الشارع المغاربي – كمال العيادي الكينغ: ما حدث في تونس يشبه تغيير حذاء نتن بـ"شلاكة بوصبع"

كمال العيادي الكينغ: ما حدث في تونس يشبه تغيير حذاء نتن بـ”شلاكة بوصبع”

قسم الأخبار

8 فبراير، 2020

الشارع المغاربي-عواطف البلدي: هو كاتب يثور لغةً وقلم لاذع وكلمات ساحرة… دائم القلق من لحظات بلا تدوين.. يعشق فصوص النصوص ويمقت لصوصها … أعداؤه الخمول والموت والسكون.. هو طفل لا يكبر .. ومراهق يخجل من نظرة انثى… يرهبه الكتّاب ويخشاه الشعراء ويحذره الاصدقاء .. كمال العيادي هو باختصار «كينغ» في مشاكساته وفي تحريكه السواكن وفي خلق الجدل.. يكتب بمشهديّة عنيفة وساخرة وينتقد بشدّة أوضاع الثقافة والمثقّفين… «الشارع المغاربي» التقى ابن القيروان المهاجر بين الشرق والغرب و«الحالم بمدينة بلا أسوار» للحديث عن منجزه الأدبي وعن حال الثقافة والمثقفين في تونس وفي العالم العربي.

كمال العيادي الكينغ، يصفونك بالكاتب اللاّذع السّليط، وصاحب القلم الأحدّ من السّيف، ومعاركك مع كبار المبدعين في العالم العربي لا تكاد تنتهي.. فما هوّ سبب هذه العدوانيّة وهذه القسوة في حين أنّ كلّ من يعرفك عن قرب يعرف أنّك شديد التواضع والطيبة ؟؟

هناك فرق بين كمال العيادي، والكينغ. أنا شديد التواضع والطيبة والله, لكنّ الكينغ شخصيّة صارمة وحازمة وقاسية وواضحة، لا تجامل ولا تعرف الديبلومسية والتسامح، شخصيّة ملكيّة شديدة الغرور والصلابة والحزم، أخرجتها من بؤس الرّؤية إلى عمق الرؤيا، ودورها الرئيس هوّ تحطيم الأصنام المغشوشة ومحاربة الفساد ولصوص النصوص والشللية وكلّ أشكال ورواسب الإنحراف في السّاحة الإبداعيّة…ورمي الحجر تلو الحجر في عمق البركة الراكدة كي يزعج ضفادعها الخاملة… وقد بيّن الوقت أنّ الكينغ دائما على حقّ لأنّه لا يتحرك وفق أجندة بل وفق خط ثابت بدون حسابات ضيقة.

تكتب أيضا بمطرقة وتنتقد بشدّة وعنف مثقّفي تونس… لمَ كل هذه الشدّة؟ وما هي مبرّراتها؟

أغلب من كتبت عنه بقسوة من بلدي أصبحت مؤلفاته تطلب على مستوى عربي وأصبح مقروءا وسيحشر مع الكبار  مثل حسونة المصباحي وكمال الرياحي ومحمود المسعدي وشكري المبخوت ووليد سليمان وعبد الحليم المسعودي والمنصف الوهايبي وكمال العيادي القيرواني نفسه وهو الذي نال النصيب الأوفر من السلخ الذاتي لذلك أعتذر بشدّة لكلّ من لم أثخنه بقلمي وأعده بمقال ناريّ ما آمنت أنّ يستحقّ فاللامبالاة هي ابشع أنواع الإيذاء. أما في الأدب فالمعارك الأدبية والقسوة هيّ شعلة النور التي أوصلت لنا المتنبي وابا نوّاس والبحتري وأبي تمام والفرزدق والجاحظ والحطيئة والأخطل وعنترة وطرفة بن العبد وحتى بيرم التونسي ويوسف إدريس الشرير ونجيب سرور وعشرات المبدعين، الذين قدّموا لمدونة الإبداع العربي عبر شراستهم أكثر ممّا قدّمت لنا مدوّنة الإخوانيات والعناق و«هات بوسة وخذ بوستين»….وأدعو الله بتضرّع ألا يحرمني يوما من نباح الأعداء والحسّاد فهم والله جمر الأتون.

جعلت من «حومة علي باي» أسطورة وحيّ مشهور جدّا في كلّ أنحاء العالم العربي من خلال رواية (مفاتيح القيروان)، ومجموعة «اعترافات الفتي القيروانيّ» وغيرها حتّى أنّ آخر أعمالك التي صدرت هذا الأسبوع تحمل إسمها، «حومة علي باي وضواحيها».. فما هوّ سرّ هذا التعلّق العجيب بهذا الحيّ الشّعبيّ؟؟!

سؤالك وجيه، ويصبّ في عمق العمليّة الإبداعيّة… «حومة علي باي» في الحقيقة لا تزيد عن كونه حيّ شعبي مليء بالحفر والناموس والذباب وأغلب سكانه من المهمشين والعاطلين عن العمل والمشتغلين في بيع «الروبافيكيا» والأعمال الموسميّة وبعض الماعز والكلاب الهائمة وزبالة في كلّ مكان وقطط نافقة وغسيل صابون مدلوق أمام كلّ بيت. وأغلب بيوته عشوائيّة وغير مدرجة ضمن اهتمامات المجلس البلدي، فهي بلا أرقام ولا اسماء ولا حتى علامات تشير إلى موضع في الخريطة أو في الأرض أصلا ولا تجد فيه غير وجوه أضناها الضنك والهموم وأسطح من الآجرّ الأحمر بنيت على عجل وبدون أسقف. هذه حومة علي باي في الحقيقة. لكنّها في نصوصي جنّة يتمنى كلّ قارئ زيارتها، فأنا أخلط عجينة الرّوح اليانعة بعجينة الطين الآسن.  وأستحضر حميميّة الزّمن والفضاء الأوّل الذي مارست فيه طفولتي، فأجعل الخطايا فيها أروع ما يمكن أن يتمنى القارئ اقترافها وأفتح جيوبا فاتنة في شقوق النّفس البشريّة فإذا هوّ حيّ شعبيّ يمور ويعجّ بالحياة والصّخب والذّنوب الملهمة والمرح البكر والدّهشة الأولى وأعذب مذاق الحياة الحافلة التي تكاد تكون صهريجا يغلي بالبهجة والغواية. وأنا لا أبالغ في ذلك.. فحقيقة أتصوّره كذلك، ثمّة مسافة عندي بين ما هوّ كائن وما يجب أن يكون عليه. حتّى أنني كثيرا ما أباغت نفسي وأنا اقهقه بصوت عال خلال الكتابة أو أنتبه لدمعة حارّة تشوي تنزلق على خدّي وانا مستغرق مع أحد شخوص نصوصي. وأنا أعلم يقينا أنّها لم توجد في أيّ يوم من الأياّم ولم يكن ليحدث معها ولها ومنها ما أصفه بدقّة وتحرّكها في نسيج سرديّ آسر ويضوع بالحياة وتسري فيه روح تشدّك شدّا قويّا لا تكاد تقوى على مقاومته.

قد يكون لاستعمالك ضمير المتكلّم دور في تصديق القارئ للوقائع التي تسردها حتّى أنّ أغلب النّقاد يدرجون مؤلفاتك ضمن أدب السيرة الذاتيّة.. فلماذا تعمد في أغلب الأحيان إلى إستعمال ضمير المتكلّم في قصصك ومنجزك السّرديّ..؟؟

أرتاح بصراحة لاستعمال ضمير المتكلّم حين أكتب.. وهذا مشروع وطبيعي.. وهو الأقرب لمنطق من يريد الإقناع بتحريك شخوصه وجعلهم يتقاطعون في عوالم ممكنة وقريبة من الواقع.. ولماذا نستغرب ذلك؟ ولا نستغرب من كاتب السيناريو أو الأعمال الدرامية مثلاً التي نحتت لكلّ شخصية اسمًا ورسمًا ليلبسه الممثل والقائم بالدور ويتكلم باسمه وبضمير المتكلم فيه.. أنا أيضًا أتقاطع مع شخوصي وأؤمن بها ولا أحقد عليها ولا يؤذيني أن أمنحها ضميري لتتكلم به وتخربط من خلاله بين الدّمعة والضّحكة.. هذا كلّ ما في الأمر.. أما عن السيرة الذاتية فأنا أنظر بريبة لكلّ كاتب يكتب سيرته الذاتية وهو لم يكمل نصف مشروعه بعد.. مِن حقه أن يكتب سيرة ذاتية ولكن لا ينشرها في كتاب تام وشاهد عليه.. مَن يكتب سيرته الذاتية فهو يكتب وصيّته وعليه أن ينزاح قليلاً ليترك مكانه لمَن هوّ في طور عيش وممارسة سيرته الذاتية التي تنتهي بموته أو تقاعده..وأنا أدعو كلّ كاتب يكتب سيرته الذاتية بإلحاح أدعوه أن يستقيل قبل ذلك ويعلن رسميًا أن حبره جفّ ومنابعه يبست وقد فعل كثيرٌ من الكُتاب ذلك، أما أنا فلا دخل لي بالسيرة الذاتية..فمازال قدّامي نصف عمر كامل وأصر عليه وأنا أبدأ ككاتب حقيقي صبيحة كلّ مرة يصدر لي فيها كتاب,.. طبعًا، لا علاقة لي بشخوصي غير أنّني خالقها ومحرّكها ومخرجها من الظلمات إلى النّور ومسارح الحياة. حقيقة  لا علاقة لي إطلاقًا بشخوصي غير ما فسرت.. رغم أنّ فيها بطبيعة الحال من سخطي ومن نفسي ومن روحي الكثير.. تقاطعًا إيجابيًا حينًا وعكسيًا حينًا آخر.. أنا أخجل أن أنظر لفتاة في عينها رغم ان لساني سليط ونصوصي لا تخلو من فحشاء ومن منكر.

هل يمكن للكاتب الذي يتقن لغات عديدة ويقرأ أغلب المنجز الإبداعي بلغته الأمّ أن لا يتأثّر بكبار المبدعين ؟

عليك أن تحدّدي لي السؤال أكثر لأعرف عمّن تتحدثين، ومن تقصدين؟…

هل يمكن التخلّص من تأثير أصحاب المعاطف الآسرة كمعطف غوغل وديوستويفسكي وميللر وكافكا وماركيز وميشيما وبورخس ويوسف السباعي ويوسف إدريس ونجيب محفوط وعلي الدوعاجي وكاتب ياسين وغيرهم من كبار الحيّ؟

هناك الكاتب وهناك المستكتب. المستكتب جمعه مستكتبون وصيغته أن صفته في الجمع على وزن مصطلح وهم (كتاّب عموميّون) ومفرده (كاتب عمومي) وهذا طبعًا معرضّ لأن يكون لصًا أو مختلسًا أو في أفضل الأحوال معرض لأن يكون ضحيّة الإعتداء عليه من طرف الكتاب الكبار الحقيقيون ليتلبسوه ببصمتهم ورائحتهم وأسلوبهم ومرحهم أو تجهمهم .. فهؤلاء الطبقة هم من قماش سردي أو شعري شفاف يظهر ببساطة ويفضح من وراءهم..

أما النوع الثاني من الكُتّاب فهم غيلان حقيقيون. لا يتأثرون بأية بصمة أخرى ولا تركب عليهم، بالعكس هم حين يتأثرون بجملة ما أو صورة ما فهم يضيفون إليها، وخذي مثال ذلك ما ورد في الأغاني وفي كتب التاريخ الأدبية التي تذكرنا بسرقات أبو الطيب المتنبي والفرزدق الذي كان يمر بالمربد فيجد ذا الرمّة مثلاً أو شاعر آخر غير جرير والأخطل منافساه الوحيدين طبعًا فكان حين يعجبه بيت يلتفت لصاحبه وهو على صخرة المربد ويقول لراويته ضمّ هذا البيت إليكَ يا هذا، ثم ينظر لصاحب البيت المميز ويقول له «لقد كفيتك هتك عرضك فلا تردده بعد اليوم أبدًا فهو لي..». هكذا كان الأمر.. والفرزدق أهم ملايين السنوات الضوئية من ذي الرمّة ومن كلّ شاعر عاش معه ما عدا جرير والأخطل الذي يقف معهما في نفس الطبقة تقريبًا مع تميز لجرير عن كلّ شعراء العرب والأرض حسب إعتقادي. فهو معجزة ربّانية أكثر منه شاعرًا… وجابريال غارسيا ماركيز أيضًا يختلس من كاواباتا، وكاواباتا أيضًا ينحت من شينغاي وشوين وونغ… وهكذا.. لكن الكتاب الكبار حين يتأثرون يضيفون ولا يتلونون، فمن هذه الناحية لا خوف على كاتب حقيقي…

قمت بترجمة العديد من النصوص من الروسيّة وكان أوّل إصداراتك ترجمات لبوشكين وليرماتوف وكريلوف وغيرهم.. فكيف تقيّم حركة الترجمة في العالم العربي الآن؟

بصراحة حركة الترجمة عندنا ملف مخجل ومربك أنا أشعر بالشفقة والحزن حين أقرأ أن بلدًا صغيرًا في حجم علبة السردين مثل إسرائيل تترجم سبعة أضعاف ما يترجم في كل البلدان العربية، وأن بلدًا صغيرًا جدًا مثل النمسا أو حتى ألمانيا يترجم ثلاثة ملايين عنوان لعمل فني وأدبي في السنة، بين السينما والبرامج التليفزيونية وكتب للأطفال والروايات.. بينما نجد أننا لا نكمل العشرة آلاف عنوان في أفضل الحالات وضف على ذلك أن الأغلبية من السادة المترجمين المحترمين يتحايل ويترجم عن لغة واحدة يتقنها من كلّ آداب العالم، وبصراحة أنا أنظر بريبة لكل من يترجم عمل إبداعي عن لغة وسيطة ليست لغته، لقد كان هذا حلاً من اختراع اللبنانيين في الستينيات والسبعينيات وكان ضروري أن نتطلع من خلال مترجمين مكلفين بمهمة لترجمة عيون الأدب عن الإنقليزية والفرنسية في الغالب، لكن لا أفهم الآن لماذا يواصلون ذلك ويترجمون عن لغات وسيطة ويحرقون أعمالاً فذة من أجل حفنة من النقود؟ أنا أعرف مَن يترجم كلّ ستة أشهر عملاً من لغة جديدة وعملاً ضخمًا فوق ذلك وفي اعتقادي أن صمته وموته أفضل للأجيال القادمة من آثار هذه الجرائم، أنا ترجمت لبوشكين وليرمانتوف وكريلوف وغيرهم لأنني أحسست بحرقة أن أقرأ آثارًا تشبه عيون نصوصنا الفصوص مثل كليلة ودمنة والقرآن والأغاني وغيرها وهي كتب مترجمة منذ بداية القرن الخامس عشر للرّوسيّة عن طريق المشروع المسيحي الأرتودوكسي الكبير في عهد العائلات القيصرية وبداية التجارة مع الشرق ومحاولة الرّوس افتكاك الأسواق من الأساطيل البريطانية والبرتغالية. وأحيانًا أحتاج لشهر كامل من العمل اليومي من أجل ترجمة قصيد واحد. فكيف يمكن لأحدهم ترجمة كتاب ضخم في ألف صفحة في شهرين؟ وعن لغة لا يتقنها أصلاً فوق ذلك! وكل هذا ومازلنا نحبو، رغم أننا كنا في القرن الثاني للهجرة مثلاً نترجم ضعف ما يُترجم الآن في القرن العشرين، في عصر الأزرار والأشرار، وكبسة الفأرة والتظليل والإدراج وفبركة النصوص من معدة ومصارين العم قوقل الكريمة، والله حقيقة مهزلة.. مهزلة حقيقية ما يدور من أمور.

هل فكرت يوما في مشروع ترجمة إبداعات عربية للغات الأجنبية والمساهمة بتعريف الضفّة المقابلة على ما تراه جديرا بذلك ويستحق الترجمة من الإبداع العربي سردا أو شعرا؟؟

كما سبق وأن ذكرت إجابة عن سؤالك السابق فأنا ترجمت الكثير عن الرّوسية وصدر منها عن بوشكين وليرمنتوف وكريلوف تحت موضوع رئيس واحد وهو مقاربة مع نصوصنا بترجمة شعرية باللّغة العربيّة استعملت فيها السجع والنثر المقفى والخليليّ، وكانت تجربة أعتز بها وأنا بصدد إنجاز مشروع ضخم بترجمة ألف قصة للأطفال عن الرّوسية والألمانية صدر منها العديد من النصوص الفُصوص وأسّست دار «الكمال للنشر» أساسا من أجل هذا المشروع، ولكن بصراحة ليس لدي المزاج ولا الوقت لترجمة أعمال عربية للغات أخرى أتقنها، ولماذا أصلاً؟ كان الأولى أن أترجم لنفسي، أنا لا يهمني أن يطلع العرب عمّا أكتب بصراحة، على الأقل ليس من أولوياتي الآن، أهم شيء بالنسبة لي أن أكتب وأكتب وأكتب.. الترجمة والجوائز والهوامش لا تعنيني الآن بالتأكيد.

رغم أن خلفيّة الكاتب التونسي والمغاربي عموما هي الثقافة الفرنسيّة.. فلماذا اخترت اللّغة الرّوسية والألمانية؟

اللّغة الرّوسية اخترتها عن قناعة ودرستها في تونس في المركز الثقافي الرّوسي وأنا في بداية حياتي الجامعيّة الأولى، وكان السّبب الذي من أجله وافقوا على تمكيني من منحة سخيّة للدراسة في روسيا وموسكو تحديدًا بمعهد السينما الدّولي رغم أنني كنت أدرس المسرح بالمعهد العالي للفن المسرحي أيامها وكنت فقط أتابع الدّروس اللّيليّة بالمركز الثقافي الرّوسي، وقد عشقت حدّ الهيام هذه اللّغة الفاتنة وإلى حدّ اليوم وبعد ربع قرن من عدم تطبيقها عمليًا في كلامي.. وبالمناسبة اللّغة الرّوسية قريبة جدًا في عمقها وثرائها وحميميتها ومبالغاتها من اللّغة العربية بل ربمّا هي أقرب اللّغات بعد الأرمينيّة والفارسيّة للّغة العربية وخاصة في صيغ المبالغة والهجاء والمدح والتكثيف والتبطين.

أما عن الألمانية فقد فرضت عليّ بصراحة لأنني حملت جسدي معي كمهاجر هناك في ميونيخ وكان لا بدّ لأعيش وأدرس أن أتعلم لغتهم بشكل جيّد، والحقيقة أنني اكتشفت عمقها وصرامتها بعد سنوات طويلة من سنوات الجامعة. وتحديدًا حين بدأت في نقاشات ساخنة مع ابنتي الدكتورة ياسمين العيادي المولودة هناك والتي لا تكف عن الأسئلة الجوهرية بعمق فاتن جعلني اقتنع بجدارة الألمان بتزعم المدارس الفلسفية الدّقيقة والواضحة والمباشرة فاللّغة الألمانيّة لا تتوفر كثيرًا على مساحات للتضليل والإستعارة خارج حدود الشعر طبعا.. بل حتى في الشعر نجد أن الترميز المباشر أكثر حضورًا من الإستعارة التي تجرّد المصطلح تقريبًا من أكثر معانيه تحديدًا وتلوح به صوب معان أخرى لا يكون فيها المصطلح غير مطية مفتعلة لمعنى آخر أهم عند الكاتب.

ماذا يعرف القارئ الغربيّ عنّا وكيف يتعاملون مع المنجز الإبداعي العربي الذي بدأت الترجمات الجادّة في تقديمه منذ السبعينات عن طريق مترجمين كبار من المستشرقين أو الذين يتقنون لغة الموطن والمنفى الاختياري أو الاضطراري على حدّ تعبيرك؟؟…أين نحن تحديدا في خرائطهم الإبداعيّة؟؟

نحن بعيدون سنوات ضوئية عن الغرب، وجدلية الشرق والغرب مازالت أهم موضوع يشغل ويثير اهتمام الغرب في تطلعاتهم وانتظاراتهم للترجمات من العربية، مازال الطيّب صالح الرّوائي المفضل لديهم لأن لغته طريفة ومفهومة، وما زالوا يريدون باعة بهارات مثل رفيق شامي وعلاء الأسواني وينفخون في صورهم ويملؤون كبدهم وأفواههم بالمال والعقود حتى يغرون البقية ويدجنونهم، وهذا ما يحدث للأسف، لأنّهم يكتبون حسب مطالب وانتظارات الغرب الذي يريد موقفًا إنسانيًا مع اليهود ويريدنا وكأنّنا حيوانات أليفة تقفز وتنط كالنسانيس وربعنا شهريار والرّبع الآخر شهرزاد والرّبع الثالث مسرور السّيّاف والبقيّة شخوص ضائعة وخواطر بشرية تتخبط في مستنقع الرّذيلة والسّخط أو الإيمان الضال … وهكذا.

وانت المقيم بأوروبا، كيف تقيّم هذا الحراك الشعبي الممتد على خارطة الوطن العربي…. هل هو الربيع ام هو الخراب؟

نحن شعوب الأسماء بامتياز، والأفعال مقامها في الإعراب مقام خبر مكسور بالضمة، شعب زغاريد وغمة، ويبدو وأننا تسرعنا كعادتنا في لف هذا السخط الشعبي في قرطاس بالغ الرومنسية وكتبنا عليه عبارة ثورات عربية، والحقيقة أن ما حدث يشبه تغيير الحذاء النتن بـ«شلاكة بوصبع» مع جوارب من وبر الإبل مستوردة من يثرب، الثورة ليست بتغيير عقلية الرئيس، بل بتغيير عقلية الشعب، بمعنى وضع مشروع مواز بابعاد ثلاثة، خطة قصيرة المدى بخلع كل المسامير الصدئة المؤذية والمنحرفة، وخطة متوسطة المدى بملء الفراغ ببديل تكنوقراطي كفؤ وفاعل في كافة المجالات، وخطة طويلة المدى بتثوير المنظومة التعليمية من الجذور، واخيرا الكف عن الصراخ والشروع في الفعل…حينها فقط ستعود لعبارة الثورة معناها وموقعها من الاعراب، مع تغيير عبارة الإعراب(الهمزة تحت الالف) للاحتياط. لأنها مشتقة من عبارة الأعراب(الهمزة على رأس الألف) الأجلاف وعشّاق الصراخ والصياح في المساء وفي الصباح.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING