الشارع المغاربي – قراءة في فيلم "دشرة" : سينما الفزع...و"الفزوع" إلى ظلماء ذواتنا !.. لطفي النجار

قراءة في فيلم “دشرة” : سينما الفزع…و”الفزوع” إلى ظلماء ذواتنا !.. لطفي النجار

11 فبراير، 2019

الشارع المغاربي : نهش للحوم الآدميين وقرمة (1) وأشباح ومردة وشياطين وسحر وتعاويذ وخرافات وشعوذة وطلاسم وجثث ممزّقة وكوابيس مرعبة ونبش للقبور وبتر وجزّ لأيادي وجماجم جثث بلا أسماء وإسالة دماء أطفال ورضّع قربانا لحرّاس الكنوز…هذه نتفات مبتورة من فيلم “دشرة” وممّا يمكن أن يهزّ مخيالك هزّا وأنت تجول في ثنايا الشريط فيبعثر ما وقر في قاع ذاكرتك ونواحي “مخيّلتك” واطمأنّ ليفتحه فتحا جليلا على إمكانات ترتيب وتشكيل مبتكر وعلى نمط مستحدث . شريط “دشرة” هو الخطوة الأولى في مسافة استثارة مخيالنا الجمعي حتى يصير ندّا لمخاييل الأمم المتسيّدة في حربها الكونية المحمومة والمعلنة من أجل تشكيل مخيال “معولم” يُيسّر توجيه العقول وتنميط الميول والأذواق.

صادم للمخيّلة ومربك ومستفزّ وهو أقلّ الكلام وصفوه عن “دشرة” الموحشة والمتوحشة والمرتحلة بين “الجميل والجليل” على قول ايمانويل كانط وعلى فعل مبدعها وصانعها المخرج عبد الحميد بوشناق الذي أراد لها أن تكون نبتا جديدا لسينما الفزع  و”الفزوع” إلى ظلماء ذواتنا في صيغة المفرد والجمع (معا) على أرضنا وعلى ما تيبّس وتكلّس في رواسب تاريخنا وطبقاته.

وأنت تشاهد “دشرة” تحيا لقرابة الساعتين (108 دقيقة) عنف فيلم توغّل في مناطق موحشة منّا، تحيا الموت الثاوي في بنية ثقافتنا وموروثنا الشعبي… تعيش وحيدا بين مخاوفك وهواجسك في ظلماء فضاء العرض، طريدا يلاحقك لاشعور جمعي يقفز إلى وجهك ويلتصق بجلدك ويحاصرك ويلتفّ حول رقبتك حتى يكاد يخنقك، ثمّ يجتاح حواسّك ويخترق عقلك وروحك ومخيالك وذاكرتك السحيقة  فيعيد أمام ناظريك  “العبّيثة” و”العزّام” وحكايا استخراج الكنوز والمارد وملك الجان الذي لا يرضيه سوى الشرب من دماء طفل حامل لعلامة البقعة الداكنة في بياض العين أو خطّ مستقيم في كفّ اليد.

تروي حكاية الشريط التي ألّفها وحوّلها إلى سيناريو سينمائي مخرج الفيلم ومنتجه قصّة طالبة جامعية في اختصاص الصحافة تدعى ياسمين تعمل رفقة صديقيها بلال ووليد على حلّ لغز جريمة غامضة تعود إلى أكثر من ربع قرن وتتعلّق بامرأة وجدت مشوّهة ومقطوعة الرأس ملقاة وسط الطريق. رحلة البحث والفضول تنتهي بالثلاثي إلى قرية جبلية صغيرة (دشرة) معزولة وسط غابة موحشة تسكنها جماعة من الشخوص أو الشخصيات العجائبية الذين يمارسون صنوفا من السحر والشعوذة في حفلات يؤثّثها الدم والقتل والذبح وأكل لحوم البشر بقصد استخراج الكنوز كما يعتقدون ويؤمنون.

نجح مخرج “دشرة” نجاحا باهرا في شدّ متابع الفيلم في حبك قصّة تونسية بشحمها ولحمها، بفضاءاتها المكانية (جبال خمير بعين دراهم)، وبشخصياتها الشديدة الالتصاق منّا لغة وروحا و”ضمارا” تونسيا صميما، وبأحداثها وزمانيتها. بل لم يتوقّف منجز بوشناق الإبداعي حسب تأويلنا عند عتبات البنية الدرامية للشريط الموفّقة بل تجاوز وتقدّم في مسار رائد في السينما التونسية والمغاربية وهو ما نسمّيه  بسينما “الفزع” كقياس على سينما الرعب الهوليودية والأوروبية والشرق آسيوية.

من سينما الذاكرة إلى سينما المخيّلة

عبد الحميد بوشناق هو السينمائي التونسي “النابتة” و”دشرة” هي نبته الذي لم يكن استنساخا لأفلام الرعب الأمريكية بل بحثا وتنقيبا في موروث ومعتقدات محلّية تشترك كسائر الثقافات والحضارات الإنسانية في سردياتها الأسطورية والسحرية السحيقة التي مازالت تفعل أفاعيلها في العقل الغربي اليوم رغم توغّله في التحديث والعصرنة، فما بالك بعقل عربي عتيق تحاصره “أشباح” الماضي وتعطّل قيامه.

“دشرة” عرض “مفزع” ببهارات تونسية محلّية ومذاقات خاصّة يحدّثك فيها المخرج عبر “تقطيع” (مونتاج) مبهر عن حكايات تغسيل الموتى وأساطير “العبّيثة” وطرق السحر كتخييط فم الميّت وقطع يده فتتذكّر في ومضة تأتيك بغتة ما سمعت في طفولتك ذات ليل ربّما من مرويات الكبار “عن “مسحور” “كسكسولو بيد ميّت” حتى يطيع ويذعن لعاشقه ويصير تابعا وخادما لنزوات ورغبات متبوعه.

تحسب إذن لبوشناق هذه “العجنة” السينمائية التي جعلها ذات خصوصية محلّية تشعرك بالانتماء إلى تراث لامادي منسي ومهمّش مفتوحة على كونية الخطاب السينمائي المنتهج في هكذا صنف من الأفلام. كما يحسب له أيضا توظيفه للكاميرا وخاصّة لحركتها التي أفردت لقصّة الفيلم وأحداثه إيقاعا يشدّ المتفرّج شدّا يكاد يرمي به عبر مشاهد قصيرة وسريعة إلى مناخات الفيلم وبيوت “دشرة” المسكونة بالأشباح  فيتحوّل من راء إلى مرئي يكاد يرى خيالاته وكوابيسه على شاشة العرض ! .

هي خرافة تونسية كخرافات الأمم والشعوب الأخرى أبدع المخرج في تقديمها سينمائيا بموسيقى رائعة تتناسق مع مشاهد الفزع دون إفراط مسيء، وبإدارة جيّدة للممثّلين ياسمين الديماسي وبلال سلاطنية وعزيز الجبالي وهالة عيّاد وبحري الرحالي وهادي الماجري الذين نجحوا إلى حدّ كبير هم أيضا في إيصال “دشرة” إلى موقع الريادة عن جدارة في تيّار سينما “الفزع” المغاربية.

أخيرا أدعو إلى مشاهدة الشريط كما أدعو النقّاد والكتّاب إلى ايلائه ما يستحق من القراءة والتأويل والتفكيك لأنّه يستحق ذلك وأكثر ولأنّي أرى فيه فتحا جديدا يمكن أن يخرجنا على الأقل من مربّع سينما الوعي بالهزيمة وسينما الذاكرة التي ارتوينا وكفاية من ظمئها وربّما نحتاج اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى إلى “سينما المخيّلة”، إذ لا وجود كما يقال لأفكار صحيحة أو أفكار خاطئة بل هناك أفكار طريّة نيّئة لم تجد المخيّلة الخصبة الملائمة لتنمو وتنضج فيها !

1 – القرمة هي الجوع إلى أكل اللّحم

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING