الشارع المغاربي: كان التاريخ دائمًا حلبة صراع يدور في حاضر من يقاربونه بين القائلين بإعادة قراءته بهدف المراجعة والنقد والتجاوز من ناحية ومن يدعون إلى استحضاره وتمثّله باستمرار بغاية الاتّعاظ أو العبرة أو الاقتداء من ناحية أخرى. ولكن على الرغم ممّا يبدو ظاهريّا من تنافر بين الطرفين إلاّ أنّ هناك ما يجمعهما في العموم الغالب في المجال العربي والإسلامي، ويتمثّل ذلك أساسا في عدم التخلّص من اعتقاد سائد مفاده أنّه من الممكن “إعادة بناء الماضي” والوصول إلى مكوّنات التاريخ كما وقع فعلاً. ولئن كان هذا مفهومًا بالنسبة إلى الفكر التقليدي والإيماني التمجيدي عمومًا، وكذلك بالنسبة إلى الجهات الدينيّة- السياسيّة الموظّفة للتاريخ في اتّجاهات مختلفة تبريرا لتوجّهاتها وشرعنة لها، فإنّ الأمر مختلف بالنسبة إلى القوى المنتمية فكريّا إلى الحداثة الّتي تدافع عن قيم حديثة عبر استقراء التاريخ فتسقط في كثير من الأحيان في مآزق التأصيل ولا تصل إلى تركيز القطائع الإبستيمولوجيّة الضروريّة.
* * *
شاع مفهوم “نزع الأسطرة” عن التاريخ العربي والإسلامي في الكثير من الدراسات الّتي تعلن انخراطها في مسارات التحديث والتنوير للخروج من الأزمات الحضاريّة المتعاقبة. وقد تمّ اعتبار أنّ الأسطرة الطاغية في الكتابات التاريخيّة الإسلاميّة وعدم التخلّص منها عائقا أساسيّا يحول دون التقدّم وتبنّي قيم الحداثة الكونيّة ممّا أدّى إلى الغرق في متاهات الهوويّة المغلقة. غير أنّ التعامل مع ذلك المفهوم، الّذي اشتهر بالخصوص مع رودولف بولتمان في كتابه الأساسيّ حول يسوع بين الأسطرة ونزع الأسطرة، قد شابه الكثير من سوء الفهم والتوظيف، إذ أنّه فُهم منه تخليص “التاريخ الواقعي الموضوعي” من مظاهر التخييل الأسطوري، وهذا الفهم خاطئ تمَامًا، إذ أنّ الأمر يتعلّق بفهم الكتابة التاريخيّة في سياق بنيتها الذهنيّة الّتي أنتجتها، فالقضيّة إذن تأويليّة، وبالتالي فإنّ نزع الأسطرة لا يعني أبدًا احتقار الأسطورة ودورها في تمثّل العالم وفاعليّتها في إنتاج المعنى على الوجود، وحمل آمال المؤمن بها والمعتقد فيها، بل هو يسير في الاتّجاه المعاكس أي إيلاء الفكر الأسطوري أهميّة كبرى في فهم البنى الذهنيّة المنتجة له والرهانات المنوطة بالمتخيّل التاريخي. وفي النهاية وبشكل عامّ يرتبط الأمر بالخروج من الوضعانيّة التي هيمنت على العقل والفكر مدّة طويلة. ولعلّ سوء الفهم المشار إليه قد ساهم بقسط كبير في تركيزه في المجالات العربيّة ترجمات بعض أعمال محمّد أركون المتعلّقة بالمتخيّل وقراءة التاريخ الإسلامي ممّا حال دون الاطّلاع المباشر لدى الكثير من الباحثين على المغزى الأصليّ لما طرحه فساد تصوّر عامّ أنّ المقصود بنزع الأسطرة هو تخليص “التاريخ” من أبعاده الميثيّة، وهذا ما لم يذهب إليه أركون تمَامًا بل على العكس من ذلك كانت دعوته صريحة إلى إيلاء البعد الميثي المكانة المهمّة التي هو بها جدير.
لعلّ عدم الوعي بمثل هذه النقطة المركزيّة يؤدّي إلى ما يمكن أن نسمّيه صراع “الوضعانيّات”، ذلك أنّ البحث عمّا وقع فعلا في التاريخ في إطار الفكر الحداثي لمقاومة التيّارات الرجعيّة والعنيفة يشكّل وقوعًا في خطإ فادح، إذ أنّ أعتى جماعات العنف، تجد ما تشرّع به لعنفها في التاريخ نفسه الذي يشرّع به التنويريون المسلمون لقيم الحداثة. ولعلّ من بين الخطوات الأساسيّة التي ينبغي القيام بها اليوم هي التغيير الجذري لكلّ القراءات التراثيّة والتساؤل عن كيفيّات كتابة التاريخ وعن مركزيّة المتخيّل والرمزيّ فيه عوضا عن المحاولات اليائسة للبحث عمّا حصل في الواقع التاريخي.
* * *
“كيْف يُكتَبُ التاريخ؟”، كان هذا هو السؤال الّذي وضعه بول فاين عنوانا لكتابه الّذي مثّل حلقة مهمّة من حلقات إعادة النظر في المعرفة التاريخيّة الغربيّة ليؤكّد ما عبّر عنه بأزمة تلك المعرفة. وكان هذا الكتاب أيضا علامة ضمن سياق معرفيّ متواصل إلى اليوم سواء في مستوى المناهج أو في مستوى المواضيع، على الرغم ممّا لقيه السياق الذي يتنزّل فيه عمله من معارضة، إذ اعتبر سياقا يمثّله “أسياد التشدّد” على حدّ عبارة بول ريكور، ومثّله ميشيل فوكو، وميشيل دي سارتو ونوبرت إلياس.
إنّ ما نقدّره أنّ الدراسات العلميّة والبحثيّة الأكاديميّة الجادّة في المجال العربي والإسلامي عموما، وعلى الرغم ممّا طرحته منهجيّا وفكريّا، لم تقترب كثيرا من مثل هذا الطرح، الذي قد يبدو جذريّا أو ملغيا للتاريخ مطلقا، ولكنّه ربّما يكون منطلقا للخروج من منطق التأصيل والبقاء في دائرة الجدل مع المعتقدين أيضا في الحقيقة التاريخيّة ولكن في الطرف النقيض، أي أولئك الذين يشرّعون للعنف والكراهيّة وإقصاء الآخر على أساس معتقدات وأفكار ورؤى تجد مشروعيّتها في ما يعتبر تجربة تاريخيّة على المعاصرين اليوم استحضارها والاقتداء بها، ولم نعد نر من جدوى في مقاومة ذلك بالمنطق نفسه، أي بالاعتقاد في وجود حقيقة تاريخيّة مخالفة، فنبحث في التراث عن التسامح مثلا لمقاومة العنف القائم باسم التاريخ، أو البحث عن العقلانيّة لمقارعة الدغمائيّة، أو الانفتاح لمحاربة الانغلاق، أو الحريّة لصدّ دعاة الاستعباد والخضوع، أو المساواة لمجادلةمنكِريها، أو حقوق الإنسان لإقامة الحجّة على رافضيها، فمثل هذا الأمر فيما نحسب، يدخل في باب التأصيل والتأصيل المضادّ، ونرى بالخصوص أنّه أوصل في كثير من الأحيان إلى عكس النتائج المرجوّة أو إنّه، على الأقلّ، وصل إلى حدّه. وهذا الأمر لا ينطبق فقط على قراءة ما اندرج في الكتابات التاريخيّة بل تعدّاه إلى مجالات كثيرة أخرى فيما يسمّى إعادة قراءة التراث ومن ذلك القضايا الحارقة التي تعيشها المجتمعات العربيّة والإسلاميّة في مجالات الحقوق والمساواة والحريّات الفرديّة والجماعيّة الحديثة التي تصطدم بالهويّات وبالإشكاليّات المرتبطة خصوصا بالموروث الديني وفي طليعتها قضيّة التشريع.
إنّ الماضي، كما لا يمكن أن يكون مثالا للاقتداء، لا يمكن أن يكون مستندا لشرعيّة القيم الحديثة أو تسويغها اجتماعيّا وثقافيّا. ولكن، وفي الوقت نفسه، ينبغي أن تفيد مقاربة الكتابات التاريخيّة بمختلف أصنافها من المناهج الحديثة والمعاصرة في مقاربة التراث بصورة عامّة ومن بينها إيلاء الجانب المتخيّل فيها ما يستحقّه من أهميّة قصوى، لأنّه في تقديرنا إنّ المجتمعات العربيّة والإسلاميّة اليوم في أمسّ الحاجة إلى متخيّل جماعيّ جديد يخرج بها من متخيّل الجماعة الذي تمّت صناعته للاقتداء والاستحضار وشتّى أنواع الإسقاط، إلى متخيّل آخر يتمّ الوعي به وبثرائه ورمزيّاته ومساهمته الخلاّقة في رؤية العالم والعلاقات والنظم المعرفيّة دون أن يكون مستندا في تنميط الراهن.
لقد غدا الخروج من المقاربات التراثيّة حتميّا لدخول مرحلة جديدة هي المقاربات التاريخيّة وفق المعرفة التاريخيّة الحديثة أمرا مصيريّا. وربّما يكون هذا الرهان من أوكد ما يجب وضعه هدفا لقطع الطريق أمام دعاة العنف بتوظيف التاريخ الإسلامي سواء كان دينيّا أو غيره، لا بتغيير منطقة المعركة، أي التاريخ، بل بتغيير أسلوبها عبر قراءات جديدة، وتأويليّة أخرى تستأنف ما كان مشاريع لم تتواصل وسمحت للجماعات الهوويّة بافتكاك التاريخ وأفكاره. بعض هذا المشروع يجد له صدى في فلسفة الدين والتاريخ مثلا لقد سعت الحركات العنيفة والتيّارات الإسلامويّة بمختلف تصنيفاتها بعمليّة “سطو” على التاريخ الديني والثقافي والحضاري الإسلامي، ويبدو اليوم، أنّها، وللأسف الشديد، ذهبت بعيدا في مثل ذلك المسعى. ومن ناحية أخرى كان ذلك التاريخ أيضا ساحة معركة تقدّمت فيها القوى الممثّلة للإسلاموفوبيا ومنظّري “نهاية التاريخ” و”صدام الحضارات”، المتجنّية على ذلك التاريخ نفسه، ممّا ساهم في تكريس نزعات عنف وكراهيّة وصراعات حضاريّة من الجهة المقابلة.
إنّ أوكد ما ينبغي القيام به الآن هو التفكير بالجدّيّة اللازمة في استعادة ذلك الموروث بخلق طرق جديدة في مقاربته في المستوى البحثي والأكاديمي، وهذا مهمّ وأساسيّ، ولكن وبالخصوص محاولة تركيز استراتيجيّات خطاب جديدة في المستوى الاجتماعي وفي الفضاء العامّ، وفي برامج التربية والتعليم، وفي وسائل الإعلام، في ما يتعلّق بالموروث بصورة عامّة حتّى لا يستمرّ ما نحن عليه من توظيف للتاريخ الديني والثقافي والحضاري، وجوهر تلك الاستراتيجيّة يقوم على التمييز أوّلا بين خطاب الواقع وخطاب الحقيقة، وثانيا على تأكيد مبدأ الانتماء إلى ذلك التاريخ ولكن مع تغيير دلالة الانتماء، حتّى يكون التاريخ الخاصّ مدخلا إلى الإنسانيّة من غير باب التأصيل، ويكون الخلاص إنسانيّا لا هوويّا.
————–
1 – يستعيد هذا المقال أجزاء من خاتمة عملنا «في المتخيّل التاريخي الإسلامي، نحو الخروج من مآزق التأصيل»، تونس، دار نيرفانا، 2020.
* نادر الحمّامي (جامعي ورئيس جمعيّة فواصل)
- نُشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 23 مارس 2021