الشارع المغاربي – معركة الجلاء: الزعيم والضحايا والتاريخ/ بقلم: محمد الحبيب عزيزي(مؤرخ)

معركة الجلاء: الزعيم والضحايا والتاريخ/ بقلم: محمد الحبيب عزيزي(مؤرخ)

قسم الأخبار

15 أكتوبر، 2021

الشارع المغاربي: مَن مِن التونسيين الذي تجاوز اليوم سن الشباب لا يذكر نشيد حرب بنزرت الذي جاء في مطلعه

بني وطني يا ليوث الصدام وجند الوغى   نريد من الحرب فرض السلام وصد العدى

ولو كان للخصم رأي سداد وعقل يميل به للرشاد    لما اختار نهج  الوغى

فمغربنا يا فرنسا غدا ينادي  الجلاء … الجلاء .. الجلاء

 أو لا يذكر الأغنية الدعائية التي ألفت بعد خروج القوات الفرنسية من بنزرت  و مطلعها:

  نصري تم… نصري تم …حررت بلادي بالدم 

 وتدل كلماتها بصراحة ووضوح على إن إراقة الدم في نظر الزعيم كانت ضرورة سياسية قبل أن تكون تضحية من أجل الجلاء.  دم كان ضروريا لتطهير السمعة السيئة التي تخبطت فيها  سياسة المراحل والمفاوضات  التي توخاها الزعيم بورقيبة منذ بداية الاستقلال الداخلي  في البلاد وفي الشرق العربي وفي بلدان عدم الانحياز.

ما من شك في أن الحرب أو المعركة التي كانت مدينة بنزرت ساحة لها صائفة 1961 هي أهم مواجهة بين الشعب التونسي والجيش التونسي  الحديث العهد بالتأسيس من جهة وبين الجيش الفرنسي بكل قطاعاته البحرية والجوية والبرية . وهي حرب من قبيل وشاكلة  حرب  المجازر والإبادة  التي ضل الجيش الفرنسي يقترفها في الجزائر على امتداد ثمانية سنوات متتالية وأدت إلى سقوط أكثر من مليون شهيد وتشريد أغلبية السكان.  وكانت بعض فصول العدوان الجوي ضد الجزائر تنطلق من قاعدة بنزرت  مثلما انطلق العدوان الفرنسي على بنزرت من قاعدتي المدية  والبليدة الجزائريتين.

    وقد تركت الحرب أثرا عميقا في الضمير الوطني التونسي وفي الذاكرة الجماعية  وسمة  لا تنمحي.  و كتبت مؤلفات هامة حول المعركة وبرمجت مشاريع سينمائية لإعادة قراءتها وترسيخ ذكراها.

   والملفت للانتباه أن هذه الحرب قد حدثت بعد إعلان الاستقلال  بخمسة سنوات كاملة رغم إن معاهدة الاستقلال في 20 مارس 1956 قد نصت على  بقاء قواعد عسكرية فرنسية داخل التراب التونسي   ثم عرض الجنرال ديقول على بورقيبة في محادثات قصر رامبوبوي  يوم 27 فيفري 1961 أن يتواصل الحفاظ على قاعدة بنزرت آخر معاقل الجيش الفرنسي حتى استقلال الجزائر وحتى امتلاك فرنسا القوة النووية الرادعة بحيث يقع الإستغناء تلقائيا على قاعدة بنزرت . ويبدو أن هذا الاتفاق هو الذي تم فعلا وكان سيتم حتى بدون الحرب والمواجهة.

 وقد اضطر بورقيبة إلى استنباط مقولة سياسة المراحل محاولة منه لتبرير بقاء الجيش الفرنسي على التراب التونسي المستقل واستخدام الأراضي التونسية كقاعدة للإعتداء على الجزائر…

 ورغم ذلك  قرر مواجهة فرنسا ومطالبتها بالانسحاب من قاعدة بنزرت فهل كان الزعيم بورقيبة يريد المواجهة بأي ثمن حتى يغسل  سمعته السياسية أمام المحافل الدولية وفي منظومة عدم الانحياز وأمام قطاعات واسعة من السكان التونسيين  التي انظمت إلى حركة الزعيم صالح بن يوسف ذلك المعارض لإتفاقية الاستقلال المرحلي ؟ 

 وهل يحق لنا أن حتى أننا نتساءل اليوم إن كانت مثل هذه الحرب المفاجئة والمدمرة هي مواجهة لابد من وقوعها وهل كان ممكنا تلافيها. ويحق لنا أن نتساءل إن كان الزعيم الذي قادها قد حسب جيدا موازين القوى وأعد العدة اللازمة للمواجهة أم هو قذف بآلاف المتطوعين من الشباب المتحمس والجنود البواسل في حرب خاطفة وغير متكافئة أدت إلى سقوط ضحايا فاق عددهم  عدد الضحايا الذين سقطوا في كل مراحل الكفاح التحريري التونسي؟ هل كان بورقيبة فعلا متخوفا من أن يلتحق الشباب المتحمس  حماس  بحركة صالح بن يوسف  وأن يساندها الجيش التونسي الحديث والمتقد حماسا ووطنية   هل كان يخشى أن يستغل بن يوسف هذه القوى الوطنية الحية لفائدة صفه المعادي لنظرية الإستقلال المرحلي؟ ما الذي يفسر حرصه على القذف بهذه الآلاف المؤلفة من الشباب وهؤلاء الأفواج من الجند والضباط البواسل في أتون حرب معروفة النتائج وبدون جدوى حقيقي ومن أجل جلاء مشروع وقع الإتفاق فيه موعده مسبقا في محادثات قصر رامبوبوي  سنة 1961 وتم فعل حسب الجدول المسبق ي أكتوبر 1963؟ 

المعروف أن الزعيم بورقيبة  في سنة 1961 كان يعيش عزلة داخلية وخارجية مضنية ومرهقة لقواه ولم يكن قد حسب لها حسابا واحتار في الوصول إلى حلها.

   ذاك إن العدوان على الشقيقة الجزائر طيلة حرب التحري كان يتم  انطلاقا من القاعدة الجوية الفرنسية ببنزرت وقد تضررت سمعة الزعيم بورقيبة في الشرق العربي من هذا الأمر أيما ضرر حتى أن مؤتمر عدم الانحياز الذي نظم في بلغراد سبتمبر 1961  قد استدعى الزعيم صالح بن يوسف ممثلا عن تونس واستثنى الزعيم بورقيبة معتبرا إياه منحازا لفرنسا وتسبب ذلك  في فرض عزلة سياسية على الحبيب بورقيبة لم يقدر على فكها خصوصا وأن المعارضة اليوسفية قد احتدت في الداخل وكسبت صيتا ومساندة في الخارج.

يوم 29 فيفري 2008، كتب الأستاذ محمود بوعلي المطلع على أهم خفايا دولة الزعيم بحكم معاشرته الطويلة له في القصر مقالا على أعمدة جريدة “لابراس” التونسية  حول الشهيد محمد عزيز تاج شهيد معركة بنزرت  بيّن فيه أن ذلك الشاب المتّقد وطنية وحماس لم يتجاوز الخامسة والعشرين عاما خلال حرب بنزرت وأنه دُعي  فلبّى الواجب الوطني متخليا بذلك عن متابعة دراسته بالكلية الحربية بسان سير الفرنسية. مضيفا أنه فور وصوله إلى أرض الوطن أرسل إلى ساحة الوغى ولم يكن وهو الضابط المتمرن قد تلقى تكوينا عسكريا كافيا إنما كان حماسه الوطني منقطع النظير وما إن اندلعت المواجهة حتى  تلقى طلقة وعدة شظايا  تعرض خلالها الى اصابات خطيرة  واستشهد إثرها بالمستشفى.

وأضاف بوعلي أن تاج قبل وفاته وهو على فراش الموت خاطب الزعيم بورقيبة بجرأة كبيرة عندما عاده بالمستشفى بكلمات لوم صريحة ومؤثرة حول وقائع الحرب ونتائجها وحول عدم جدواها  مقارنة بأثارها الفظيعة .. كلمات لم يجرأ غيره على  قولها للزعيم انذاك. لافتا الى أن موته السريع أنقذه من عقاب الزعيم… 

وجهات نظر متفاوتة وكثير من الحماس في تحليل وقائع وأسباب  ونتائج معركة بنزرت  خصوصا وأن التاريخ ليس ببعيد والكثير من الوطنيين الذين عاشوا الحرب ودافعوا ضد العدوان لا يزالون على قيد الحياة.  وقد وجب إعادة النظر بأقل حماس وبأكثر موضوعية . وسنورد ملخصا لروايات أهم الأطراف المتقابلة في المعركة حتى نتلمس أهم الحقائق التاريخية حولها.  وهي رواية الزعيم بورقيبة والحزب الحر الدستوري التي أصبحت مع الزمن هي الرواية الرسمية.  ثم رواية الأهالي البنزرتيين  الذين لم يتمكنوا من التعبير عنها إلا بعد  زوال عهد الزعيم الراحل . وأخيرا رواية المضليين الفرنسيين الذين اعتمدوا على تقارير عسكرية ذات معطيات مضبوطة لكنها منتقاة بدقة وموجهة. وسنترك للقارئ  حق الاستنتاج والتحليل.

الرواية الرسمية للمعركة

تقول الرواية الرسمية المتداولة اليوم  إن حرب بنزرت بدأت بعد أن عقد الديوان السياسي اجتماعا قرر فيه اتخاذ تدابير عاجلة حول استرجاع قاعدة بنزرت عندما شرعت الجيوش الفرنسية في إقامة منشئات جديدة وتوسيع أرضية مطار القاعدة الجوية بسيدي احمد.

ومنذ اليوم الموالي بدأت مدينة بنزرت تستقبل وفود المتطوعين الذين هيأهم الحزب لخوض معركة الجلاء لجانب الجيش النظامي. وأقيمت السدود في كل مداخل المدينة  لمراقبة تحركات الجيش الفرنسي.

ثم دعا الحزب الحر الدستوري إلى اجتماع شعبي حاشد بساحة القصبة حضره الآلاف وأعلن خلاله بورقيبة قرار خوض المعركة. 

وبدأت الاشتباكات صباح يوم 20 جويلية  في بنزرت ومنزل بورقيبة  مما أدى إلى سقوط العديد من الضحايا في صفوف المتطوعين . وأعلنت الحكومة التونسية قطع علاقاتها الدبلوماسية  مع فرنسا.

وفي 21 جويلية كانت المجزرة حيث شرعت القوات الفرنسية في احتلال المدينة وعزلها عن بقية الجمهورية  وقصف أحيائها  بالقنابل وقد ثبت  أنها استعملت  قنابل  النابالم  المحرقة .

وفي 22 جويلية  صادق مجلس الأمن على  قرار عاجل يقضي بوقف القتال ورجوع القوات العسكرية إلى قاعدتها  فلم يمتثل الجيش الفرنسي ولما وصل الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة إلى بنزرت للإطلاع على الوضع منعته القوات الفرنسية من دخولها وثبت تعاون المدنيين الفرنسيين مع جيش المضليين.

وفي 18 أوت دعا الحزب الحر الدستوري إلى تنظيم مظاهرة شعبية كبرى في بنزرت  تصدى لها الجيش الفرنسي للحيلولة دون وصول ها إلى مقر الولاية لتسليم لائحة تأييد وولاء إلى والي بنزرت يقوم بتبليغها للرئيس بورقيبة

ولما طلب مجلس الأمن فتح التفاوض اتفق الجانبان الفرنسي والتونسي على أن تعود العساكر إلى قاعدة سيدي أحمد ويتم الجلاء بصفة تدريجية حتى موعد جلاء آخر جندي يوم 15 اكتوبر 1963 أي سنتين بعد حرب الجلاء… هذه الرواية الرسمية

 روايات أهل مدينة بنزرت

الدكتور رشيد الترّاس رئيس بلدية أيام الحرب

دعا المناضل الوطني رئيس بلدية بنزرت أيام الحرب رشيد الترّاس  إلى مراجعة كتابة تاريخ المعركة وتخليصه من هيمنة النظرة الأحادية الضيقة التي أسسها الزعيم بورقيبة عند روايته لكامل تاريخ الكفاح الوطني ولمعركة بنزرت بالخصوص. وفي عدة مجالات سواء في شهاداته التاريخية كفاعل تاريخي أو على أعمدة الصحف  أبرز المناضل  الجانب الاعتباطي والمبني والقول له   على شيء من التنطع وعدم التمسك برؤية إستراتيجية واضحة في سياسة الحبيب بورقيبة  الذي كان متسرعا لإرساء دعائم حكم فردي لا يقبل المشاركة. وأشار الترّاس  إلى كون البلاد لم تكن مستعدة للحرب.

وذكر أن مدينة بنزرت قبيل الحرب كانت من أجمل المدن  يحبها سكانها والوافدون عليها  ومما يرتاح له الزائر هو تخطيط أنهجها العريضة ولمستقيمة  وشواطئها  وحدائقها وأرصفتها وزوارقها الراسية في حي القصيبة … أما المدينة العتيقة فهي تروي تاريخا  حافلا  مثل حي الأندلس  والجامع الكبير  وجامع الرَّبع  وكان يسود المدينة مناخ سليم رغم اختلاط  الجنسيات من تونسيين وفرنسيين  مدنيون وعسكريون ومن يهود وايطاليين  ومالطيين  ازدهرت فيها التجارة وتعددت الجمعيات  الثقافية والرياضية  والكشافة والنقابات  هنالك 12 قاعة سينمائية.

وعندما بدأت العمليات العسكرية وبدأت القنابل تتساقط على المدينة  كان الفنان الكبير جاك برال يقيم حفلا غنائيا في نادي السباحة لفائدة الملبس القومي المشروع الخيري الذي تديره سعيدة ساسي ابنة أخت الرئيس بورقيبة. أكد أن معركة بنزرت هي حرب حقيقية  تقابل فيها جيشان واستعمل فيها القصف الجوي وأفرزت عددا كبيرا من الضحايا.. والسؤال المطروح هنا: هل كان من الضروري خوض الحرب للحصول على الجلاء العسكري؟

وبيّن أن المفاوضات بين بورقيبة وديغول كانت قد خططت لمسار واضح. إذ كان من التوقع  منح استقلال الجزائر وبالتالي الجلاء عن بنزرت بطريقة اتوماتيكية وسلمية. وتأكد لدينا أنه منذ أن أصبحت فرنسا متملكة للسلاح النووي فقدت بنزرت مغزاها الحربي والإستراتيجي وأصبح التخلي عنها لتونس وشيكا لذلك يعتبر الدكتور الترّاس أن قرار الحرب كان مفاجئا للجميع.

ويذكر أن الزعيم بورقيبة كان يتردد على ضيعة زوجته في بلدة عين غلال وهناك يهبّ لزيارته والي المنطقة وإطاراتها وقد اعلمه الوالي بأن الجيش الفرنسي يقوم بأشغال توسيع بمهبط الطائرات في القاعدة الجوية سيدي أحمد فاهتز الزعيم فرحا لهذا الخبر الذي اعتبره فرصة سانحة وسببا للإعلان عن حرب كان لم يجد طريقا لإعلانها.

وتساءل الدكتورعما إن كان بورقيبة يحتكم لخطة عسكرية واضحة لخوض الحرب  وقال إنني كنت شخصيا مطلعا على هذا العجز ومتأكدا من الفشل المسبق وذلك بحكم علمي بدواخل الأمور واتصالاتي الهاتفية اليومية بالسيد  الباهي الأدغم  كاتب الدولة للدفاع الذي أكد لي عدم وجود خطة عسكرية واضحة لإنجاح المعركة

 لقد اعتمدت الحرب في البداية على المتطوعين ثم تطورت الأمور فوقع الاستنجاد بالجيش وإقحامه في المعركة

وأما دواعي الحرب بالنسبة للزعيم فقد تمثلت أساسا في رغبته في فك طوق العزلة الذي يحيط  به   داخليا وخارجيا فقد كانت علاقاته متوترة مع الجزائر ومع مصر علاوة على أنه في تلك الفترة كان يتهيأ لحضور مؤتمر بلغراد الذي سيعقد في شهر سبتمبر 1961 وسيضم دول عدم الإنحياز  المنبثقة عن مؤتمر باندونغ وكان سيحرص على الحضور لاسترجاع  إشعاع شخصيته بوصفه شخصية مناضلة ضد الإستعمار  وضد الإمبريالية. استعمل  الزعيم حرب بنزرت لإستعادة صورته خصوصا وأن المؤتمر كان قد استدعى صالح بن يوسف ممثلا لتونس .

وبواسطة حرب بنزرت استطاع بورقيبة فك غزلته والتخلص من صالح بن يوسف دون إثارة كثير من الغبار حيث استفاد من المعركة لتحسين علاقاته مع مصر والجزائر أهم حلفاء الزعيم بن يوسف.

وقال إن نتائج ومسؤولية الحرب تتحملها القيادة السياسية التي كان من واجباتها حماية أمن وسلامة الوطن والمواطنين  وما وقع في بنزرت هو عكس ذلك وسوف لن يسامح التاريخ من تسبب فيها

ونوه الدكتور التراس ببسالة الجيش التونسي  وشجاعته الفائقة في الدفاع عن المدينة رغم قلة الإمكانيات

اما في ما يخص نتائج الحرب اقتصاديا  يقول انها كانت على غاية من الأهمية إذ كانت فرنسا الشريك الإقتصادي  الاول  وتقريبا الوحيد بالنسبة لتونس.

والملاحظ أن الدكتور رشيد التراس هو مناضل في صفوف الحزب الحر الدستوري منذ  نهاية الأربعينات  وتحمل مسؤولية رئاسة بلدية بنزرت من سنة 1961 حتى سنة 1963 حيث كانت المعارك والإصطدامات  متواصلة والمدينة مقسمة بالأسلاك الشائكة  نصفها للجيش التونسي والنصف الآخر يحتله الجبش الفرنسي.

 ويعطي التراس شريطا للأحداث مثلما عايشها مبتدأ بإعلان الحرب  في الإذاعة التونسية يوم الثلاثاء 18 جويلية عندما أعطي الأمر للجيش التونسي بإطلاق النار على كل طائرة فرنسية تحلق في الفضاء الجوي للمدينة. وقد وقع فعلا إطلاق النار على أربعة طائرات  استطلاع فرنسية. ثم تواتر نزول طائرات حربية قادمة من الجزائر .

وفي صباح يوم  الأربعاء  أطلق الفرنسيون النار على المتطوعين المصطفين في ضاحية منزل بورقيبة  وقتلوا 50 متطوعا  مستخدمين مدافع النابالم.

ويوم الخميس 20 جويلية التجأ بورقيبة إلى مجلس الأمن  ثم عقد ندوة صحفية  وحمل على الأعناق في ساحة القصبة والنيران متواصلة في بنزرت وجرح الصحفي جون دانيال  في معركة قرب معمل الإسمنت. وسقطت كامل يوم الجمعة قنابل  مدافع دبابات وتأسس جسر جوي قوي بين عنابة  وبنزرت ووصلت 17 طائرة حربية جديدة  وثلاثة بواخر حربية.

وفي يوم السبت 21 كانت الجثث تملأ شوارع بنزرت  البعض منها منذ عشية الجمعة وبدأ التعفن وكان يوم السبت اشد أيام الحرب إذ كان الجيش الفرنسي يطلق النار دون هوادة  على كامل المدينة

يوم  الأحد جاء أمر بوقف القتال  من طرف مجلس الأمن  وأصبحت بنزرت مدينة مقسمة بين تونس وفرنسا الجيش التونسي بالبلاد القديمة والفرنسي بالمدينة الحديثة  تفصلهما حواجز الأسلاك  الشائكة في كل حي ومدخل. ومنذ توقف الحرب هجر المدينة الكثير من اهلها.

المناضل والعسكري ابراهيم الدريدي

 قال عن الحرب :”كنت عسكريا برتبة ملازم عند اندلاع المعركة وكنت قائدا لسرية حربية وقد عدت من الكلية الحربية بسان سير”.

الضابط ابراهيم الدريدي لا يعتبر ما حدث ببنزرت معركة ولا حرب وإنما يعتبره مجرد قضية تم خلالها ارتكاب عدد كبير من الأخطاء الفادحة.

وأضاف “دخلنا قبل المعركة بعد تدريبات بجهة القصرين لمدة ثلاثة أشهر تحت قيادة العقيد البجاوي  ووقع تدريبنا على مدافع انقليزية كلاسيكية كانت تشتغل بطريقة بدائية حيث يمكن للعدو تحديد موقعها عند الإطلاق والقضاء على طاقم الدفاع  المصاحب للمدفع بعد طلقة واحدة بكل يسر.  ودخل الجيش التونسي في مناوشات على الحدود الجزائرية مع الجيش الفرنسي واقتصر الأمر على مجرد استعراض عضلات .

وهكذا دخلنا حرب بنزرت بهذه الإمكانات الهزيلة  وتم الإعلان عن الحرب  فانقض علينا المضللين من الجو مدججين بما لديهم من طائرات وسيطروا بسرعة على سماء المدينة وتمكنوا من تحديد مواقع الجيش التونسي.

هذا الوعي بتفوق العدو عدة وعتادا خلق جوا من التوتر بين القيادة السياسية والجيش عندما ارتفع عدد الضحايا من المدنيين دون موجب.

وتابع “لقد حضرت استشهاد القائد البجاوي والقائد حمادي تاج عندما تعرضنا لقصف جوي اضطرنا إلى العودة إلى الوراء والإحتماء بالثكنات ومعاودة التحضير والهجوم. ورغم تذمر الجند من استحالة دخول مدينة بنزرت بمعدات بدائية مقارنة مع عتاد العدو فإن الباهي الأدغم  أمر بالهجوم على مدينة بنزرت. وبالفعل دخل الكومندان سعيد الكاتب، وهذا يدل على بسالة الجيش وقد تولى الكومندان البجاوي تحت القصف إطلاق النار على الجيش الفرنسي لكنه لم يصمد طويلا إذ سرعان ما أصيب وسقط شهيدا وهو يقود الدوسات ويحاول المقاومة.

 واما سعيد الكاتب فقد رفض الأمر بالهجوم بسبب معرفته المسبقة بالتفاوت الكبير بين الجيشين  وبخطورة الموقف بحكم هشاشة المعدات العسكرية التونسية وانتظر نزول الليل لينفذ خطته المتمثلة في مباغتة العدو  عندما يكون منشغلا باستقبال الطائرالت القادمة من الجزائر.

وقد ذكر لي المنجي شراي الذي سقط أسيرا لدى الجيش الفرنسي كيف كان هذا الجيش قد ارتبك إزاء خطة القائد  سعيد الكاتب .

شهادة محمد الصالح فليس

قال محمد الصالح بن فليس إنها “حرب ضد فرنسا وضد صالح بن يوسف كما ردد ذلك الطيب المهيري عندما قال لابد لهذه البلاد ان تحرر من الفرنسيين ومن صالح بن يوسف معا وأيضا  الحبيب المولهي  الذي نقل عن  الرئيس بورقيبة قوله : ” إن هذه البلاد لا تتحمل رأسين”.

وأضاف فليس معركة بنزرت هي حرب ضد انحصار شعبية بورقيبة في الداخل حيث بدأ الاستياء يعم بعض الوطنيين حينما لاحظوا ميل الزعيم الواضح لبعض جهات البلاد وتأثره الشديد بأقوال ومقترحات المقربين منه .

وتابع “حينما اندلعت الحرب كانت سريعة  في مدتها ضارية في وحشيتها وهدامة في نتائجها .. موتى على قارعة الطريق لم يتمكن أحد من دفنهم إلا بعد أن توقف القصف أي بعد ثلاثة أيام وبعد ان استعادت المدينة جانبا من ثوابتها .. تم دفن الموتى في ظروف مأساوية ومتسرعة مخافة ان تتحول أجسامهم المتعفنة إلى  مصادر للأمراض والأوبئة. مضيفا “ساهمت شخصيا في زقاق المنوبية ونهج الشيخ إدريس في وضع أجسام متحللة  على عربات خشبية  واكتشفت انذاك ألا أحد كان يعاين الموتى أو يسجل أسمائهم وتم دفنهم بخنادق جماعية بمقبرة “العين” ومعلوم أن عدد الموتى ما زال يشكل عنصرا غامضا بين الرواية الرسمية التي تقول 630 شهيد وبين روايات أخرى قدرت بين ألف وثلاثة ألاف شهيد”.

وأضاف فليس “تم نقل المجاريح إلى مستشفى بنزرت الذي تجاوزت فيه كثافة الضحايا كل الإمكانات فتقرر نقل الجرحى إلى العاصمة واشهد من ناحيتي أن شقيقي المكي بن حميدة فليس الذي أصابته طلقات الجند الفرنسي بجهة المصيدة قد سجل إسمه ضمن قائمات الجرحى المحالين على مستشفيات العاصمة  والواقع انه توفي قبل نقله ومع ذلك ظل والدي ينتقل من مستشفى إلى آخر في تونس ويعود المجاريح واحدا واحدا للتعرف على أخي ولكن دون جدوى ولم نحصل على شهادة وفاته من الدكتور الذي عاين وفاته وهو المنصف القفصي إلا بعد مرور شهر على وفاته  وقد ترتب على الحرب هجرة عائلات كثيرة من بنزرت إلى العاصمة وإلى الأحواز خصوصا عندما تقسمت المدينة إلى جزء تحت سيطرة المضليين وآخر تحت سيطرة الجيش التونسي الفتي.

وأشار الى أن نتائج الحرب الاقتصادية عطلت نشاط الميناء التجاري بالكامل ودفعت بأكثر من خمسمائة عائلة الى الفقر لافتا الى انه لم يجد عمال الميناء أعمالا  بديلة يتعاطونها والى ان أغلب العائلات عاشت على المحمّص الدياري والخبز واللبن أشهرا طويلة والى أن العتّالين تجمعوا أمام الولاية وأمام الاتحاد الجهوي للشغل طلبا للمساعدة.

وأضاف “كسدت  الانشطة التي كانت تدور في فلك العسكريين الفرنسيين وعائلاتهم  والذي كان يشغل أعداد من المواطنين المدنيين في شتى الوظائف والخدمات وبعد المعركة عمدت عائلات الجنود الفرنسيين إلى مغادرة المدينة نحو فرنسا  فنتج على ذلك حالة من التراجع الإقتصادي والكساد  التجاري وعمت الأزمة الأحياء والقرى المجاورة مثل منزل بورقيبة وماطر. حتى أن مدينة بنزرت بعد الحرب غدت مدينة مغلقة الحوانيت والمحلات مقفرة الأسواق بعد أن هجرتها كل عناصر حركيتها المعهودة  ولكن البطء القاتل الذي ميز أداء السلطة التونسية  قد دفع  بجموع العاطلين  إلى البحث عن البدائل الممكنة  ومن بينها الهجرة نحو فرنسا.. فبات عدو الأمس القريب الذي حاربه المواطنون بالسلاح ونالوا منه القتل والتشريد أصبح ملاذا لضمان لقمة العيش. خصوصا وأن دولة الإستقلال اقتصرت في عملية تسيير مدينة بنزرت على المراقبة والبطش والتخويف والمتابعة وأفرغت المدينة من شحنتها النضالية وابعد مناضلوها عن مراكز القرار وتحولت المؤسسات الجهوية مرتعا للانتهازيين والمصفقين ولم يحل زمن التعاضد المشكلة بل زادها عمقا واتساعا. ومن نتائجها تنفيذ خطة اغتيال الزعيم صالح بن يوسف في فرانكفورت 12 أوت 1961 ومدينة بنزرت ما زالت لم تضمد جراحها  الدامية بعد.

ومن نتائج المعركة  وكرد فعل على اغتيال الزعيم بن يوسف الأمين العام للحزب الدستوري  انخرط عدد من أنصاره الشهيد في محاولة انقلابية1962 فشكل هؤلاء الغاضبون من مدينة بنزرت وبمعية العناصر العسكرية  أحد الروافد الثلاثة المكونة للحركة الانقلابية

وفيما انسحب الجنود الفرنسيين إلى ثكناتهم  عائدين إلى قواعدهم بالجزائر كتم سكان بنزرت وأهلها الهم  وخيبة الأمل في ظل خطاب رسمي اختفى خلف التهليل بالنصر. ولم يفتح ملف المعركة  للتقييم ولم تجرأ السلطة على استخلاص العبر ولا حتى احتراما لمشاعر المواطنين الذين تكبدوا موت ذويهم وتلف أمتعتهم وتدمير حياتهم وكان أبناء بنزرت المشاركين في المحاولة الانقلابية ضد حكم الزعيم بورقيبة أكثر عدد من أية جهة أخرى.

رواية المضليين الفرنسيين

باتريك شارلا رونو كتب كتابا حول معركة بنزرت ذكر فيه “انها كانت آخر حروب فرنسا في شمال إفريقيا. كما حاول المؤلف أن يستعيد وقائع المعركة ساعة بساعة منطلقا من الشهادات والمذكرات والكنانيش الشخصية والوثائق الفرنسية المفتوحة. وبين ان اتفاق رامبوييى تضمن تأكيد الجنرال ديغول على مغادرة الجيش الفرنسي قاعدة بنزرت ما إن تكون فرنسا قد أنهت تجاربها النووية  وما إن تتوضح  نتائج أزمة بناء جدار برلين وظهور بوادر توتر بين الشرق والغرب. ويعني ذلك في غضون  سنة أو سنتين من تاريخ المحادثات أي بين 1962 أو1963. وقد اتفق الزعيمان التونسي والفرنسي على ذلك.  ورغم الحرب فإن موعد انسحاب الجيش الفرنسي لم يتغير وحدث فعلا في أكتوبر 1963 بعد استقلال الجزائر وبناء القوة النووية الفرنسية وإقامة التوازن العسكري بين الشرق والغرب.

صحيح أن بورقيبة كان مواليا لفكرة الإستقلال داخل المنظومة الإقتصادية الفرنسية المبنية على مبدأ التعاون الحر بين البلدين لكن هنالك إثنين من الوطنيين القريبين منه لا يشاطرانه الرأي وكثيرا ما يحاجانه أو يعارضان رأيه بكل وجاهة وصرامة وهما الطيب المهيري وزير الداخلية والمسؤول عن الحزب والشباب والحرس الوطني والمتحكم في القوة السياسية والعسكرية . والثاني هو المنجي سليم  الذي لم يكن راضيا عن اتفاقية الإستقلال الداخلي ولا على المغالاة في التقرب من فرنسا.  وكثيرون هم من كانوا يرون فيه منافسا حقيقيا للزعيم بورقيبة يوم رجوعه إلى أرض الوطن سنة 1956.

اندلعت المناوشات منذ أن سعت السلطات العسكرية  قبيل شهر جوان 1961 إلى القيام بأشغال توسيع في مسلك هبوط الطائرات بقاعدة سيدي احمد وكانت فرق الحرس التونسي تراقب عن بعد وسرّا هذه العملية.  وفي 22 جوان عمد بعض الجند الفرنسيين الى إجراء تمرينات اعتيادية في جبل الناظور  فمنعتهم فرقة الحرس الوطني من ذلك وهددت باستعمال السلاح  وبعد زيارة الباهي الأدغم لبنزرت ومنزل بورقيبة بدأت جحافل المتطوعين تتجمع. 1500 متطوع وشرعوا يحفرون الخنادق على مقربة من الأسلاك الشائكة المحيطة بالقاعدة الجوية الفرنسية وفي الأثناء أرسل بورقيبة وزيره عبد الله فرحات لمقابلة الرئيس ديغول وطلب ضبط جدول زمني يحدد بوضوح مواعيد جلاء الجيش الفرنسي عن القاعدة التونسية  وكان رد ديغول على الرئيس بورقيبة باهتا .

وفي يوم 14 جويلية انطلقت الإستعدادات  العسكرية الفرنسية وحشدت القوات من قاعدة المدية والبرواقية والبليدة  أو من قاعدة سيدي فرج قرب الجزائر العاصمة ومن القاعدة البحرية في عنابة.

 المتظاهرون كانوا من الشباب الدستوري يلبسون بدلا حمراء مزوقة بالأبيض ويحتذون أحذية رياضية خفيفة وعلى رؤوسهم قبعات شمس من الصنع التقليدي المحلي ومنهم من يلبس بدلة كاكي وكانت تنقلهم إلى بنزرت شاحنات الأشغال العمومية وقد اخليت المستشفيات لأسكانهم وطلب من السكان تقديم مساعدات غذائية لهم وبلغ عدد المتطوعين ليلة 11 جويلية قرابة  4000 متطوعا وكان الجيش التونسي قد أتم تدريبات قام بها في منطقة القصرين .وهو قادر على جمع ما لايقل عن 6000 جندي وحاصر التونسيون كل منافذ القاعدة  وخطب بورقيبة في منبر البرلمان وحدد مهلة قبل اندلع الحرب تنقضي ليلة 19 جويلية على منتصف الليل .

ودارت الحرب أيام 19 و20 و21 جويلية في مواقع القاعدة البحرية بالخروبة ومحطة السكك الحديدية سيدي احمد وفي جبل الحلوفة والزرقون وجبل الناظور ومنزل جميل وسيدي عبد الله وحول القاعدة الجوية سيدي احمد وحول مقام الولي سيدي زيد وفي دوار جعفر وحول مصنع الإسمنت وفي المصيدة

21وفي يوم 21 جويلية اصبح العديد من الجند الفرنسيين الذين يسكنون مع عائلاتهم  خارج القاعدة وفي وسط المدينة بمحاذاة الأهالي التونسيين متخوفيين  على عائلاتهم من أن ينتقم منهم الأهالي .

واستخدم الجيش الفرنسي الأسرى التونسيين كدروع بشرية للإحتماء بهم ضد طلقات القناصيين التونسيين المختفيين في مداخل العمارات وفي أسطحها.

ويذكر التقرير أن حرب الشوارع التي دارت في وسط المدينة قد ساهم فيها المدنيون الفرنسيون الذين كانوا يعلمون الجبش  بمواقع المحاربين التونسيين الذين يلتجئون إليهم.  كما يدلونهم على مواقع الأسلحة المخفية أو المتروكة.

ونقل التقرير عن المستشفى وعن الأسرى وعن بعض التونسيين من قدماء محاربي الجيش الفرنسي الذين كانوا يتعرضون إلى التنكيل من قبل الدستوريين أن المظاهرات قام بها المدنيون حول المواقع العسكرية الفرنسية. وفي كل مرحلة من الرواية كان التقرير يؤكد على الجانب العسكري الفرنسي ويبين أن المواجهة الفرنسية للمتطوعين كانت من قبيل الدفاع عن النفس ولا ينفي رغم ذلك ضخامة العدة والعتاد ونوعية الجند والضباط الفرنسيين الذين خبروا الحرب في الجزائر والفياتنام ومنهم من كانت له خبرة تعود إلى زمن الحرب العلمية الثانية . وتجنب التقرير الحديث عن أعداد الضحايا في كل  واقعة من وقائع المعركة.

تعاقب الروايات يدل على أن كتابة تاريخ معركة بنزرت ما تزال مفتوحة وعلى أن الشهادات الشخصية ستكون أهم مصادره.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING