الشارع المغاربي – على وقع مأساة دراما الرابطة: صندوق الاقتراع لا يمنح صكا على بياض لتدمير البلاد! /بقلم جمال الدين العويديدي

على وقع مأساة دراما الرابطة: صندوق الاقتراع لا يمنح صكا على بياض لتدمير البلاد! /بقلم جمال الدين العويديدي

13 مارس، 2019

الشارع المغاربي : في البداية نترحم على أرواح الرضع الملائكة وعلى أرواح كل الشباب الذين قضوا غرقا أو حرقا نتيجة لسياسات الفقر واليأس التي عمت البلاد منذ عقدين و نصف تزامنت مع تدخل صندوق النقد الدولي في الشأن الوطني.

شباب و رضع كُتب لهم أن يروا النور في أسوأ فترة تعيشها تونس ما بعد الاستقلال تفشى فيها الفساد و ساد فيها سوء تصرف الحكام في أعلى هرم السلطة برعاية الأحزاب التي تساندها. هذه الكوارث ليست عفوية لأنها نتيجة سياسة ممنهجة طالما نبهنا من عواقبها الخطيرة كما نبه عنها عديد الخبراء في العالم. نحلل هذه السياسة الممنهجة مرة أخرى و بكل موضوعية.

ميزانية 2019 عنوان لإملاءات الخارج و لفشل سياسة الحكومة

عندما تُمرّر ميزانية الدولة لسنة 2019 التي تعد 40,7 مليار دينار(دينار في حالة انهيار تام) بأرقام صادمة من دون أي ردة فعل قوية و مسؤولة من كافة مكونات المجتمع التونسي لا يمكن أن نتفاجأ من هذه الفواجع الأليمة. نذكر من بينها و نحن نعيش أزمة الصحة العمومية اعتماد 2,05 مليار دينار لوزارة الصحة أي بنسبة 5 بالمائة من مجموع الميزانية لسنة 2019 بينما تُخصّص 9,3 مليار دينار لتسديد الدين العمومي بنسبة تناهز 23 بالمائة من بينها 6,2 مليار دينار لتسديد أصل الدين و 3,1 مليار دينار فوائد الدين. أي تفوق ميزانية الصحة العمومية بمرة و نصف نعم هذا هو الواقع المرير فوائد الدين تمر قبل صحة المواطن التونسي. بأكثر توضيح ميزانية تسديد الدين العمومي تعد 4,6 أضعاف ميزانية الصحة العمومية لشعب بأسره. بمعنى آخر الدولة تخصص معدل 180 دينار سنويا لتأمين صحة كل مواطن تونسي مقابل 820 دينار على حساب كل مواطن لسداد خدمة الدين. مع التأكيد أن ميزانية وزارة الصحة قررت إحالة 25,7 بالمائة من موظفيها على التقاعد زيادة على تقليص عدد الموظفين بنسبة 14,9 بالمائة طالت بالأساس السلك شبه الطبي و العملة. و اعتمدت زيادة في عدد المقيمين و المتربصين الداخليين بنسبة 20,2 بالمائة لاستغلالهم ماديا و معنويا و الذين يتحملون اليوم عبئ هذا الوضع الكارثي بكل شجاعة و بكل روح وطنية. نتقدم لهم من منبر “الشارع المغاربي” بأسمى معاني التقدير و الشكر.

هذا ما أدت إليه سياسة التداين المتواصل و غير المسؤول التي انتهجتها الحكومات المتتالية منذ سنة 2012 و بتواصل مستمر و بدون تحديد أي سقف زمني و لا رقمي لهذا الانفلات. هذا ما أدى إليه فتح المجال غير المبرر لتدخل صندوق النقد الدولي في السياسة الاقتصادية الوطنية منذ بداية حكم الترويكا في سنة 2012 إلى اليوم. أي منذ جاءت “كريستين لقارد” للمرة الثانية على التوالي إلى تونس في أقل من سنة، في شهر فيفري 2012 تتوسل بطريقة ماكرة تمكين الصندوق من التدخل لكي يفرض إملاءاته التي طالما ندّد بها عديد الخبراء و السياسيين في العالم بما فيهم خبراء هذه المؤسسة. كيف يمكن أن نُفسّر هرولة حكومة الترويكا و بالتحديد حزب حركة النهضة الذي كان له الكلمة الفصل في هذا القرار الكارثي بشهادة أحد القياديين في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أكد أن حزبه لم يكن على علم بهذا القرار بل تم إبلاغهم به في آخر لحظة و ليلا، و الحال أن راشد الغنوشي زعيم الحزب كان يردد منذ التسعينات في خطبه الصادرة في الخارج ما مفاده بأن “صندوق النقد الدولي يعمل على تجويع الشعوب”. هذا طبعا بدون أن ننسى دور رئيس الحكومة الباجي قائد السبسي الذي مهّد لدخول هذا المؤسسة اثر توقيعه على وثيقة قمة “دوفيل” الشهيرة المنعقدة في شهر ماي 2011.

من هذا المنطلق يجب التأكيد أن تراجع ميزانياتي الصحة و التعليم لم يكن عفويا بل ممنهجا في إطار خصخصة هذين المرفقين العموميين الأساسيين الذين راهنت عليهما تونس الاستقلال منذ البداية. ميزانية قطاع التعليم كانت تتبوأ المركز الأول في ميزانية الدولة التونسية بنسبة 33 بالمائة في الستينات و السبعينات لأنها كانت تراهن على مجانية التعليم لكافة أفراد الشعب و تعميم الصحة العمومية لبناء أجيال تونس المستقلة. لقد تم التخلي على هذه المبادئ الأساسية خاصة منذ التدخل الثاني و الكارثي لصندوق النقد الدولي في سنة 1986 حيث تراجعت نسبة ميزانية التعليم من 33 بالمائة إلى 13,5 بالمائة حاليا و تراجعت ميزانية الصحة العمومية من 17 بالمائة إلى 5 بالمائة اليوم.

والسبب الأساسي هو الدفع نحو تشجيع الاستثمارات الخاصة في المرافق العمومية مثل التعليم و الصحة بطريقة هستيرية حتى أصبحت الجامعات و المعاهد و المدارس الخاصة و المصحات الخاصة تتواجد تقريبا في كل الأحياء تحت سيل لعاب الربح و الجشع و بدون أي نزعة وطنية تراعي المصلحة العامة للبلاد و تراعي السلم و الأمن الاجتماعي الذي لا يتحقق إلا بتوفير الشغل و التعليم و الصحة.

تدهور المرافق العمومية يدفع بالعائلات التونسية للجوء إلى القطاع الخاص في الصحة و التعليم للضرورة على حساب القوت اليومي و على حساب مزيد المديونية التي تنتفع بها البنوك الخاصة التي تستثمر في قطاعي الصحة و التعليم في القطاع الخاص بالمساهمة المباشرة و بإغداق القروض. تقرير البنك المركزي لسنة 2017 يبين أن من مجموع 58,8 مليار دينار قروض موزعة على القطاعات الاقتصادية 5 مليار فقط تمنح لكل القطاعات العمومية و 53,8 مليار توزع للقطاع الخاص؟

هذا ما أدىت إليه كذلك سياسة تخريب المؤسسات العمومية و الخاصة لضرب موطن الشغل و الإنتاج الوطني منذ ثاني تدخل لصندوق النقد الدولي في سنة 1986 بدون هوادة. أكثر من عشرة ألف مؤسسة خاصة صناعية أحيلت للإفلاس مما أدى إلى فقدان 400 ألف موطن شغل قار، و ذلك جراء الممارسات المخلة بأبسط قواعد المنافسة التي قامت بها الشركات الأوروبية التي استفردت بسوقنا الوطنية زيادة على تدخل قوى عالمية و إقليمية أخرى مثل الصين و تركيا تحت نفس سياسة تحرير التجارة الخارجية التي أملاها صندوق النقد الدولي و رديفته المنظمة العالمية للتجارة.

حكومة و أحزاب يعيشان حالة انفصام كامل عن الوضع الخطير في البلاد
هذا التوجه الذي ضرب المسيرة التنموية في الصميم عبر ضرب مواطن الشغل مما دفع الشباب للهجرة الاضطرارية بأعداد فاقت 100 ألف مهاجر من أصحاب التعليم العالي منذ سنة 2010 فقط لتستفيد منها البلدان الأوروبية خاصة.كما شهدت البلاد تزايد خطير لظاهرة الانقطاع المبكر عن الدراسة بمعدل 100 ألف حالة سنويا. هذا علاوة على تزايد المديونية التي تستنزف ميزانية الدولة، و انهيار قيمة الدينار و تعاظم العجز التجاري الذي يهدد البلاد بإفلاس محدق. زيادة على تدهور القدرة الشرائية للمواطن نتيجة التضخم المستورد و الزيادات المفرطة و غير المسؤولة في سعر الطاقة و المحروقات و الترفيع المشط في نسبة الفائدة الرئيسية التي ستؤدي حتما لتعطيل نشاط ما تبقى من المؤسسات الوطنية حيث نشهد غلق 30 بالمائة من خطوط إنتاج الآجر حاليا قطاع أهم القطاعات المشغلة حاليا.
بعبارة واضحة كلها مؤشرات اقتصادية و اجتماعية تدل على خطورة الوضع. و رغم تنبيه العديد من الأطراف ذات الاختصاص علاوة على صيحات الفزع التي تطلق من عدة جهات بما فيها البنك المركزي خاصة تلك المتعلقة بانفلات العجز التجاري و انهيار لقيمة الدينار، فإن الحكومات المتتالية و الأحزاب التي تساندها تبدو فاقدة لصوابها مصممة آذانها و تعيش حالة انفصام تام عن الوضع في البلاد و على معاناة أغلبية الشعب التونسي. همها الوحيد التمكين من نيل كرسي السلطة و لا أقول نيل السلطة عبر التزامها تمرير و تنفيذ كل القوانين و القرارات التي تملى عليها من طرف اللوبيات الخارجية و حليفاتها الداخلية.
فساد مستشري و مناورات مسترابة ترتقي إلى مستوى الاستبداد بالسلطة
ما جرى من تعطيل مُتعمّد لتركيز المحكمة الدستورية الذي فسح المجال لعديد التجاوزات و ما أدى إليه تمرير قانون المصالحة كان رسالة لمزيد استشراء الفساد الذي طال رأس السلطة عبر وجود وزراء حامت حولهم شبهة فساد كبيرة نبهت عنها عديد الجهات الرسمية. كذلك ما يقوم به هذه الأيام حزب حركة النهضة من مناورات مسترابة و غير مسؤولة لتعطيل لجنة تحقيق حول معضلة العجز التجاري سعت لتأسيسها المعارضة من داخل مجلس نواب الشعب طبقا لما ينص عليه الفصل 60 من الدستور الذي يخول لها بصريح النص رئاسة اللجنة و منطقيا تعيين مقررها يعتبر ضربا في الصميم للمبادئ الدستورية .غير أن ما غفلت عنه السلطة الحاكمة هو احتمال أن يكون ضربا ذو حدين لأنه يمكن أن يتحول بحراك شعبي غاضب ضربا في شرعية التمثيل النيابي للأغلبية الحاكمة التي استبدت بالسلطة و حادت على أهم مبادئ الدستور التونسي خاصة منها المتعلقة بضمان الشغل و ضمان العيش الكريم لكافة الشعب التونسي. و ضمان حق التصرف في الثروات الوطنية طبقا للفصل 13 من الدستور الذي يتم التحيّل عليه بشتى الطرق من أجل فسح المجال للأجانب للسطو على البلاد عبر مشروع التبادل الحر الشامل و المعمق “الأليكا” الذي وعدت بتوقيعه كل الأطراف الحاكمة حسب تصريح رئيس الحكومة اثر زيارته لبروكسل في أفريل 2018.
برنامج وطني لإنقاذ البلاد يحترم الدستور
من هذا المنطلق الكارثي نعتقد جازما أنه من الضروري اليوم العمل مع كل الأطراف الفاعلة المتمسكة بسيادة الوطن و في مقدمتها المنظمات الوطنية لوضع آليات تمكن من اعتماد برنامج إنقاذ وطني جامع يتم تزكيته بعرضه على استفتاء شعبي و يرتكز أساسا على :
1/ العمل على وضح حد لتدخل صندوق الدولي و الاتحاد الأوروبي في السياسة الاقتصادية للبلاد و ذلك عبر
– وضح حد لسياسة التداين الخارجي و ترشيد صارم للتوريد المشط.
– المطالبة بإعادة جدولة الديون الخارجية لتوفير الموارد للمرافق العمومية الأساسية للشعب التونسي و اقتراح حد أقصى لقيمة خدمة الدين لا يتعدى 5 بالمائة من ميزانية الدولة سنويا.
2/ / اعتماد ميزانية استثنائية عاجلة يشارك في تمويلها كافة الشعب التونسي حسب الدخل و بدون أي مورد خارجي لزرع ثقافة التآزر و التعويل على الذات يتم صرفها بالأساس على مرافق الصحة و التعليم لمعالجة الوضع الكارثي.

3/ اعتماد برنامج وطني لتنشيط كل المؤسسات العمومية و الخاصة الوطنية المعطلة و التي تعد بالآلاف و القابلة لاسترجاع نشاطها في ظرف وجيز خدمة للتشغيل السريع و لإنتاج القيمة المضافة و الثروة الوطنية.
4/ ضرورة رفع كل المنح و الامتيازات المُشطّة التي تمنح للشركات الأجنبية غير المقيمة و المصدرة كليا و المعفية من الأداء و التي لا تسترجع مداخيل التصدير وهي منح قدرها البنك الدولي بمليار دولار سنويا. مع اتخاذ قرار بمنع بيع منتجات هذه الشركات في السوق الوطنية حيث تنافس الإنتاج الوطني في عقر داره بآليات و منح تونسية.
5/ وقف دعم المنتوجات الخارجية بجميع أنواعها و تحويلها حكرا على الإنتاج الوطني بما في ذلك دعم الزيت النباتي المستورد وهي حالة فريدة من نوعها في العالم بشهادة المنظمة العالمية للتجارة.
دعوة إلى كل الاطراف المعنية بما فيها الرسمية بضرورة التحرك السريع لإنقاذ البلاد و التفاعل مع هذه المبادرة و سوف نعتمد على التشاور المسؤول و الجدي مع كل من يهمه الأمر للدفع نحو تفعيل هذا البرنامج القابل لمزيد النقاش.

صدر بالعدد الأخير من “الشارع المغاربي”


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING