الشارع المغاربي – تأملات في حصيلة رئاسة الباجي قائد السبسي /بقلم أحمد بن مصطفى

تأملات في حصيلة رئاسة الباجي قائد السبسي /بقلم أحمد بن مصطفى

12 سبتمبر، 2019

الشارع المغاربي -بقلم أحمد بن مصطفى : مثلما هو حاصل في الديمقراطيات العريقة، تعتبر حصيلة حكم الرئيس المنتهية ولايته والحكومات المرتبطة به ومدى تقيدهم بأولويات الدستور وضوابطه، من اهم المواضيع التي يتم تداولها تقييما وتحليلا في إطار الحملة الانتخابية حتى يتسنى انارة الراي العام ومساعدة الناخبين على تحديد موقفهم من أداء الحكومات المتتالية ومحاسبتها على اخلالاتها فضلا عن استيعاب البرامج المعروضة عليهم من قبل المترشحين المتطلعين لنيل ثقتهم.

ومساهمة في انارة الناخب التونسي ومساعدته على تحديد موقفه من المترشحين بناء على معطيات موضوعية نقترح في ما يلي قراءة لحصيلة حكم الرئيس الراحل والحكومات المرافقة له بخصوص التوجهات الاقتصادية والخيارات الدبلوماسية والأمنية الكبرى التي كانت في واقع الامر امتدادا لسياسة النظام السابق بحكم الشروع فيها منذ مطلع التسعينات، وقد حرصت القوى العظمى على الحفاظ عليها بعد اندلاع الثورة وهو ما تم بالفعل في ظل حكومات الترويكا وكذلك بعد انتخابات 2014.

الحصيلة السياسية والدبلوماسية والاقتصادية لفترة حكم الرئاسة المنقضية
من ضمن القضايا السجالية والخلافية المثارة اثناء الحملة الانتخابية برز موضوع تنقيح الدستور في جوانبه المتعلقة بالنظام السياسي وتوزيع الصلاحيات في اعلى هرم السلطة مع الإشارة الى ان الرئيس الباجي قائد السبسي كان من اشد المنتقدين للدستور وطالب في عديد المناسبات بتنقيحه. و قد أوضح مآخذه في حديث صحفي مطول صادر بتاريخ 6 سبتمبر 2017 بجريدتي الصحافة و لابراس حيث اعتبر ان النظام السياسي الحالي يشل العمل الحكومي ولا يمكن من ضمان التنمية واستقرار الدولة بسبب تداخل الصلاحيات بين المؤسسات وتضخم السلطات الموكولة للهيئات المستقلة مما يجعلها قادرة على تحدي سلطة الدولة الى درجة تهديد وجودها . وقد يكون هذا الموقف من الأسباب الرئيسة في تعثر إرساء المؤسسات الدستورية مما حال دون إيجاد الآليات الرقابية والتعديلية الضرورية لصيانة الحقوق العامة والحد من استشراء الفساد داخل مفاصل الدولة والتصدي لتجاوزات السلطة التنفيذية التي عادت الى ممارسات النظام السابق بما في ذلك التدخل في شؤون القضاء وتوظيف الأجهزة الرسمية لخدمة المصالح الشخصية والحزبية.

حقيقة الامر ان الرئيس الراحل كان يتطلع على الأرجح للعودة الى النظام الرئاسي مما دفعه الى البحث عن توسيع دوره السياسي بدلا من التقيد الحرفي بنص الدستورفي مجال اختيار رئيس الحكومة وطريقة ازاحته من السلطة، ومن نتائج ذلك اللجوء الى أسلوب الحكم التوافقي مع النهضة وبلورة آلية “وثيقة قرطاج” الأولى والثانية مما أثر على الاستقرار الحكومي وأفضى في النهاية الى المأزق السياسي الناجم عن الصراع بين الرئاستين على السلطة. وفي المقابل لم يتدخل رئيس الدولة في بعض الملفات الحساسة من قبيل التهديدات المتصلة بالعلاقات المختلة مع الاتحاد الأوروبي والحال انها تمس من صميم الامن القومي التونسي مثلما هو الحال بالنسبة لمخاطر المديونية المنفلتة والتدخلات الخارجية في شؤوننا الداخلية وكلها قضايا مفصلية متصلة بصلاحياته الحصرية في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والامن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الخارجية والداخلية.

ولعل من اهم القضايا الدبلوماسية التي ميزت فترة حكم الرئيس الراحل، المفاوضات التي انطلقت في أكتوبر 2015 بخصوص اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي علما ان إدارة المفاوضات تركت لرئاسة الحكومة التي تعاملت مع الملف باعتباره مجرد اتفاق تجاري ثم تم توظيفه لاحقا لأغراض انتخابية من قبل رئيس الحكومة يوسف الشاهد في إطار صراعه على السلطة للوصول لرئاسة الجمهورية. وقد بلغ هذا التوظيف حد ابرام الصفقات مع الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع التي قايضت مساعداتها المالية ودعمها السياسي في الانتخابات بإعطاء الأولوية المطلقة لتمرير أليكا خلال 2019 وهو ما تم تقريبا من خلال ادماجها بسلسلة من القوانين اعتمدت على عجل وآخرها القانون الافقي للاستثمار.

والملاحظ ان هذه المفاوضات كانت تكتسي منذ البداية طابعا استراتيجيا ومصيريا بالنسبة لتونس ولمستقبل علاقاتها بالضفة الشمالية للمتوسط فضلا عن ارتباطها الوثيق بالتدهور الخطير للأوضاع الاقتصادية بتونس بعد اندلاع الثورة مثلما بين ذلك بجدارة الخبير الاقتصادي جمال العويديدي في دراسة شاملة صادرة بالعدد 180 من أسبوعية “الشارع المغاربي”. وبالتالي يمكن اعتبار تعهد رئاسة الحكومة بهذا الملف مخالفا للدستور وتحديدا لفصله 92 الذي يحصر اختصاص رئيس الحكومة بالنسبة للاتفاقيات مع الأطراف الخارجية في ابرام “الاتفاقيات ذات الصبغة الفنية” وهو ما لا ينطبق على أليكا المتفرعة عن شراكة دوفيل والمندرجة في إطار مسار برشلونة المتعدد الابعاد الاقتصادية والأمنية والسياسية الذي كان يهدف لإرساء فضاء متوسطي للسلم والامن والتنمية المتبادلة بين الضفتين.

وعلى هذا الأساس يجوز لرئيس الجمهورية القادم استعادة هذا الملف وإعادة النظر كليا في الأطر القانونية والاتفاقيات المنظمة لعلاقاتنا مع أوروبا وما يتصل بها من قوانين وبرامج تم ابرامها مع صندوق النقد الدولي خاصة تتعارض نصا وروحا مع الدور الموكول للدولة في الدستور الجديد في مجال الدفاع عن السيادة واستقلالية القرار الوطني وحسن التصرف في الثروات الباطنية والموارد البشرية وغيرها من الأولويات الاقتصادية والاجتماعية والدبلوماسية ومنها أولوية ادماج تونس بمحيطها العربي الإسلامي.

واجمالا فإن قضية تفعيل الدستور بكافة جوانبه ومكوناته خاصة المتعلقة منها ببرنامجه الاقتصادي والاجتماعي ومشروعه المجتمعي وتوجهاته الدبلوماسية، تعد من الرهانات الكبرى المطروحة على الرئاسة المقبلة التي يمكنها، استنادا الى هذه الأسس المرجعية الدستورية بلورة نمط تنموي جديد يقطع مع سياسة التبعية والارتهان للخارج المفروضة على تونس من خلال ادماجها منذ عقود في منظومة اقتصاد السوق غير المتكافئة.
وفي الجزء الثاني لهذا المقال سنتطرق لاحقا الى حصيلة حكم فترة الترويكا في مجال السياسة الخارجية والاقتصادية والأمنية لنبين انها تتحمل مسؤوليات جسيمة في إضاعة الفرصة التاريخية التي اتيحت لتونس بعد الثورة لاستعادة مقومات استقلالها وسيادتها ومراجعة خياراتها الاستراتيجية بما يتماشى مع مصالحها العليا.

صدر باسبوعية”الشارع المغاربي ” في عددها الصادر يوم 10 سبتمبر 2019.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING