الشارع المغاربي – تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة: المعادلة "السبسيّة" المُستحيلة

تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة: المعادلة “السبسيّة” المُستحيلة

7 يوليو، 2018

الشارع المغاربي-بقلم: عبد العزيز المزوغي: قدمت لجنة الحريات الفردية والمساواة التي أحدثت يوم 13 أوت 2017 من قبل رئيس الجمهورية تقريرها،المُقسّم الى جزئين جزء يتعلق بالحقوق والحريات الفردية وجزء يُعنى بموضوع المساواة.

وقد تطرق التقرير الى جُلّ المسائل الخلافية التي يتخبط فيها المجتمع التونسي منذ الثورة والمراجعات الجذرية التي تريد بعض الأطراف السياسية ادخالها على النمط المجتمعي السائد في تونس منذ الاستقلال.

وجاء هذا التمشي في تناقض تام مع قرار رئيس الجمهورية التحالف مع الإسلام السياسي وتثبيته في كل المواقع التي اكتسبها في فترة الترويكا وتمكن من المحافظة عليها عبر حكومة الرباعي الراعي برئاسة المهدي جمعة.

والسؤال الأول الذي يتبادرالى الذهن هو لماذا أقدم الباجي قائد السبسي على هذه المبادرة وهو يعلم جيدا انها ستثير حفيظة حلفائه الذين يعتبرون أن المخزون المجتمعي الديني هو العنصر الأساسي لوجودهم السياسي ولتمكنهم في الاذهان والمواقع؟.

محاولة استقراء مقاصد هذه المبادرة تحيل الى عدة احتمالات منها الغث ومنها السمين ومنها المطبوع بطابع المسؤولية الريادية ومنها ما يخضع ربما لاعتبارات سياسوية ضيقة. فقد نجد من الطبيعي ان يهتم رئيس الدولة بوصفه المسؤول الأول عن الانسجام بين اهم المصادر القانونية بمطابقة التشريعات السابقة لدستور 2014 الدستور الجديد والمعاهدات الدولية. وهذا ما وقع التعبير عنه بصراحة في مقاصد اللجنة.

ومع ذلك يمكن التساؤل عن غياب كل نية سياسويه في هذا التمشي إذا علمنا أنّ حلفاءه لا يستطيعون بشكل أو بآخر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة هضم ما طرحت اللجنة من مسائل خلافية مثل عقوبة الإعدام والتكفير والمثلية والمساواة بين الرجل والمرأة في قانون المواريث والتي اعتبرته كل القوى السلفية الفكرية منها والسياسية «التفافا مشينا على قيم الإسلام».

فاذا اعتبرنا مثلا ان هذا التمشي من قبل رئيس الجمهورية هو بمثابة امتحانا لحلفائه وعربونا لقطعهم مع منطق “الإخوان” فهذا الامتحان قد يبدو متأخرا نوعا ما وانه كان على رئيس الجمهورية ان يتأكد من ذلك قبل التحالف معهم والسماح لهم بالتمكن والتجذر في قلب الدولة اذ يعتبر البعض ان الامتحان الحقيقي لنوايا “الإسلام المعتدل” هو الزج به في المعارضة لاختبار قدرته على التحكم في أعصابه وعدم لجوئه الى الفوضى والعنف عند خروجه من “الحكومة والسلطة معا” .

وهناك احتمال آخر وراء تكوين ورعاية هذه اللجنة وهو محاولة استرداد القواعد النسائية والرجالية التقدمية والحداثية التي أدار لها الباجي قائد السبسي الظهر بعد انتخابات 2014 والتي ساندته ضرورة لا عن قناعة والتي أصبحت غير مستعدة للسير ورائه اليوم مهما كانت المخاطر والاحتمالات. وقد يكون الباجي قائد السبسي أراد من ناحية أخرى بهذا العمل محاكات الزعيم الحبيب بورقيبة ولكن الزمان غير الزمان ووضعية الشيخ عبد العزيز جعيط غير وضعية شيوخ وعلماء اليوم.

بطبيعة الحال اثارت تركيبة اللجنة عدة احترازات لدى عديد الأطراف لأننا في بلد يعتبر كل مواطنيه انهم أجدر من غيرهم في نفس الاختصاص بـ”التشريف” وان عضوية لجنة ممتازة مثل لجنة الحريات الفردية والمساواة تعتبر بالنسبة للشأن الديني من بين حقوق البعض المشروعة ولكن إذا ما تجاوزنا هذا اللغو البسيط فانه من الطبيعي ان نتساءل عن الطريقة التي اعتمدت من قبل رئيس الجمهورية وممّن حوله في تعيين أعضاء هذه اللجنة.

لقد فكر على ما يبدو رئيس الجمهورية في تعيين لطفي زيتون صاحب فتح مكة الذي تحول منذ اشهر الى حمامة بيضاء بحكم قربه من رئيس حركة النهضة في هذا اللجنة لكن هذا الأخير رفض بعد استشارة ابيه الروحي بطبيعة الحال راشد الغنوشي حتى لا تتورط النهضة ورئيسها في موضوع لا يمكن ان تختلف فيه هذه الأخيرة مع “علماء تونس” ومع قواعدها فوقع اللجوء كالعادة الى الممثل غير الرسمي والوحيد للإسلام السياسي صلاح الدين الجورشي .هذه الوضعية تمكن من تطويع اعمال اللجنة قدر المستطاع في اتجاه عدم المساس بالمقدسات القانونية دون تحمل أية مسؤولية في اخفاق هذه المساعي.

وقد اثارت هذه المناورات الهادفة الى تحويل هذه اللجنة الفنية والقانونية والاجتماعية الاستشارية الى لجنة توافقات سياسية توجس رئيس الدولة الذي اضطر على ما يبدو الى التدخل في عدة مناسبات لارجاع الامور الى نصابها والتذكير بأهداف اللجنة. وقد أصبح هذا التمشي ممكنا نتيجة تسرب عدوى “التوافق” الى الطبقات السفلى من سلطة القرار.

لقد اثار نشر هذا التقرير ضجة كبيرة في البلاد وانهالت العصابات الالكترونية المنظمة والمأجورة بالسب والشتم على أعضاء اللجنة ووصل الامر الى حد تهديدهم. سب وشتم أصبحا منذ الثورة أحد مقومات الديمقراطية وحرية التعبير ويمارسان على قارعة الطريق وفي شبكات التواصل الاجتماعي وفي المساجد التي حيدها الدستور عن “الدعاية الحزبية” لكنهما لم يُحيّداها عن العمل السياسي الموجه.

وتتالت البيانات من مختلف المصادر وهذا قد يعتبر شيئا طبيعيا في بلد صُلب فكريا واجتماعيا لكن هذه البيانات والصراعات التحتية العميقة التي تعبر عنها والتي تمس بجوهر الفلسفة العامة لتنظيم المجتمع لا تبشر بخير وتأكد ان الفرق الإسلامية السلفية بمخلف أصنافها وشخصياتها من “علماء تونس” الى عادل العلمي مرورا بالإسلام السياسي المعتدل والماسك بجزء من أجهزة الدولة في حالة “سلم مسلحة ” يتربصون بأعدائهم للإيقاع بهم لما يسمح الظرفان الوطني والدولي بذلك.

فقد صدر مثلا عن جامعة الزيتونة التي ليس لها أية أهلية لاتخاذ مواقف من هذا القبيل بيان عبّرت فيه عن رفضها لتقرير اللجنة معتبرة إنه يعد «التفافا مشينا على قيم الإسلام وتعاليمه»، فيما نددت في بيان ثان “بعدم تشريكها في اعداد التقرير الذي هو من صميم تخصصها” وتوعدت بالرد عليه معتبرة ان ما صدر عنها “دفعة أولى على الحساب”في انتظار تفنيد ما ورد في التقرير ودحضه دحضا تاما.

هذا يؤكد ان محاولة استهواء الأوساط الرجعية عن طريق اقحام بعض الإسلاميين في اللجنة أمثال صلاح دين الجورشي واقبال الغربي لا يجدي نفعا وانه إذا كان لا بد من تمثيل الإسلام السياسي والجامعي-وهذا في نظري ليس ضروريا – لمناقشة قوانين وضعية لدولة مدنية فانه كان أحرى برئيس الجمهورية تمثيل هذه الاوساط في اللجنة واجبارها على اتخاذ مواقف واضحة ورسمية وعدم التستر وراء شخصيات إسلامية لا يعترف في الحقيقة أحد بتمثيليتها.

ان الموقف المنبثق عن علماء الزيتونة جاء بالحدة التي رأينا رغم تنقل رئيسة اللجنة في عدة مناسبات للحديث معهم ورغم اتصال صلاح الجورشي بهم الذي لم يحظ على ما يبدوا باستقبال أخوي وودي.

ومن جهة أخرى ندّد “حزب التحرير” بالوثيقة ووصفها بـ«المشروع المحارب للإسلام» ودعا للتحرك ضدها واعتبرت التنسيقية الوطنية للدفاع عن القرآن والدستور والتنمية العادلة: (التي أسست على ما يبدو بهذه المناسبة) والتي يترأسها نورالدين الخادمي وزير الشؤون الدينية السابق أن تقرير اللجنة هو عبارة عن «فتنة» ومشروع انقلابي على النمط المجتمعي التونسي.

ومما يلفت الانتباه ان بعض أعضاء النهضة وخاصة لطفي زيتون الذي يعتبر “أنّ الإسلام لا يمنع تطبيق مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث إذا اتفق الناس على ذلك” وضعوا أنفسهم في خندق آخر مناقضا تماما لموقف الخادمي ومن معه. فهل هذه حلقة جديدة في مسلسل “ازدواجية” الخطاب النهضوي أم هل إن هذا الموقف حقيقي ولكنه لا يعكس رأي الأغلبية في حركة النهضة وضواحيها ؟

لقد عُرف لطفي زيتون بشراسته زمن الترويكا وبمشاركته في جميع المشاهد الاخوانية لتحرك حركة النهضة ولكنه أصبح اليوم في علاقة طيبة مع بعض الوجوه الحداثية ورغم قربه من راشد الغنوشي يُعتقد انه لا يعكس – ان كان صادقا فيما يفصح عنه-الراي السائد في حركة النهضة وان العديد من قيادات حركة النهضة في مرحلة انتظار لأسباب داخلية وخارجية.

ان موقف الزيتونة وعلماء تونس وحزب التحرير من تقرير لجنة الحريات الفردية والمساوات أقرب من التمشي العام لحركة النهضة وإن ما ذهب اليه نور الدين الخادمي باعتباره أن التقرير “يبيح الشذوذ ويلغي القوامة ويحرم المرأة من حقها الشرعي في النفقة”، داعياً ديوان الإفتاء إلى إصدار فتوى ضده وأن “أحكام الأحوال الشخصية تفصيلية في القرآن ولا مجال فيها للاجتهاد أقرب جينيّا من مواقف حركة من الشذوذ الفكري والتكتيكي للطفي زيتون.

ويعتبر من جهة أخرى صمت النهضة المدوي وعدم الإفصاح عن رأيها في هذا الموضوع الكبير الأهمية من وجهة نظرها وسط تفاعل معظم القوى السياسية مع التقرير مؤشرا على حرجها وربما على وجود خلافات داخلها حول هذا الموضوع .

في المقابل فان نداء تونس والأحزاب والجمعيات الحداثية ساندت المشروع الذي اعتبره البعض الحد الأدنى كما ان بعض الشخصيات الوطنية غضت النظر عن النقائص والحلول المبتورة التي تضمنها التقرير وعبرت عن مساندتها له رغم احترازها على ما جاء فيه من غموض وتراجع عن المبادئ الأساسية التي افرزها التقرير نفسه.

ان صدور التقرير بهذه الشاكلة رغم ما يعاب عليه من نقائص ورغم المناورات العديدة لتطويع عمل اللجنة في اتجاه “التوافق” الذي لا “يدمل الجراح” حسب تعبير نايلة السليني المختصة في الشأن الإسلامي يجعل الحكم له أو عليه لا يمكن ان يأتي الا بعد تجسيده على أرض الواقع القانوني بعد المساومات والعراقيل التي ستعترضه في كل مرحلة خاصة في هذه الفترة التي تتميز بالضعف المتناهي للباجي قائد السبسي وحزبه وتأثيره في الشأن السياسي بصفة عامة. فهل سيتمكن رئيس الدولة الذي حرص على تكوين اللجنة وأشرف على أعمالها من تطوير تشريعات “دولة مدنية لشعب مسلم” في اتجاه الحداثة والانفتاح أم انه سيفشل من جديد أمام الفيالق المنظمة للرجعيات المختلفة التي لا يقابلها الا التشتت والحيرة والحسابات الضيقة ؟.

مقال صادر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها ليوم الثلاثاء 3 حويلية 2018.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING