الشارع المغاربي – "وهران"...الصيد بُوقلادة / بقلم جلّول عزّونة

“وهران”…الصيد بُوقلادة / بقلم جلّول عزّونة

قسم الأخبار

5 مارس، 2020

الشارع المغاربي: إنّي تعلّمت من توفيق بن بريك الكاتب ومعه أنّ الأدب استفزازيّ أو لا يكون هذا الدرس واضح استلهمه توفيق بن بريك من مطالعاته الكثيرة والمتواصلة لأمّهات الكتب الأدبيّة العالميّة ولأنّه مقتنع بأنّ الكتابة على منوال ما، إنّما هي تمرين إنشائيّ مدرسي أو جامعي لا أكثر ولا أقلّ، وأنّ الأدب – نعم الأدب إبحار في محيطات غير مكتشفة ورحلة في دروب غير مطروقة ولا معلومة الأوّل والآخر، وأنّ الأدب مغامرة بأتمّ معنى الكلمة غير مضمونة ولا تأمين فيها.

لذلك أتت كتابة بن بريك منفلته عن كلّ قيد، متشظّية في كلّ إتّجاه، مُربِكة، وصادمة لكلّ الأعراف ولكلّ ما أتّفق عليه ومفاجأة لكلّ الإنتظارات. لذلك، فإمّا أن تشارك الكاتب في رحلته المخاطرة هذه، وإلّا عليك بالنزول فورًا في أوّل استرجاع للأنفاس أو حتّى قبل ذلك، خوفًا عليك وعلى نفسك أن تصاب وإلى الأبد، بالإصرار على تجاوز كلّ معتاد وكلّ معاد وكلّ رتابة والبحث المحموم عن آفاق جديدة للكتابة وتسمح للإنسان والإنسانيّة بطرق عوالم ذات أكسيجين نقيّ، لا أثر فيه لأيّ تلوّث أو تبعيّة، فتدرك أنّ أفق القدر لا يمكن أن يكون إلّا الحريّة ولا شيء غير الحريّة.

  1. ولنا أن نتساءل بإلحاح عن اللغة التّي تستطيع أن تعبّر عن هذا المناخ غير المألوف؟

والجواب بالتأكيد، أنّ اللغة العربيّة الكلاسيكيّة، أي لغة الجاهليّة والقرآن والقرون الأربع الأولى الهجريّة التّي مثّلت قمّة البلاغة المتعارف عليها، لا تلبّي الحاجة الآنيّة للتعبير الجارف الذّي يجري وراءه قلم توفيق بن بريك، في لهفته المحمومة الباحثة عن التوصيل لبني وطنه، هنا والآن، والذّين في غالبيّتهم، إمّا أميّون أو شبه أميّين أو في طريقهم إلى العودة لأميّة جديدة نظرًا للانقطاع عن التعليم في الثانوي، بل ومنذ الابتدائي ولجريهم اللاهث وراء الخبزة الهاربة دومًا في سباق غير متكافئ بين الواقع والمنشود … وللقطع مع لغة فئة قليلة من المثقّفين المتفقّهين في لغة متعالية ومتخشّبة، لذلك رأينا كاتبنا، يلجأ للهجة ريف تونس، بل للهجة الشمال الغربي التونسي بالذات، مسقط الرأس ومنبع الفخر بالأب والأهل وعرق أبناء المناجم الأحرار، ليفجّر اللغة ويطمئنّ لدفئها وتدفّقها وفرقعاتها التّي ترجّ الأفئدة والنفوس، وتكسّر حدود اللّياقة المتعارف عليها في أوساط مترفّهة برجوازيّة من أبناء العاصمة والمدن الكبرى (البلديّة!!)، لينحاز كاتبنا إلى لغة العملة والكادحين التّي نسمعها يوميّا في الشارع والمقاهي الشعبيّة، ببلاغتها الخاصّة جدّا والنافذة للقلوب والنفوس بلا قفّازات ولا استئذان…

وإن كنت شخصيّا، قد انحزت منذ ستّينات القرن الماضي – مع البشير خريّف وصالح القرمادي ومحمود التونسي وعبد العزيز العروي والهادي البالغ والدكتور الطاهر الخميري والحبيب بورقيبة إلى اللهجة الدارجة التونسيّة وعبقريّتها، فإنّي قد وقفت في وسط الطريق، إذ إقتصرت على إستعمال الدارجة في الحوار فقط (في الرواية والقصّة أساسًا) تاركًا عمليّة السرد إلى اللغة العربيّة المتطوّرة، ولم أتجاوز هذا الحدّ، مثلما يعمد اليوم، وفي هذه الرواية بالذات توفيق بن بريك، وهو حرّ ومن حقّه أن يختار لغة أو لهجة كتابته … وكنت قد امتنعت في أواخر الستّينات وأوائل سبعينات القرن العشرين، عن الإنخراط في حركة الطليعة الأدبيّة – لدعوتها ودعوة منظّريها وعلى رأسهم المرحوم الطاهر الهمّامي – لاستعمال الدارجة في الكتابة الأدبيّة. وهذا وأنا متأكّد أنّ الكتابة بالدارجة هو إثراء للغة العربيّة، ولا خوف مطلقًا على “صفاء” اللغة، هذه اللغة الحيّة المتطوّرة دائمًا، والتّي جعلها حراكها هذا تأتي الآن في الدرجة العالميّة الثالثة، من حيث تعلّمها والإقبال عليها، بعد الإنقليزيّة والإسبانيّة – وقبل الفرنسيّة والإيطاليّة والألمانيّة …

  1. إنّ كتابة توفيق بن بريك تلهج بحبّ الشمال الغربي التونسي، مسقط الرأس، والرحم الذّي شبّ فيه وترعرع، بل يذهب إلى حدّ التغزّل بأرض “إفريقيا” التّي أعطت اسمها للقارّة كلّها – يتغزّل بتربتها وخصبها ونباتها وجبالها ونسائها ولكنّه يظهر قساوة غير عاديّة برجالها !! وكأنّه يستنهض الهمم وكأنّه بتلك القساوة المبالغ فيها يخفي حبّا جمّا للبشر جميعا…
  2. ذلك هو توفيق بن بريك، إمّا أن تُعجب بما يكتب وإمّا ألاّ تحبّ ذلك، إنّه الكاتب الذّي لا يترك مجالًا وسطًا للإختيار ! ولكن لا بدّ من توفيق وإنّ إختلف في شأنه.

جلّول عزّونة : عضو ببيت الحكمة

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING