلامية » التي تختصّ بها النهضة عن دونها من الأحزاب، وعن قدرة التنظيم الخارقة على التصدي وإفشال اختراقات «الصوفية المغالية والسلفية المكفّرة وأصحاب البدع » ! …هكذا تفضح العبارات المعاني وتعرّيها وتجعلنا مباشرة أمام ما يشبه التنظيم أو الجماعة الدينية ولسنا بصدد التعاطي مع حزب مدني سياسي مواطني.

هي الحركة «الحاملة لرسالة الإسلام » أي ضمنيا «الجماعة » المدعوة إلى «حسن التعامل مع المخالفين » كما شدّد الغنوشي وحرص على استحضاره والتأكيد عليه أمام كتلته تحت سقف برلمان شعبي جاء تتويجا وثمرة لدستور مدني.

يعود إذن الغنوشي على الأعقاب ويقفز فوق روح الدستور الذي يمنع «الوكالة الحصرية » للدين ويجعل الدولة هي الراعية الوحيدة له ولشؤونه. عاد الغنوشي كعادته عند «الجدّ » أو عند «النصر » إلى لعبته القديمة، عاد متعجّلا هذه المرّة ليعلن «التمكين .»

جوهر الخطاب : إعلان «التمكين »

فاض خطاب الغنوشي أمام أعضاء كتلته البرلمانية خلال الجلسة العامة الرابعة بمفردات كاشفة في دلالاتها لحقيقة معلنة لا يضمرها الرجل ولا يحجبها من قبيل: عملنا، قرّرنا، ترجمنا، حاربنا، غيّنا، انتصرنا ) استعملها مرّتين(، كسبنا، وضعنا، حرصنا…وهي حقيقة «التمكين » من القرار الرسمي والتمكّن بالتالي من الدولة وإخضاعها نهائيا لمشيئة حركته وإرادة رئيسها. وهي الحقيقة التي أراد الغنوشي أن يعلنها قصدا في البرلمان مصدر كلّ السلطات، فأصدع بها جهرا معلنا أوّلا «الانتصار » الذي جاء ترجمة كما وضّح في خطابه ل »موقف النهضة الداعي إلى دعم الاستقرار السياسي والحكومي والاكتفاء بتحوير جزئي”.

وثانيا أنّه ) الغنوشي( هو «الحاكم الآمر » في الدولة و »عمودها الفقري، والمتمكّن من مفاصلها وعصبها، وهذا ما يعنيه كلامه عندما قال بالحرف «كان يمكن أن نترجم أنّنا الحزب الأساسي اليوم في البرلمان خلال التحوير الوزاري لكنّنا لم نشأ أن تصبح الحكومة حكومة للنهضة واكتفينا بأن حسّنا وجودنا الحكومي ووضعنا «فيتو » على عدد من الوزراء الذين نعتقد أنّهم لا يصلحون في أماكنهم…وكان كسبنا في الحقيقة محاربة ما نعتقد أنّه فساد…العناصر الفاسدة في الحكومة وضعنا عليها فيتو وأزيل أغلبها .»

لا يمكن أن يعني كلام الغنوشي ضمنيا سوى تقزيما لرئيس الحكومة، ولا يمكن أن نتعاطى معه إلّ بتأويل وحيد لا يقبل الردّ وهو أن الحكومة بطمّ طميمها، أي برئيسها وطاقمها تأتمر بأوامر الغنوشي الذي «شاء » لها التخريجة التي اختارها لها، فوضع «الفيتو » أمام من اعتقد «أنّهم لايصلحون في أماكنهم » أي أولئك «العناصر الفاسدة » كما نعتهم، فأزيلوا أغلبهم، كما ابتغى الشيخ وقرّر.

لقد أحرج الغنوشي يوسف الشاهد بخطابه حسب تقديرنا عن قصد ومن حيث يدري، ليحجّمه ويقزّمه ويعيده إلى «الحقائق » الماثلة على الأرض )كما يقدّرها الغنوشي طبعا( التي ذكّره بها وهي أنّ النهضة هي الماسكة بكلّ خيوط اللّعبة السياسية، وهي الحزب الأساسي
لممسك بالبلاد، وأنّ حكومة الشاهد هي نهضوية ب »القوّة » وليست ب »الفعل »، وأنّ الغنوشي هو من أراد لحكومة الشاهد المعدّلة أن تكون في مستوى «القوة » فقط نهضوية،
وألّ تتحوّل إلى حكومة نهضوية ب »الفعل » لأنّه لم يشأ لها ذلك فحسب.

استنتاجات واستفهامات

لعلّها شهوة التمكين التي استبدّت بالغنوشي فجعلته على عجلة من أمره ليعلن تمكّنه من الدولة، وليعلن ما أعلن من مضامين تقزّم «حليفه الحنيف » الجديد وتعرّيه، وليفصح في القول دون تلكّىء أو تردّد أنّه «الحزب الأوّل » على عكس ما أفرزته الإرادة الشعبية لمّا عبّت عن نفسها في الانتخابات الأخيرة التي تمتدّ مفاعيلها حتى نهاية 2019 . هي «الشهوة » التي تعمي البصيرة وتجعل ضحيّتها يقول بصلف أنّ «العناصر الفاسدة في الحكومة وضعنا عليها فيتو وأزيل أغلبها ». فيقوم بذلك مقام القاضي، والموزّع لصكوك الاتهام والبراءة والغفران على من كانوا منذ أيّام فقط حلفاء وشركاء ليتحوّلوا فجأة إلى «فاسدين » لا يعتقد الشيخ أنّهم يصلحون في أماكنهم.

قول الغنوشي هذا لا يستقيم أخلاقيا وسياسيا و يستدعي استفهامات عديدة لا تحصى، منها على الأقل، سؤال نعرضه على القائل نفسه: إذا افترضنا أنّ الوزراء المغادرين فاسدون كما قلت، لماذا لم تطالب بمحاسبتهم قضائيا في خطابك أمام أعضاء كتلتك البرلمانية؟. هذا إضافة إلى تساؤلات كثيرة يطرحها الخاصّ والعامّ حول مسألة المحاسبة لبعض من طالتهم شبهات الفساد المالي )كرفيق بوشلاكة مثلا( والشفافية المالية للأحزاب كحركة النهضة التي ارتفعت ميزانيتها من 5305 ألف دينار سنة 2017 إلى 6006 ألف دينار سنة 2018 . والعارفون بشؤون الأحزاب يعلمون جيّدا أنّ اشتراكات الأعضاء مهما بلغت قيمتها المالية لا يمكن أن تبلغ الست مليارات من الملّيمات. هي أسئلة فحسب تطرح على من اعتبر نفسه قاضيا يرمي الناس بتهم خطيرة ويعلن على الملإ أنّهم فاسدون وأنّه أطردهم من حكومته.

سعيدا بدأ الغنوشي بنصره الآني، متعجّلا تسيّد البلاد والتحكّم في حاضرها ومستقبلها معتبرا أنّه القوّة الوحيدة والأساسية في البلاد إلى جانب قوّة أخرى لمّح لها عرضا في خطابه متحدّثا عن أنّ كلّ اهتزاز يمسّها خطير على أمن البلاد واستقرارها…هذه القوّة هي الاتحاد العام التونسي للشغل…تلميح يحمل كل معان ورموز يمكن أن تفكّ في قادم الأشهر وترسم ملامح الاشتباكات القادمة أو المعارك الآتية، لعلّ المسكوت عنه في هذا التلميح الذي يمكن الإفصاح عنه ألّ وجود اليوم في تونس إلا لقوّتين: النهضة والاتحاد العام التونسي للشغل…وكلّ ماعدا ذلك تفرّق وذهبت ريحه وهو ما بيّنه الغنوشي وأبان عنه.

منشور بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها الصادر يوم الثلاثاء 20 نوفمبر 2018


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING