الشارع المغاربي-حاورته: عوطف البلدي: منذ ردّ المؤرخ الراحل هشام جعيّط على كتاب الباحثة هالة الوردي”الخلفاء الملعونين: الملعونون”بمقال مقتضب وعاجل،وصفه آنذاك بـ”التاريخ المزوّر”.ومن قبله الراحل محمد الطالبي الذي نعت الوردي بالـ”انسلاخسلاميّة” سنة2016 إثر صدور كتابها “أيام محمد الاخيرة”.ومقال آخر للدكتورة نائلة السليني وربّما مقالات أخرى،لم تحظ الوردي بدراسة علمية دقيقة أو نقد رصين (بدراسة علمية وافية: أفضل حتى لا يُفهم أن ما كتبه الجماعة تافه) لكتاباتها الا مؤخرا عبر: بـإصدار جديد للباحث والاكاديمي المختص في الحضارة العربية د. حسن بزاينيّة عنوانه:”فِتنةُ السّيرة،ومَعارِجُ الإبهار،أيّام محمَّد الأخيرة لهالة الوردي أُنموذجا”،ط 1 (تونس: مسكيليانى للنّشر والتوزيع، 2022). وبزاينيّة هوأستاذ مُحاضر حاصل على الدّكتورا والتأهيل الجامعي في اللّغة والآداب العربية.وباحث مهتمّ بقضايا الاسلام المبكّر.صدر له مؤلَف “كِتابة السّيرة النّبويّة لدى العرب المُحدَثين، اتّجاهاتُها ووظائِفُها، ط 2(2012)عن دارمسكيليانى للنشر والتوزيع سنة 2021 وطبعة أولى سنة 2014، ومؤلفو كتاب “في نقد الخطاب الاستشراقي، سيرة محمَّد ونشأة الإسلام في الاستشراق الفرنسي المُعاصر (رودنسن وجاكلين شابي وديكوبيروبريمار)” ط 1 سنة 2019.
“الشارع المغاربي” التقى الباحث للحديث حول كتابه الجديد ” فِتنةُ السّيرة،ومَعارِجُ الإبهار…” الذي جاء ردّا على كتاب “أيام محمد الأخيرة” للوردي.
* بداية لو تقدّم لنا كتابك الجديد: “فِتنةُ السّيرة، ومَعارِجُ الإبهار، أيّام محمَّد الأخيرة لهالة الوردي أُنموذجا”…
نشرت الكاتِبة التونسية هالة الوردي سنة 2016 بفرنسا كتاب “أيّام محمّد الأخيرة (Les Derniers Jours de Muhammad)”، ويحمِلُ الكِتابُ عُنوانا فرعيا “بحثٌ عن الموت المُرِيب للنبي”. والكاتِبة أستاذة بالجامعة التونسية في الأدب والحضارة الفرنسييْن، ثمّ حوّلت راحلتها فجأة إلى التاريخ الإسلامي المُبكِّر، فأصدرت سنة 2016 الكتابَ الذي ذكرناه آنفا عن تمريض النبيّ، وموته… وثلّثت في سنة 2019 بكتابيْن آخريْن في الخِلافِ حول الإمامة، وتاريخ الخليفة الأول أبي بَكر. وقد سمت الأول “الخلفاء الملاعين، التصدّع (Les Califesmaudits :la déchirure )”، ووسَمت الثاني بـ”الخلفاء الملاعين، في ظلال السيوف (Les Califes maudits : à l’ombre des sabres)”.
وهل يُمكن أن تُقدّم لنا كتاب الوردي الذي كان موضوع بحثك؟
يَعُدّ كتابُ “أيّام محمَّد الأخيرة” 322 صفحة، منها 159 صفحة فقط للمتنِ، أي نصفه تقريبا، والبقية خُصِّصت للملاحق والهوامش، والمصادر العربية وغيرها… وقد أفردت الكاتِبةُ الهوامش بـ103 صفحة، فكادت الهوامش تعدِل المتنَ بأسره! ويضمّ الكِتابُ ثمانيةَ عشَرَ فصلا، وتمهيدا (Prologue)، وخُلاصةً (Épilogue)، وفصلا خِتاميا (Après-dire) تدبّرت فيه الكاتبة قضايا تاريخيةً كالمصادر الإسلامية وغير الإسلامية للسّيرة؛ وعرّفت فيه بصحابة النبي وأهلِه (صفحة). ثمّ أوردت المُؤلِّفين العرب في السّيرة حسبَ الترتيب التاريخي في أكثرَ من عشرين صفحةً. والغريب أنّ كثيرا من الصّفحات في هذا المَسرَد تضمّ سطرا واحِدا (ص 186؛ 193؛ 206…)، وهذا تسمين جليّ للكتاب يُخالف المشهورَ في ترتيب محتوى الفهارس مُتتابِعا، ولا يُضيف إلى العِلم شيئا: متى عاش الإمام مُسلِم أو أبو حامد الغزالي؟ كان يُمكن الإشارة في متن البحث، أو هوامشه إلى تواريخ وفَيَاتهم كما جرت عادةُ الباحثين. فالصفحات الكثيرة المُخصَّصة لهذا المَسرَد كان يُمكن أن تُضمَّ أسطرُها بعضُها إلى بعضٍ، فتكونَ صفحتين أو ثلاثا!
إذن ماذا تنتقدون على ترتيب الكِتاب عُموما؟
القضايا التّاريخية والمنهجية المُتعلِّقة بالموارد (المصادر المُختلِفة) لا تُعرضُ في آخر الكُتب والسّير مثلما فعلت الوردي، إذ تدبّرت قضيّة المصادر في الفصل الخِتامي (Après-dire)، حيث تحدّثت عمّا تبوح به المصادر غير الإسلامية عن نشأة الإسلام (أيّام محمّد، ص 169)؛ وهل أوردت المصادر الإسلامية التّاريخَ، أم روت قِصصا؟ (أيّام محمّد، ص 174)… وهذا يُخالِف طرائقَ العُلماء في الدّخول إلى مسائلِ السّيرة، وحسْبُ القارِئ أن يُراجِعَ بعضَ مشهورات السّير العربيّة أو الأجنبية، كجواد علي في تاريخ العرب في الإسلام: السيرة النبويّة (1961) إذ يخُصّ المصادر ومنهجية كتابة تاريخ الإسلام بالفصل الأوّل من الكتاب (“خطورة تأريخ الإسلام وكيفيّة تدوينه”)، وكجواد علي افتتح بلاشير كتابَه مشكِل السيرة (Le problème deMahomet, 1952) بفصل وسمه بـ”المصادر والمُعطيات التكميلية”… ففيم سيُفيد بسط مشاكل الكِتابة التاريخية بعد الفراغ من البحث؟
ما هي القضية الرّئيسية في كتاب أيام محمّد الأخيرة، وما رأيكم فيها؟
صاغت هالة الوردي في أوّل كتابها سؤالها الرّئيس: «لماذا لمْ يُدفَن محمَّد في يوم وفاتِه نفسِه تنفيذا لأمر النبي، الذي كتب على أهل ملّته أن يوارُوا موتاهم بسرعة؟ لا يُوجد أثر من الآثار الإسلامية القديمة يخبر بشيء حول هذا الثّقب الأسود الذي مقداره يومان، ظل خلالهما جثمانُ رسول الله متروكا» (أيّام محمد، ص 8). وهذا السؤال نفسُه يدفعنا إلى التساؤل عن أهداف الكاتِبة العِلمية من بحثها؟ وهل إنّها على حظ وافر من معرفة تراث النبي وآثاره، وسيرته حتى تجزمَ بأنّ المصادر القديمة تخلو من إجابة عن سؤالها؟ وأهمُّ من هذا كلّه، هل تسنّى للكاتِبة، وهي باحثة جامعية، أن تطَّلِعَ على ما أَلِّف في موضوعها من بحوث عِلمية بشتى اللّغات، فسُنّة الباحثين أن يبدؤوا بالإشارة إلى جهود سابِقيهم في فحص الموضوع الذي يتدبّرونه، فيقيِّموا ما كتبوا… هناك روايات مُتقدّمة عن الواقدي (ت. 207 هـ) تذكر أنّ النبيَّ توفّي يومَ الإثنين، ودُفِن يوم الثلاثاء (انظر الكتاب ص 28). وهكذا لا شيء يستدعي “السُّؤال” حسَب هذه الرّواية، ولا وُجود فيها لـ”ثَقْب أسود”. ولا ننسى أنّ الميت نبيٌّ، وقائد جماعة، يستوجِب جَهازه عِنايةً خاصّة تستغرِقُ وقتا. ولسنا هنا في معرِض الترجيح بين الرّوايات، فهذا منهج القُدامى، أمّا نحن فنستند إلى الثورات الحديثة في علم التاريخ والسرد وغيرهما، فنرى أنّ جميع الأخبار “روايات” سردية، ولا معنى لغَلَبة رواية على أخرى، فالخبر غير المُتواتِر قد يكون أصدقَ من الرّوايات “المُغلَّبة” لأسباب دينية، أو فِرَقية، أو عصَبَية…
آخذتَ الكاتِبة في مسائل منهجية كثيرة، فهل يُمكن أن تبيِّنَ لنا بعضها؟
فاقت هوامش هالة الوردي المائة صفحةٍ، وهي إحالات على مصادر تاريخية، وكُتُب حديث وتفاسير بلا أيِّ اختِلاق إبداعي لشخوص أو أحداث، وهذا يُدخِل الكاتِبة إلى صميم التاريخ (استعملت اصطلاح “مُؤرِّخ” بصيغ مُختلِفة في أكثر من عشرين موضعا، مُلحِقة نفسَها بجُمهور المؤرِّخين). لكنّ للتّاريخ أصولا، منها أن يُعيِّر الباحِثُ مصادرَه في مبدأِ بحثه، وقد رأينا أن الكاتِبة أرجأت الأمر إلى آخر الكتاب، فطفقت في متنه تأخذ من كل مورد. وهكذا لا تفرّق بين الطّبري (ت.310 ه)، والبُخاري (ت. 256 ه)، وأبي داود المُحدِّث (ت. 275 ه)، وأبي نُعيم الأصفهاني (ت. 405 ه)، والبَكري المُؤرِّخ (ت. 487 ه)، حتّى المجلِسي الشّيعي صاحب بِحار الأنوار الجامِعة لدُرر الأئمة الأطهار (ت. 1111 ه/ 1699 م)… ومَن يجمَعُ أخلاطًا من المصادر يغرَق حتما في بُطونها، فلا بدّ من منهج في التعامل معها، ولا بدّ من “خلفية” في التّاريخ وفلسفته. فإذا لم يُعيّر المؤرّخ الأخبار، فكيف سيعرف ما هو جدير بالتدوين من غيره؟ وفي طريقة التّعامل مع المصادر التاريخية، يقول المُؤرِّخ هشام جعيط: «إنّما يجب تنبيه الباحِث العربي ألا يتجاوزَ القرنَ الثّالِثَ أو على الأكثر الرّابِع، وأنّ اعتماد مصادر متأخِّرة ليس من المنهج التّاريخي في شيء […] ويجب أن يُقال نفس الشيء بالنّسبة للتفاسير حيث لا يصلح منها في هذا المجال إلا تفسير الطّبري» (جعيط: 2007)، وكأنّي بهشام جعيط يُخاطب هالة الوردي ومَن توخّى سبيلها!
وإذا كانت المُنطلقات غيرَ صُلبة فإنّ باقي الخَطوات لن تنجُوَ من المزالقِ، إذ تقول الكاتِبة في الخُلاصةً (Épilogue): «إن استكشافَ الحلْقة الأخيرة من حياة النبي تضعنا إزاءَ عَقَبة -مُخيِّبة للآمال أحيانا- [تحول] دون رسم ملامح مُتناسقة للإنسان الذي كان. إنّ كلّ حدَث من حياة محمّد، وكلّ صفة من صفاته تبدو كأنها غارقة في غَمْر عجيبٍ من الروايات المُتبايِنة، بل المُتناقضة» (أيّام محمَّد، ص 159). وهذا بيان الغَرَقِ في الرّوايات والأخبار، فالكاتِبة تودّ أن تبحثَ عن “حقيقة” محمَّد من خلال الرّوايات، لكن تلك الرّوايات مُختلِفة، ومُتناقِضة… فلو كانت الأخبارُ مُتِّفقة لأمكن بيُسر كتابة تأريخ النبي (مسكوت عنه في كلام الوردي) [أيّام محمَّد، ص 159]. وما دمنا قد ذكرنا جعيط فلا مناص من إيراد قوله في تعيير المصادر: إنّ “تواتُر الخبر ليس بدليل على مِصداقيته” (جعيط: 2007). وقد انتقد حسن قبيسي ثقة المستعرِب الفرنسي رُودنسن في اتّفاق المصادر نقدا صارما: «إذا كانت المصادرُ مُتّفِقةً فليس معنى اتفاقِها بالضرورة أنّ الواقعة المُتفَق عليها قد حصَلت كما وصفها الرواة، بل قد يعني أحيانا أنّ تلك الصُّورة المُتناسخة تستجيب لما يُنتظر منها أن تكون لدى الذين تُقدَّم إليهم» (حسن قبيسي، رودنسن ونبيّ الإسلام)، وهذا يجري على تعويل الوردي على مسألة الإجماع والاتّفاق في المصادر القديمة.
عِبت على الكاتِبة ما أسميته بالغرق في الروايات الإسلامية، فهل تفسّر لنا ذلك؟
لو استرسلنا في استخراج ما ذكرت صاحبةُ أيّام محمّد الأخيرة في جنْب ما فصّلته المصادر الإسلامية لأضجرنا القارئ كفِعل الكاتِبة بعرض المسرود والمُكَرَّر. وقد فاتها أنّ ما تستمسِك به من روايات، وتنسُج منه سَدى “أيام محمّد الأخيرة” ما هو إلا اختيارٌ من رُكام الأخبار، فقد ذكر ابن سعد تسعةَ أخبار في موت النبي ورأُسُه بحَجر عائشة، ثمّ أربعةَ أخبار في موته بحَجر علي (فتنة السيرة، ص 43)؛ في حين اكتفت الوردي برواية موت النبي ورأسُه بحَجر عائشة (أيّام محمَّد، ص 6). ولا قيمة للعدد البتّة، فالأخبار تتناسل في أحيان كثيرة، ولا تتغير متونها، بل أسانيدُها في الغالب. ومن آثام الغرق في الرّوايات الإسلامية، وقطعِ الصّلة بمُساهمات الجماعة العِلمية العربية والفرنسية بخاصّة، تفسيرُ الكاتِبة لهزيمة المُسلِمين في مُؤتة (8 هـ) إذ تقول: «يجب الإقرار بأنّ اختلال موازين القُوى بين الجيشين (ثلاثة آلاف في جانب المسلِمين في مواجهة مائة ألف رومي) كان ذا بال» (أيّام محمَّد، ص 15). وفي الحقيقة كانت مُؤتة في جنوب الشّام، خاضِعةً لنُفوذ الغساسنة الذين كانوا حُرّاسا لثُغور الإمبراطورية البيزنطية على اللخميين… ولم يكونوا بحاجة إلى جيش رومي عَرَمْرَمٍ لمواجهة الغُزاة المُسلِمين. وفعلا يشُك بلاشير (1952) في عِدّة جيش الرّوم في غزوة مُؤتة، ويرى أّن المسلمين لم ينهزموا بأيدي جيش جرّار قاده هرقل (Héraclius. 610-641) بنفسِه كما تذكر الروايات الإسلامية، بل هزمهم حُماة الإقليم الرّومي بالشام. أمّا جعيط فيعلّق على رواية المصادر الإسلامية بصدد غزوة مُؤتة بقوله إنّها غير صحيحة، فضلا عن أنّ هرقل قد غادر فِلسطين هو وجيشُه سنة 630 م (جعيط: 2012)… ويُشير إشارة حصيفة إلى أنّ الروم لم يأبهوا بالقّوة المُتواضعة التي نشأت بشمال الحِجاز، ولا بالنبيّ العربي الذي ظهر هناك، هذا إذا كانوا على عِلم بأمره أصلا! فكم يُؤلِمُ الباحِثَ المُتخصّص أن يقفِزَ كاتِبٌ أو كاتِبةٌ على عقود شاقّة من جُهود المُؤرِّخين، فيغرَق في الرّوايات التُّراثية غَرَقا، ويزعم مع ذلك الإبهارَ، والإتيان بما لم تأت به الأوائل (أيّام محمَّد، ص 13).
ولا نجد في أيّام محمَّد الأخيرة أثرا للكتابات النقدية الفرنسية والأوروبية في السيرة، إذ زيّنت الكاتِبة الببليوغرافيا المنتقاة في آخر الكِتاب بسِير بلاشيروديمومبين وجاكلين شابي وأنْدرِي (أحالت فقط على مقال لبلاشير وآخر لشابي دون كُتُبِهما)، وهي سيرٌ حُرّرت بالفرنسية ابتداء ما عدا سيرة أندرِي التي تُرجِمت إلى الفرنسية في أواسط القرن العشرين (Tor, Andrae, Mahomet, sa vie et sa doctrine). أمّا سيرة ديمومبين الضّخمة التي اعتمد فيها على نولدكه ورُواد الاستشراق الأوروبي (Demombynes, Mahomet)، وكتاب ربّ القبائل لشابي (Chabbi, Le seigneur des tribus)، وهو أهم ما كتَبَت في السّيرة، فلم تعد إليهِما مطلقا! وكان حظُّ كتاب رودنسن المرجِعي محمَّد يسيرا في كتاب الوردي، إذ ذكرته ذكرا عارِضا مرّة واحِدة. وهكذا تقترح على قرائها قائمة مراجع أساسية في السيرة لم تنتفع هي بها في إنجاز بحثها، كمن ينصَحُ بشيء ويأتي خلافَه! وللباحِث أن يتصوّر حجم المزالق والنقائص التي يُمكِنُ أن تنجرّ عن الإضرابِ عن تاريخ العلم، لا سيّما وقد حرّرت الوردي كتابَها بالفرنسية، أي لغة الأقوام الذين نبذت مُساهماتِهم وراء ظهرها.
اعتبرت في كتابك أن الكاتِبة تزعم الإتيان بالجديد من حيث المنهج الذي اتّبعته في “أيام محمّد”، وهو ليس جديدا حسب رأيك، فكيف ذلك؟
تقول الوردي: “إنّ جِدّةَ سرديتنا تكمُن إجمالا في المقابلة البَديعة لتلك الأخبار بعضِها ببعضٍ، وفي الخَطية التي سنعيد ترتيب [الروايات] داخلَها في آن واحد” (أيّام محمَّد، ص 13). ومثل هذا الكلام يحمِل طبقات من الأخطاء والادّعاء، إذ لا تخلو أغلبُ السير الحديثة التي كانت موضوع رسالتنا للدكتورا “كتابة السيرة النبوية لدى العرب المُحدثين”(2010) من المُقارنة بين الرّوايات، والمُفاضلة بينها كسيرة محمّد حُسين هيكل حياة محمَّد (1935)؛ وحتّى بعض السير المُغرِقة في التقليد لا ترى حرجا في السفر بين الرّوايات الإسلامية، ونبذ بعضها… وإذا كانت هالة الوردي أولَ من قابل الأخبار بعضَها ببعض فأين ذهبت جهود هشام جعيط وجواد علي؟ هدم جعيط قِصصا كثيرة شكّلت نصيبا وافِرا من عمود السيرة النبوية منذ القِدَم، كاعتراضه على قصّة غار حراء في القسم الأول (الوحي والقرآن والنبوة، 1999)، وتفنيده لحكاية الغرانيق اعتمادا على تاريخ القرآن في القسم الثّاني (تاريخية الدّعوة المُحمّدية في مكّة 2007)؟ (أحالت الوردي على أعمال جعيط مرّة يتيمة. أيّام محمَّد، ص 67) أمّا سيرة جواد علي (تاريخ العرب في الإسلام، 1961)، والمواضيع المُتعلِّقة بالسّيرة النبوية في المُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام فأكاد أزعُم أنها أمتنُ ما بلغته الدراسات التاريخية العربية في مجال تاريخ الإسلام المُبكِّر، ومع هذا لم تذكره الكاتِبة أصلا!
أمّا”الخطية” (linéarité) التي ذهبت الوردي إلى اعتبارِها من منابِع الجِدّة في كِتابها، فهي من معالِم القَدامة في كتابة السّيرة النبوية! فهذه الخُطّة في التأليف وضعها في الأصل أربابُ السِّير والمُؤرّخون العرب القُدامى. وحسْبُ القارئ أن ينظرَ في فهارس بعض السِّير القديمة المشهورة كسيرة ابن هشام (ت. 218 هـ) ليستنبِطَ الطريقة المذكورة، وإن غمرتها أخبارُ العرب في الجاهلية، وقائماتٌ في أسماء أوائل المُسلِمين، وأسرى بعض الغزوات… فقد اتّبع ابن هشام أسلوبا خطيا زمنيا يبدأ من أخبار العرب في الجاهلية وأنسابهم، ثم تحدّث عن المولد، فالدّعوة السرية؛ وهكذا إلى الغزوات، فالوفاة ورثاء حسّان بن ثابِت للنبي (ختَم به السيرة). أمّا كثيرٌ من المُستشرِقين فلم يُفارِقوا هذه الطريقة الخَطية، إذ بدأ بلاشير في مُشكِل السّيرة بالكلام في مصادرها، وتحدّث ثانيا عمّا سمّاه مهدَ الإسلام (Le berceaude l’Islam). وفي الفصلِ الثّالث درس حياة محمّد قبل البِعثةِ (Mahometavant l’apostolat)، وهكذا سار حتى انتهى إلى بحث الفَترة المدَنية في الفصل السّابِعِ…
وما هي مآخذك التّاريخية على كتابها “أيام محمّد الأخيرة”؟
في كِتاب “أيّام محمَّد الأخيرة” مظاهرُ كثيرة من الهفوات التاريخية إن صحّ تعبيرنا، نشير ههنا إلى بعضها إجمالا. إذ تقول مثلا في ميلاد الرّسول: «يُضبَطُ ميلادُ [الرّسول] عادةً حوالَي سنة 570 نِسبة إلى “عام الفيل” الشّهير، [وهي] تسمية غريبة، لا نعرفُ عنها شيئا كثيرا» (أيّام محمَّد، ص 123). نعم هكذا، وللقارئ أن يُراجِعَ النص الأصلي. وبصرف النظر عن مُناقشة تاريخ الميلاد الذي تُقر الكاتِبة نفسُها بأنه غير ثابت، فإنّنا نعجَبُ لهذا الكلام، فهو الغريب عن منطق المؤرّخين، لا عام الفيل الذي يعرِف عنه العُلماء المُحقِّقون أشياءَ كثيرةً، فالتسمية قرآنية، وردت في سورة الفيل؛ وقصّة غزو أبرهة لمكة، واستِعماله الفِيلة كذلك مفصَّل في كُتُب السيرة والتّاريخ بقطع النّظر عن موثوقيّتها التاريخية (سيرة ابن هشام مثلا). هذا في أصل التسمية غير الغريبة إطلاقا عن الثّقافة الإسلامية، أمّا عن تحقيق التاريخ الذي ذكرته الوردي، فقد تدبّره جِلّة العُلماء والباحثون في تاريخ الإسلام المُبكِّر، إذ ذكر إسماعيل أدهم (1936) أنّ نولدكه اعتمد على المُؤرِّخ البيزنطي بروكوب (Procope) في الحديث عن تعرض الأحباش للحِجاز بتحريض من الرّوم. ويُفسِّر بروكوب سبب الحملة باستعباد ذي نُواس لنصارى نجران، وقطع تِجارة اليونان [الروم]… أمّا المُؤرِّخ العِراقي الثّبَت جواد علي فيقول إنّ بروكوب أشار إلى تحرشِ أبرهة (أبراموس Abramos) بالفُرس، وقد “قصد به حملته على مكة على الغالب”. وهي حملة أراد منها أبرهة الاتصال بالبيزنطيين عن طريق البر، وإخضاع العربية الغربية لسلطته، لتأمين حريّة الملاحة للبيزنطيين في البحر الأحمر (المُفصَّل)…
لو توضّح أكثر؟
تقول الكاتِبة أيضا: «إنّ اسمَ النبي الحقيقي، لم يكن هو نفسُه معروفا يومئذ، فمحمَّد الذي يعني لغةً “المحمود كثيرا”، صفة اتّخذها الرّسول بعد النبوّة» (أيّام محمَّد، ص 68). وهكذا تثبت مرّة أخرى أنّ علاقتها بالتاريخ واهية، فقد عُرِف اسم محمّد قبل الإسلام سواء عوّلنا على المصادر الإسلامية المكتوبة أو النّقوش! إذ خصص ابن حبيب (ت. 245 هـ) فصلا للمُسَمَّيْن بمحمَّد قبل الإسلام “لِما كان يبلُغهم أنه سيُبعَث في العرب نبي يُقال له محمّد، فجعل الّله النّبوّة لمُحمَد صلّى الّله عليه” (المُحبَّر). وكذلك فعل البلاذري بإفراده فصلا للمُحمَّدين في الجاهلية، والمُؤرِّخان كلاهما من أصحابِ المصادر التاريخيّة المُتقدّمة المُحترمة. لكنّها دون ريْب تبقى غير مُعاصِرة للأحداث (القرن الثّالث)، وههنا لا بد أن تُقَوِّيَ مقالهما موارد أخرى. وهي لحسن حظّ الباحث موجودة، إذ يُوضّح جواد علي هذا القضيّة حين يتحدّث عن كتابة جاهلية تحمل اسم محمّد: «وأمّا النصّ الجاهلي الذي ورد فيه اسم رجل يُدعى “محمدا”، فهو شاهد قبر، هذا نصّه: “نفس محمد بن ذت وسعت وليقمعن عثـتر ذي شترنهو”» (تاريخ العرب في الإسلام)!
إنّ بعض ما أوردت الوردي في كتابها يرقى إلى درجة الخطأ التاريخي المُستَشنَع، إذ تقول: «خرجت قبائلُ عربية كثيرة، وأبت أن تعترِفَ بسُلطة أبي بكر، وهو ما أجّج الحروب الطاحِنة التي تُسمى “حروبَ الردّة”. وقد بلغ فيها الرعبُ مبلَغه في فصل مشهور [من فصول] التوحش (أكل لحم البشر)» (أيّام محمَّد، ص 138). ثمّ تُورد في الإحالة بعد قولها هذا قصّةَ قتل خالد بن الوليد لمالك بن نُويرة، وشيِّ رأسه، وأكله منها، فزواجه سريعا من امرأته (أيّام محمَّد، الإحالة رقم 58، ص 299)… وهذه قصةٌ مشهورة سائرة في كتب التّراث. لكن قَسْم رأس مالك وشيِّها، وأكل خالد منها غير معروف، فأنكرناه! وراجعنا القصّة في المصدر الذي تُحيل عليه الوردي، وهو البداية والنّهاية لان كثير، فإذا هي كالآتي: «وَيُقَالُ: بَلِ اسْتَدْعَى خَالِدٌ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ فَأَنَّبَهُ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ مِنْ مُتَابَعَةِ سَجَاحِ، وَعَلَى مَنْعِهِ الزَّكَاةَ، وَقَالَ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهَا قَرِينَةُ الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ مَالِكٌ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ يَزْعُمُ ذَلِكَ. فَقَالَ: أَهْوَ صَاحِبُنَا وَلَيْسَ بِصَاحِبِكَ؟! يَا ضِرَارُ، اضْرِبْ عُنُقَهُ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَأَمَرَ بِرَأْسِهِ فَجُعِلَ مَعَ حَجَرَيْنِ، وَطُبِخَ عَلَى الثَّلَاثَةِ قِدْرًا، فَأَكَلَ مِنْهَا خَالِدٌ تِلْكَ اللَّيْلَةَ لِيُرْهِبَ بِذَلِكَ الْأَعْرَابَ مِنَ الْمُرْتَدَّةِ وَغَيْرِهِمْ. وَيُقَالُ: إِنَّ شَعْرَ مَالِكٍ جَعَلَتِ النَّارُ تَعْمَلُ فِيهِ إِلَى أَنْ نَضِجَ لَحْم الْقِدْرِ…» (فتنة السيرة، ص 93). فالخبر يذكُرُ أنّ خالِدا جعل من رأس مالك أُثفية نصب عليها قِدْرا، أي جعلها ثالثةَ الأثافي كما يُقال (حجران ورأس)، فأكل من اللّحم الذي في القِدْر لا من رأس مالك! وبصرف النّظر عن تقويمنا لهذا الخبر، فإنّ الكاتِبة مسخته مسخا، ولا نعرف ألِقلّة حذقها للعربيّة، أم لإرضاء بعض الدوائر التي تطرَب لمثل هذه الحكايات، فتختزل سلوك المُسلِمين فيها. فإذا كانت الكاتِبة غير قادِرة على فهم نصوص التراث العربي، وهي غير مُختصّة بالتّاريخ، فكيف يُمكن أن نطمئنَّ إلى فهمها لنصوص الطبري وابن كثير والمجلسي وغيرهم؟ أمّا إذا كانت تسعى في إرضاء بعض القراء فذاك أنكى وأمرُّ، إذ قام سعيها على تحريف وتزييف لتراثها لم يأته حتّى كثير من مُتطرفي المستشرِقين! إنّنا لا نُنكِر أبدا على الكاتِبة أن تصدَع بآرائها، لكن يحق لنا أيضا أن نتدبّرَ ما تقول تفسيرا ونقدا لا نُجاوز هذا.
ختمت كتابك بمِعراج سميته “هل من فتح مُبين؟” فماذا تقصد به تحديدا؟
نقصد بذلك اتّكال الوردي على بعض الكِتابات الغربية في السّيرة، منها ما غلب عليه الطابَع الجِدالي، ومنها ما سكتت الكاتِبة عن ذكر أصحابه أصلا… ففي مُقابِل الإعراض عن السّير الفرنسية الهامّة، نجد الوردي تركَن إلى كتابات غير عِلمية في السّيرة، بل يملؤها الحِقد الديني على الإسلام ونبيِّه وآل بيته، ونقصد كتابات الأب لامنس (ت. 1937 HenriLammens)، صاحب كتاب فاطمة وبنات محمَّد (بالفرنسية، 1912) إذ وافقته في أغلب ما أوردته في الفصل العاشر “”الابنة والخَتَنُ” (La fille et le gendre). وأرجح الرأيِ أنّها استقت صورتها لعلي وفاطمة من هذا الكاتب، وإن أحالت فضلا عنه على مصادر سُنية قديمة في الحديث والتاريخ كالطبري، وابن كثير ومُسنَد ابن حنبل… فالتّطابق بين ما جاءت به الوردي عن علي وفاطمة وما صنعه لامنس هو الذي جعلنا نؤيّد تأثيره فيها إذ مثّلت الوردي عليًّا في الفصل العاشر في هيئة رجل “قبيح” مُعدَم، وصوّرته “بدينا أفطسَ الأنفِ، وأَرْمَصَ العينين” (أيّام محمّد، ص 77). وقد كان علي “نَوْمانَ” (كثير النوم)، لهذا احترز النبي من منحه زِمام السّلطة…. وعلى هذا السَّمت تبدو لنا خُلاصةُ الفصل منسوخة من لامنس، ولا جديد فيها. فما فائدة هذه القصص للمُؤرِّخ في هذا العصر؟ وكيف تسير باحِثة جامعية في خُطى كِتابات غلبت عليها العصبية الدينية، وكانت نِتاجا لسياقها الجدلي، ومِحضنِها الاستعماري في العُقود الأولى من القرن العِشرين؟
كيف ذلك؟
تشكّ هالة الوردي في الرّوايات التي تقول إنّ الرّسول تُوفّي وعُمرُه ثلاثٌ وستون سنةً أو يزيد؛ وتُرجِّحُ أنّه لم يكن “ستّينيا” حين توفّي، بل في الخمسين من عُمُره (وربّما في الأربعين) [أيّام محمَّد، 123]. ثمّ تُورِدُ إشارة بعض المصادر غير الإسلامية إلى أن النبيَ كان حيّا سنة 634 م، وتفعل ذلك في شيء من التشويق، مرجِئةً تفصيل القول إلى ما بعد المتن (Après-dire)، وكأنّها ستفتح فتحا مبينا (أيّام محمَّد، ص 124). وحين أتت الكاتِبة بالتفاصيل في مبحث “ما تبوح به المصادر غير الإسلامية”، قالت: إنّ هناك وثائقَ تعود إلى القرن السّابع الميلادي تنقض إجماع المصادر الإسلامية على موت الرّسول بالمدينة سنة 632 م. واستنادا إلى تلك المصادر كان محمَّد حيّا عام 634 م، وقاد بنفسه حملةً على فِلسطين، وانتصر في إحدى المعارك بغزّةَ (أيّام محمَّد، ص 169-170). وترى الكاتِبة أنّه يعسُر رد ما أوردته مصادر القرن السابع والثامن غير الإسلامية من أن الرسول غزا “الأرض المقدسة” (فلسطين)، بعد تاريخ وفاته المزعوم سنة 632 بسنتين أو ثلاث (أيّام محمَّد، ص 171). لا رِبيبةَ في أنّ مسألة وفاة الرّسول تستأهل نقاشا عِلميا من خلال مُقارنة الرّوايات الإسلامية وغير الإسلامية القريبة أو المُعاصِرة للّدعوة، لكنّنا ننعى على الكاتِبة أن تُظهِرَ ما قالت في مظهر الجِدّة، ولا تُحيل على مصادر العِلم التي أغنت المسألة، فما ذكرته كلّه فصّله ألفريد لوي دي بريمار في كتابه تأسيس الإسلام (بالفرنسية، 2002)، وحرِيٌّ بمَن يكتُب بالفرنسية ألا يقفزَ على هذه المساهمات. وقد تواترت قرائن حين قارنّا ما أوردته الوردي وما أورده بريمار ترجّحُ أنّ الكاتِبة أغارت على بريمار دون أن تُحيلَ عليه، فليس المُشكِل في مُراجعة أهل العِلم لكنّه في الأخذ عنهم، والتَّعمية على ذكرهم. وحتّى لا نكونَ من المُتقوّلين على الوردي أوردنا في بحثنا ما قاله بريمار، وما قالته هي، مع تعريب بريمار ليتّضحُ الأمر، أمّا تغيير اللّفظ والتقديم والتأخير، فلا يُغيِّر كثيرا من المأخوذ (فتنة السّرة، ص 106-107).
ومن آيات ما نعتبره انتهابا لكتاب بريمارتأسيس الإسلام دون الإحالة عليه ولو مرّة واحدة (أحالت على بعض مقالاته) قوله في محنة كتابة السّيرة (ترجمة محاسبي، ص 37-38): «وبالفعل، إن المعضلة المحيرة التي يجد المؤرخ الحديث صعوبة في الخروج منها هي تلك التي كان الباحث هارولد موتزكي (HaraldMotzki) قد لخّصها عام 2000 وهي: “من جهة نجد أنه من المستحيل أن نكتبَ سيرة تاريخية للنبي من دونَ أن نُتَّهمَ بأننا نستخدم المصادر القديمة بشكل غير نقدي. ومن جهة أخرى، عندما نستخدم هذه المصادر بشكل نقدي، فإننا نجد بكل بساطة أنه من المستحيل أن نكتبَ مثل هذه السيرة”». وفي نهاية هذا الشاهد يُحيل بريمار على كتاب موتزكي، أي على الكتاب نفسه الذي أحالت عليه الوردي، وقد سهَّل بريمار الأمرَ على الوردي إذ ذكر الصّفحةَ، فذكرتها هي كذلك! ولا مِريَةَ في أنّ النص الفرنسي لبريمار، وهو عُمدتنا، كفيل بإظهار التّشابه الكبير بين كلاميْ صاحب تأسيس الإسلام، وصاحبة أيّام محمّد (فتنة السّيرة، ص 118-120).وإنّه لتطابُق شبه تام، بصرف النظر عن بعض الاختِلاف في العِبارة.
ما هي خلاصة ما انتهيت إليه في بحثك عن كتاب أيام محمّد الأخيرة؟
أعتقد أنّ مركب هالة الوردي كان زلوقا في أمور لا تُعد، إذ دفعتها العَجَلة في إصدار الكتب، وهي غير المُختصة بالتاريخ ولا الحضارة الإسلامية إلى عدم تعيير المصادر التاريخية، فلم تُفرِّق بين المُتقدِّمة والمُتأخّرة، ولا بين الدينية كمُسلِم وابن حنبل، والتّاريخية كالطّبري، وما يقع بينهما كـطبقات ابن سعد… واعتمدت على مصادر متأخّرة جدا كالسيوطي في جامع الأحاديث، والمُتّقي الهنديفي كنز العُمال.فهل إنّ المُتّقي الهندي الذي عاش بعد السيوطي بعُقود (ت. 975 ه/ 1567 م) مرجِع في التاريخ؟ ما الذي يُمكن أن يعثُر عليه مُؤرِّخ في مثل هذه المصنفات؟ أحالت الوردي على هذا الكنز أكثر من مائة مرّة، ولم تُحِل على كوك وكرون (Cook&Crone, Hagarism, 1977) مرّةً واحِدةً!
وقد استسهلت هالة الوردي التاريخ، فركنت في مسائل إلى مراجع غير عِلمية كفعلها في استنساخ صورة عليّ وفاطمة من لامنس الذي عُرِف بنزعته التبشيرية، وبتحامُله على النبي وآل بيته. وفضلا عن ذلك انحرفت انحرافا خطِرا حين تحدّثت عن أكل خالد في حروب “الرِدة” من رأس مالك بن نُويرة إثر شيِّها، ولا تذكر الرّوايات القديمة إلا أنَّ خالدا اتّخذ من رأس مالك أُثفية مع حجرين، فنصب على الثّلاثة قِدرا، فأكل منها (القدْر)، فلا مجال للحديث عن أكل لحم البشر (cannibalisme)، مهما اختلف الأولون والآخرون في تقويم الخبر. ولكل ما تقدم من سوء ترتيب الكِتاب، وتسمينه بهوامش تجاوزت مائة صفحة، ولتكرار الكاتِبة للرّوايات الإسلامية القديمة دون أن تأتيَ بجديد، ولبعض الإسقاطات التاريخية الفاضحة، ولعدم إحاطة الكاتِبة بأوليات التاريخ، وتطور البحث في السّيرة، فإنّ كِتاب هالة الوردي أيّام محمَّد الأخيرة أنموذج للكتُب التي لا ينبغي تصنيفُها إذا أردنا أن نفحصَ عن نشأة الإسلام فحصا عِلميا. تلك كانت الكلِمة التي ختمنا بها كتابنا، فإن كانت قاسية بعض القسوة، فإنها جاءت نتيجة تدبّر متأنّ لكتاب هالة الوردي، ونقد سعينا في أن يكون عِلميا ما استطعنا.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 فيفري 2023