الشارع المغاربي – دفاعا عن رؤية عمومية تشاركية لاصلاح الاعلام (2): بقلم محمد اليوسفي

دفاعا عن رؤية عمومية تشاركية لاصلاح الاعلام (2): بقلم محمد اليوسفي

12 أكتوبر، 2018

الشارع المغاربي : كثيرة هي المفارقات التي عرفها الاعلام التونسي بعد الثورة،فعلى الرغم من وجود ترسانة هامة من القوانين والنصوص التي تتيح نظريا هامشا كبيرا من الحرية للاجتهاد من أجل تطوير المضامين الصحفية وتحسين جودتها فإنّ الاداء الاعلامي مازال قاصرا عن الوصول لمرحلة بناء منظومة اعلامية ديمقراطية تجعل من الصحفي سلطة قويّة مضادة لكل قوى الجذب إلى الوراء.

يكفي الاشارة في هذا المضمار إلى ندرة التحقيقات الاستقصائية والمضامين التفسيرية العميقة التي يمكن أن تعدّل بوصلة الساسة نحو القضايا ذات الاهمية القصوى التي تخص مباشرة المواطنين ومشاغلهم. أليس الصحفي هو ضمير الشعب كما يردّد البعض؟

إنّ المشهد الاعلامي الحالي تكاد تغيب عنه المقاربات الصحفية التي تقوم على الانارة لا الاثارة والابتذال ما جعل صورة الاعلام والاعلاميين تهتز لدى المجتمع الذي هو بدوره في حاجة ماسة إلى التثيقف والتوعية والتربية على التعامل وسائل الاعلام لفهم طبيعة الوظيفة الاجتماعية لهذه الاجهزة وأساليب التلاعب الممكنة.

لقد بات الاعلام في منافسة محتدمة مع وسائط الميديا الجديدة ما ساهم في انتشار صحافة “السندويتش” والاخبار الكاذبة والاشاعات المفبركة وجنس التسريبات الموجهة وهو وضع يعكس الظرفية السياسية الانية التي انقسم معها الاعلام الى ملل ونحلل وقد ألقى هذا الواقع بظلاله على أخلاقيات المهنة وميثاق الشرف الصحفي حيث تعددت الانتهاكات والتجاوزات بشكل مفزع.

الصحفيون أنفسهم ليسوا بمنأى عن واقعهم المعيش وظروف الاقتصادية فقد كشفت دراسة أعدها مركز تونس لحرية الصحافة في سنة 2017 حول استقلالية الاعلام والمناخ الاجتماعي للعاملين في القطاع أنّ 50 بالمائة من المستجوبين يتقاضون أجورا من المؤسسات المشغلة تقل عن 400 دينار شهريا و 80 بالمائة منهم يحصلون على رواتب أدنى مما تنص عليه الاتفاقية القطاعية المشتركة.

كما أفادت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين ابان ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة في ماي 2017 أنّها رصدت خلال سنة واحدة أكثر من 180 حالة طرد تعسفي لصحفيين وأكثر من 480 اعلام بعدم خلاص أجور اعلاميين في أوانها خلال نفس الفترة.

فهل يمكن أن تتحمّل هياكل المهنة لوحدها مسؤولية هذا الواقع المرير الذي يصبح معه الحديث عن اعلام حرّ ونزيه ومنظومة اعلامية ديمقراطية متماسكة مجرد عبث هلامي؟
إنّ هذه المعطيات غير القابلة للتشكيك تجعلنا إزاء ضرورة التفكير بشكل عاجل لا آجل في الحلول الممكنة لانقاذ القطاع الاعلامي من سياسة التفقير التي تمارس على الصحفيين ومن براثن المال السياسي الفاسد والأجندات المشبوهة لبعض اللوبيات التي تحاول توظيفه لخدمة مصالح لا علاقة لها بأهداف الثورة ومقتضيات الانتقال الديمقراطي وانتظارات المواطن التونسي الحالم بالتغيير عوض التفصي من المسؤولية أو التطبيع مع هذا الواقع الأليم من خلال التعايش معه والقبول به أو ربما لعب أدوار سياسية بعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية وجوهر المشروع الديمقراطي الذي تاهت بوصلته في زحمة الباحثين عن الغنائم والمنافع الخاصة.

من الاجحاف في نظرنا تحميل المسؤولية فقط لهياكل المهنة الصحفية بمختلف مشاربها وتنظيماتها ولكن من المهم اليوم التعجيل بفتح نقاش وطني للردّ عن تساؤلات مركزية: أيّ اعلام نريد؟ وكيف السبيل لاصلاح الاعلام والحدّ من سطوة اللوبيات التي ستظلّ مؤثرة وموجودة مهما كانت درجة النجاح في تحجيم دورها وتجفيف منابع روافدها وأجنداتها؟ وهل يمكن قلب المعادلة لجعل الاعلام الوطني في خدمة تجربة الانتقال الديمقراطي عوض أن يكون أحد أبرز المخاطر التي تعتريها في ظلّ المحاولات المحمومة الرامية لجعله أداة لافساد الحياة الديمقراطية من خلال الهيمنة على المجال العمومي والتلاعب بعموم الجمهور لاسيما من الناخبين؟

إنّ طريق الاصلاح تتطلب لزاما التوافق حول رؤية عمومية تشاركية في علاقة بالاعلام تنخرط فيها مؤسسات الدولة وأساسا الحكومة ومجلس نواب الشعب وهياكل المهنة الصحفية والهيئات الدستورية والمستقلة ذات العلاقة بالقطاع من أجل تحديد الاولويات وآليات التنفيذ لتحصين الجسم الاعلامي وجعله رافدا للبناء الديمقراطي.

هذه المقاربة لا يجب أن تنطلق من ورقة بيضاء بل من الضروري أن ترتكز على فلسفة المراكمة والاخذ بعين الاعتبار بكل ما تحقّق من ايجابيات في السنوات الماضية ويمكن من هذا السياق أن يكون التقرير العام الختامي للهيئة الوطنية لاصلاح الاعلام والاتصال الصادر في أفريل 2012 أحد الوثائق المرجعية التي من المهم الاستناس بها،علاوة عن برنامج دعم الاعلام الذي انخرطت فيه الدولة التونسية بالشراكة مع الاتحاد الاوروبي منذ سنة 2015 والذي خصصت له اعتمادات مالية تقدرّ بحوالي 30 مليارا.

كما أنّه لابدّ من فتح ملفات الفساد في القطاع الاعلامي بكلّ جديّة ومسؤولية خارج بوتقة الانتقائية وتصفية الحسابات وفي كنف الشفافية والاستقلالية بالنسبة للسلطة القضائية التي هي وحدها الكفيلة بأن تكون ضامنة لسلامة هذا المسار الشائك.

الدولة لا الحكومة فقط مطالبة بدورها بتعديل سياساتها تجاه الاعلام من خلال دعم الحريات الصحفية بالنظر إلى كون ذلك يمثل استثمارا في الديمقراطية والتأسيس لفكرة المواطنة والتنمية الشاملة.وهنا من الضروري التحذير من خطورة المنعطف التشريعي المرتقب المتعلق بالمصادقة على مشاريع القوانين التي تخص حرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر والاتصال السمعي البصري والهيئة العليا الدستورية التي تعنى بهذا الاختصاص والتي تعوض كلها المرسومين 115 و 116.

كما ينبغي بشكل عاجل تفعيل مجلس الصحافة الذي يعدّ الاول من نوعه عربيا والذي ولد من رحم مبادرة صادرة عن المجتمع المدني من أجل التصدي لنزيف التجاوزات والاخلالات التي مست أخلاقيات المهنة وميثاق الشرف الصحفي.

من الممكن أيضا التفكير في صياغة ما يمكن أن نسميه ميثاقا اعلاميا وطنيا تشارك فيه جميع الاطراف المعنية بعملية الاصلاح وتتم في تضاعيفه تحديد أرضية مبدئية مشتركة ملزمة من الناحية الأخلاقية وهي تدور في فلك ماهية دور الاعلام والصحافة الايجابية في علاقة بثلاثية الاخبار والتثقيف والترفيه وبالمشروع الديمقراطي في ابعاده التربوية والثقافية والتنموية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

إنّ الشخصية القاعدية الصحفية هي الاخرى في حاجة ملحة إلى إعادة البناء لتجاوز حالة الفقر العلائقي بين الصحفيين أنفسهم وأزمة الأداء الاعلامي انطلاقا من منظومة التكوين الجامعي وصولا لعملية التعديل الذاتي من خلال الدورات التدريبية التي يجب أن تكون ذات جدوى ومحلّ تقييم مستمر.

علاوة عن ذلك، من الضروري التعجيل بحسم ملف المؤسسات الاعلامية المصادرة عبر التفويت فيها وفقا لآليات موضوعية وشفافة تكون فوق الشبهات والأجندات السياسوية والمالية ما يسمح باستمراريتها وعدم توظيفها مستقبلا في قادم الاستحقاقات الانتخابية،بالاضافة إلى تفعيل قرار الحاق اذاعة الزيتونة للقرآن الكريم بمؤسسة الاذاعة التونسية والذي ظلّ حبرا على ورق منذ سنوات نظرا لخصوصية طابعها الديني مع توفير ظروف مواصلة نجاحها في استهداف شرائح واسعة من المجتمع التونسي ضمن مقاربة تقوم على خطاب معتدل متسامح يمكن أن يساعد على مجابهة الارهاب والفكر الديني المتطرف.

إنّ الهياكل المهنية الصحفية لها دور محوري في انجاح أي مسار لاصلاح الاعلام وهي مطالبة بالنأي بنفسها عن الاصطفافات السياسية من أجل الحفاظ على استقلاليتها والدفاع عن مطالبها النقابية المشروعة بكلّ الاشكال المدنية الديمقراطية فالنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين على وجه الخصوص قادرة على أن تكون لها أدوار أهم وأكبر في خضم واقع سياسي متعفن ومتقلب وذلك من خلال العمل على اصدار قائمة سنوية لاعداء حرية الصحافة والاعلام وهي وسيلة من وسائل الضغط على لوبيات المال والسلطة السياسية،زيادة عن امكانية احداث جوائز سنوية للتميز والابداع الصحفي من أجل التشجيع على صحافة الجودة مع تفعيل دور اللجان الفرعية مثل لجنة أخلاقيات المهنة حتّى تكون حارسا أمينا ضدّ كلّ أشكال التجاوزات والاخلالات الجسيمة التي لا تشرّف القطاع وتشرعن لبروز اعلام المجاري والصحافة الصفراء.

من جهة أخرى، وجب الضغط أكثر فأكثر على الهياكل الرقابية للدولة ولاسيما وزارة الشؤون الاجتماعية وتفقدية الشغل من أجل اجبارها على القيام بمسؤولياتها في علاقة بمدى احترام أصحاب المؤسسات للقوانين والتشريعات ذات العلاقة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية للصحفيين.

صحيح أنّه لا توجد حلول سحرية أو وصفة جاهزة لتحسين واقع قطاع الاعلام في تونس بين عشيّة وضحاها لكنّ الاصلاح يبقى ممكنا فما أضيق العيش لو لا فسحة الامل كما يقول الشاعر الطغرائي في احدى قصائده.

إنّ عملية الاصلاح الشامل هي مسألة مترابطة ومتشعبة وهي تقتضي لزاما توفر مقاربة تشاركية من شأنها أن تفرز سياسة عمومية ورؤية استراتيجية عميقة للنهوض بأداء الاعلام وظروف العاملين فيه وذلك من أجل معاضدة تجربة الانتقال الديمقراطي الذي هو في نهاية الامر مسار مرهق وسيرورة شاقة وحتمية تاريخية لا مناص منها.

فاعلامنا اليوم هو دون أدنى شكّ يمثل انعكاسا للأمراض والأنوميات بلغة عالم الاجتماع الفرنسي ايميل دوركايم صاحب كتاب الانتحار التي يعاني منها الشعب التونسي بنخبه ومواطنيه وسياسييه نتيجة تحلل قيمي وغياب لمشروع وطني جامع يكون القطاع الاعلامي أحد مرتكزاته.وان كتب لنا السقوط في مطب اعادة انتاج نفس المنظومة الاعلامية القديمة الصدئة بشكل مشوّه مع اختلاف جزئي في العناصر المؤثرة ومراكز النفوذ ودوائر التخطيط في الغرف المغلقة سيؤدي ذلك بالضرورة إلى سطوة لوبيات المال والاجندات السياسية المحلية والخارجية على حساب الدور الطبيعي المهني والوظيفة الاجتماعية لوسائل الاعلام بمختلف أصنافها.

في سنة 2015 ، نشر الفيلسوف الكمدي المعاصر آلان دونو كتلابه الشهير “مظام التفاهة” الذي مازال إلى اليوم مثار جدل كبير إذ حبرت بشأنه العديد من المقالات والدراسات وفتحت لمناقشة مضامينه الكثير من المنابر الإعلامية الإذاعية والتلفزية والورشات الحوارية الفكرية والأكاديمية كما ترجم في لغات شتّى.لقد صارت قاعدة النجاح حسب التافهين مثلما لخصه دونو أن تلعب اللعبة حيث لم يعد الامر شأنا انسانيا ولا مسألة بشرية قيمية ،إنها مجرد لعبة لا غير.

كما أصبح الشأن العام تقنية إدارة لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا. وصارت الدولة مجرد شركة خاصة والمصلحة العامة مفهوما مغلوطا لمجموع المحصالح الخاصة للأفراد واللوبيات.واضحى السياسي (وربما الناشط النقابي أو الجمعياتي أو الحقوقي) تلك الصورة السخيفة لمجرد عون لدى لوبي يعمل لمصلحة زمرته ، ومتيسمى بالخبير هو أفضل تجسيد لنظام التفاهة فهو ممثل السلطة المستعد لبيع عقله لها.

إن التافهين أصبحوا يتلاعبون بمصائرنا واحلامنا ومجتمعاتنا بعد أن سيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه بسلطتهم التافهة وفق تعبير دونو.

لقد تحولت المهنة إلى وظيفة يتم التعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير ( بمنطق الخبزيست في نسخة التونسية ) اذ يمكن أن يمتهن المرء بيع الكتب والمجلات وهو لا يقرأ سطرا منها.

في نظام التفاهة ايضا اصبحنا نعيش على وقع القضايا التافهة التي طغت على مجمل حيلتنا بقوة رأس المال ووسائل الأعلام والميديا الجديدة ودوائر القرار التي تعمل في الغرف المغلقة لفائدة لوبيات وأجندات بعينها.

يقول آلان دونو في كتابه الانف ذكره بشكل ساخر ومؤلم في الآن ذاته” لا لزوم- في نظام التفاهة- للكتب المهقدة ،لكن لا تكن فخورا ولا روحانيا فهذا يظهرك متكبرا.لاتقدم أي فكرة جديدة فستكون وقتها عرضة للنقد.لا تحمل نظرة ثاقبة .وسع مقلتيك وأرخ شفتيك وفكر بميوعة .عليك أن تكون قابلا للتعليب.لقد تغير الزمن فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة.

أنه زمن سطوة التفاهة الذي حصر قاعدة النجاح في عنصرين لا ثالث لهما: المال وحسن التنكر داخل اللوبي المسيطر ومن هنا يأتي التلون في الوقت المناسب وهي أمور لا يمكن للمثقف لاسيما العضوي بالمعنى الغرامشي للكلمة أن يجيدها لأنه مطالب بالالتزام والانتصار لأفكاره وقناعاته وهو الذي آلى على نفسه أن لاي كون مراوفا أو مهادنا أو أن يستسلم للتافهين.

كل هذا يجعلنا نتساءل : ما أشبه هذا الواقع الكوني القميء وفق تشخيص آلان دونو في كتابه نظام التافهين بما يحصل اليوم في مجتمعنا التونسي زمن الانتقال الديمقراطي وخاصة في اعلامنا الوطني؟.

إن الاعلام التونسي في الوقت الراهن -رغم ضرورة التنسيب- أضحى فضاء لتدمير القيم والمبادئ والمثل فانخرط في صناعة “نجوم” من ورق هم في حقيقة الأمر مجرد كومبارسوات للوبيات وشبكات مصالح وفاعلين يسيرون المشهد السياسي والثقافي والاقتصادي ومشتقبل البلاد من خلف الستار لتزويق الصورة والتلاعب بالرأي العام لتوجيه الأنظار عن القضايا الحارقة ذات الأولوية وعملية الاصلاح لا يمكن أن تكون ملخصة في بعض الندوات والملتقيات التي تجتر فيها نفس العبارات والتوصيات بل إن المراجعات والتقييمات الموضوعية وحدها الكفيلة بالنظر إلى المرآة بكل شجاعة وبوجه سافر قصد مواجهة قبج ليس من العيب التأمل فيه مادام واقعا نعيشه ولا يمكن الهروب منه.

وأفضل ما يمكن أن نختم به هذه المقالة هي الاقتباس من معجم شكسبير الذي قال ذات يوم “اعطني مسرحا وخبزا أعطك شعبا مثقفا” ونحن نقول:” اعطونا اعلاما حرّا وديمقراطيا نعطكم شعبا متحضّرا وتقدميّا.”

 

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING