الشارع المغاربي – "الشعبوية" في المشهد السياسي التونسي: علاماتها وتجلياتها

“الشعبوية” في المشهد السياسي التونسي: علاماتها وتجلياتها

قسم الأخبار

11 أغسطس، 2019

الشارع المغاربي -د.مصطفى بن تمسك:  “الشعبوية”Populisme مفردة سياسية قديمة قدم الفكر السياسي، كان افلاطون قد وصم بها الديمقراطية الاثينية واصفا إياها بحكم “الرعاع والسوقة” في مقابل تمجيده لأرستقراطية الاسياد. وعلى امتداد التاريخ السياسي الكوني، ظلت “الشعبوية” وصمة ادانة واستهجانمتبادل بين الخصوم السياسيين. ولكونها كذلك استعصى على علماء السياسة تعريفها علميا لطبيعتها السجالية Polémique .

يتكثف تداول هذه المفردة السجالية في السياق السياسي والإعلامي التونسي الراهن وكأنها اكتشاف جديد لظواهر غير معهودة لدينا، حتى بات اغلب التونسيين وتحت تأثير الاعلام الموجه، يربطون الظاهرة ويحمّلون مسؤولية انتشارها الى أطراف ثلاثة لا غير: جمعية “خليل تونس” وجمعية “عيش تونسي” و “ظاهرة” عبير موسى، حتى وصل الامر بالتحالف الحاكم الى اجراء تعديلات على القانون الانتخابي يوم 13 جوان الجاري سيحول بموجبه دون ترشح الظواهر الشعبوية المذكورة لأنها خالفت الفصول 18 و19 و 20 من المرسوم المتعلق بالأحزاب. وجاء في لائحة الاستثناء منطوقين على المقاس: الأول ويهم جمعيتي “خليل تونس” و”عيش تونسي” (مع التغاضي عن مئات الجمعيات المدنية والدينية الممولة من الخارج والمختصة في تبييض الأموال ودعم الارهاب). لمّح المنطوق الأول الى ان الجمعيات المذكورة “قدمت امتيازات مالية للمواطنين تحت غطاء العمل الخيري والمدني كما تلقت تمويلات وتبرعات اجنبية”. اما منطوق الاستثناء الثاني فقد قُدّ على مقاس عبير موسى، بعد ان نالت شهرتها الإعلامية من خطابها الشعبوي المحرض على ملاحقة الإسلاميين واستئصال شأفتهم، وتمجيد النظام الديكتاتوري السابق والدعوة الى العنف والتمييز والبغضاء بين التونسيين.

وقبل تصحيح مغالطات الاعلام الموجه بخصوص اختزال تلوينات الشعبوية المترامية في “خصوم ” على المقاس، يتعين علينا الاتفاق أولا حول ما نفهمه من مفردة “الشعبوية” الفضفاضة.

  • “الشعبوية”: او المفهوم “السائل” !

  يتعين علينا التنبيه منذ البداية الى سيولة المفهوم واقرار علماء السياسة بصعوبة الاتفاق على تعريفه، اذ تجلت الظاهرة في تلوينات سياسوية متعددة ومتناقضة في بعض الأحيان، تخاطب تارة اهواء الشعب ووجدانه، وتحرضه على “حكم نفسه بنفسه” دون وساطة تمثيلية. وطورا تمجّد عرقه “الأسمى” وقوميته النقية لتمنحه استعلاء عرقيا وعنصريا وقوميا ولغويا مخاتلا. او تخاطب حسه الطبقي، وتجعل منه المضطهد الذي سيقضي على “الصراع الطبقي” نهائيا، الخ.

تبدو الشعبوية بتلويناتها هذه عصية عن الإمساك والتعريف. ولكننا سنتخير التحديدات الستة كما وضعها عالم السياسة الفرنسي بيار انري تاغياف P.A.Taguieff وسننتقي منها النموذج القادر على تفسير الشعبوية في نسختها التونسية.

 تجسدت الشعبوية في التاريخ السياسي الحديث في ستة مناويل:

  • “الشعبوية –الاحتجاجية”: بوصفها حركة جماعية احتجاجية مناهضة للظلم والاستغلال ومعادية للنخب والمؤسسات( كومونة باريس 1871 مثالا).
  • “الشعبوية النظامية-الكاريزماتية”: بوصفها نظاما سياسيا ودولتيا قائما على القائد الكاريزماتي: رجل دين (الملات الأفغان والإيرانيين مثالا) او سياسيين من مشارب مختلفة: تشافيز/ سالازار/برلسكوني صدام/الأسد/القذافي/عبد الناصر، الخ .
  • “الشعبوية-الايديولوجية”: بوصفها ايديولوجيا طبقية او عرقية او قومية يمثلها الحزب الواحد(الأنظمة الفاشية والنازية والستالينية والشوفينية مثالا).
  • “الشعبوية-الفوضوية”: بوصفها مواقف فردية غير نظامية وغير أيديولوجية، بل فوضوية بمعنى معادية للنسق بإطلاق(حركة رودنكي Rodnikiالروسية 1860 أنموذجا).
  • “الشعبوية-التعبوية”: التي تمارسها الأحزاب اليمينة واليسارية المتظرفة في حملاتها الانتخابية بهدف تعبئة الأنصار وتأجيج الغضب المؤقت ضد من يفترض انهم “أعداء الشعب”.
  • “الشعبوية-“الانتقالية”: وتشير الى الحركات السياسية والمجتمعية التي تظهر بعد مرحلة استعمارية او ديكتاتورية او ثورية، وتسعى الى اكتساب شرعية سياسية باعتماد آليات شعبوية[1].

 

وبحسب هذا التقصي، يمكننا ان نسجل حضور منوالين للشعبوية في تاريخ تونس الحديث: “الشعبوية النظامية-الكاريزماتية”، وقد كان يمثلها الرئيس السابق الحبيب بورقيبة من خلال هالات التقديس والتصنيم التي احاطه بها أنصاره: “المجاهد الأكبر” و”الزعيم الفذ” و “البطل المحرر”، الخ. وقد واصل زين العابدين بن علي منوال “الشعبوية-النظامية” البورقيبيةمن خلال البروباغندا الضخمة التي كان يروجها حول ما كان يسمى باطلا ب”المعجزة” الاقتصادية التونسية، والنموذج التونسي الفريد في “تجفيف منابع” التدين والإرهاب، ونسب التمدرس القياسية و”جودة الحياة” التي تفوقت فيها تونس على أمريكا وبعض دول أوروبا !! وكل ذلك انكشفت أراجيفهسويعات قليلةبعدفرار الطاغية.

وبالتوازي مع الشعبوية- النظامية/ الكاريزماتية، عرفت الحياة السياسية في تونس منذ سبعينات القرن الماضي “شعبوياتايديولوجية” مثلتها أطياف المعارضة من اليسار واليمين: فبعض أطياف اليسار التونسي والعالمي كانت تعتقد في قيام “المجتمع اللا-طبقي” او “الشيوعي” و”نهاية” الدولة البرجوازية. وهو ما حدا ببعض الماركسيين الكبار الى مراجعة هذه الدوغما (العقيدة) باعتبارها ضرب من الطوباوية ( الغير قابلة للتحقق واقعيا). وفي خط معاكس، ظهرت شعبويات عقائدية متطرفة، ونقصد بها أطياف الإسلام السياسي من حركة الاخوان المصرية والجماعة الإسلامية الباكستانية الى القاعدة وانتهاء بداعش. غازلت هذه التيارات الحس الديني لشعوبها، واوهمتها بإمكانية استعادة “دولة الخلافة” المفقودة و”العصر الذهبي” الرسولي وعودة عقارب التاريخ الى ازمنة “الخلفاء الراشدين”.

شكّلت الشعبويات العقائدية تحديا ضخما امام الدولة الوطنية العربية وعائقا امام رغبة الشعوب في التحرر من وصاية الإرث الديني ومؤسساته الفقهية. وقد بلغ هذا التحدي أوجه في المواجهات الدموية للإسلاميين مع مخالفيهم في الملة من المحليين والكونيين (داعش انموذجا).

  • الشعبويات المتسربلة بالديمقراطية الناشئة

 وكان من المفترض ان تضع “الثورة” حدا للمخاتلات الشعبوية من جهة اليمين واليسار والنظام، ويراجع الكل اطروحاتهم السياسية، ويكفوا عن مخادعة شعبهم بالوعود الطوباوية. لكن ما جرى في السنوات الأولى من التحول السياسي، كان مدهشا من حيث تكاثر الحركات الشعبوية المتسربلة بالديمقراطية الناشئة. ويكفي ان نستعيد قراءة برامج عينة من الأحزابالتي تقدمت لانتخابات المجلس التأسيسي2011  وللانتخابات التشريعية والرئاسية 2014حتى نتبين منسوب الوعود الانتخابية الشعبوية التي مكّنت الحكام الحاليين من السلطة.

وعلى سبيل المثال جاء في البرنامج الانتخابي لحركة النهضة(2011 ) ان معدل النمو الاقتصادي سيكون فيحدود 7/°في الفترة الواقعة بين 2012-2016مع احداث 588 الف موطن شغل. وسيصل الدخل القومي المتاح لكل ساكن الى 10.061 د) !!. وعلى الرغم من انكشاف الوعود الزائفة، استمرت حركة النهضة في برنامجها الانتخابي (2014) في الايهام ببلوع “نسبة نمو اقتصادي لا تقل عن 5/° في السنوات الثلاث القادمة ورفعها الى 7/° انطلاقا من سنة 2018 (…) وبذلك يتوقع ان يكون معدل النمو السنوي 2015-2019 في حدود 6/°” ( انظر البرنامج الانتخابي لحركة النهضة 2014، ص.17). اما حزب نداء تونس الذي كان يتهيأ في انتخابات 2014 الى المشاركة في السلطة لأول مرة، فقد وعد ناخبيه “بإحداث 16 قطبا تكنولوجيا و800 كلم من الطرقات السيارة و20 الف كلم من الالياف الضوئية ومنح مليار دينار قروضا دون فوائض للشبان وعشرين مشروعا صناعيا كبيرا و125 مليار استثمار سيخصص نصفها للجهات الداخلية” !![2].

وفي سياق متصل، لا يمكن للذاكرة الوطنية نسيان الوعود الموغلة في الشعبوية لمؤسس حزب “العريضة الشعبية” الهاشمي الحامدي، ومن ابرزها: مجانية الصحة والنقل للجميع ومنحة بطالة تصل الى 500دينار. الخ.  وغير بعيد عن وعود حركة النهضة، بشّر حزب الوطني الحر لصاحبه سليم الرياحي بتحقيق نسبة نمو تصل إلى 7 في المائة مما يمكّن من خلق 525 ألف موطن شغل في الفترة الخماسية (2012-2016) !!.

   وعلى الرغم من انكشاف عورات الشعبوية الانتخابية لدى الناخب التونسي في ثلاثة مناسبات انتخابية: 2011 و2014 و 2018(البلديات)، لا يزال المشهد التونسي مفتوحا على إمكانية بروز اشكال جديدة من الخطاب الشعبوي في شكل جمعيات خيرية ومدنية او في شكل تبشير بعودة “الديكتاتورية” القادرة على استئصال “الإسلام السياسي” . وفي اعتقادنا تترجم هذه الموجة الشعبوية الصاعدة حالتين متلازمتين:

الأولى: وتتصل بالسياق المحلي، وبالتحديد فشل المنوال الوفاقي للتحالف الحاكم وانكشاف وعوده الشعبوية. وعجزه عن الخروج بالبلاد من مأزق الانتقال الديمقراطي والاقتصاديوإرساء دعائم سلطة القانون والمؤسسات واستعادة هيبة الدولة.

والثانية: وهي في علاقة بالتغيرات التي يمر بها العالم الراهن بعد صعود الشعبوية الترامبية( نسبة الى دونالد ترامب) للحكم في أمريكا وما ترتب عنه من تغيرات سياسية في أوروبا، صعدت على اثرها أحزاب اليمين الى سدة الحكم في كل من إيطاليا وبريطانيا وفرنسا والنمسا وهولاندا وبلغاريا واليونان، الخ .

 وعلى العموم يبدو ان الشعبوية باتت البديل السياسوي  العابر  للقارات و الشعوب والطبقات، لكون طبيعتها السائلةتأبى الانضباط لأخلاقيات الديمقراطية التمثيلية ولسلطة النخب.وفي اعتقادنا تفسر عودة الشعبويات اليمينية الليبرالية المتطرفة واليمينية الدينية المغالية في عصر العولمةبنهاية منوال “العقد الاجتماعي” الذي أسس الدولة القومية او “الدولة-الامة” الأوروبية في القرن التاسع عشر. وهو ما بات يدعو اليوم الى ضرورة التفكير في ارساء منوال دولةتكون قادرةأولا: على مواجهة شعبويات العولمةالاقتصادية والجيو-سياسية مع الاستفادة من عطاءاتها . وثانيا: التوافق مجددا على عقد اجتماعي جديد قادر على ضمان شروط العيش المشترك لكل الثقافات والاعراق والأقليات المحلية والكونية.

 

[1] Pierre-André Taguieff, «Le populisme et la science politique du mirage conceptuel aux vrais problèmes», in Vingtième siècle ,Nº56, Oct/Dec 1997, pp.4-33.

[2]http://archive.alchourouk.com/72213/151/1/-

  • صدر يوم الثلاثاء 6 أوت 2019 بأسبوعية “الشارع المغاربي”

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING