الشارع المغاربي – أمام تفشّي وباء كورونا: من أجل بناء فهم أصيل للصحّة / بقلم د.نوفل حنفي

أمام تفشّي وباء كورونا: من أجل بناء فهم أصيل للصحّة / بقلم د.نوفل حنفي

قسم الأخبار

8 أبريل، 2020

الشارع المغاربي: كيف يجهد الجميع نفسه لمقاومة وباء كورونا ونحن لا نعرف مفهوم الصحة ؟ وهل يمكن فهم صحة الإنسان في زمن كورونا ؟ ما هي المقاربات العلمية التي يمكن العودة إليها من اجل بناء فهم أصيل للصحة ؟  لقد استعاد ظهور وباء كورونا في تونس وفى العالم العربي بعض الاختلافات الدينية والعلمية في كيفية فهم هذا الوباء وكيفية التعامل معه حتى أن طرح فكرة العزل الطبي من طرف وزارة الصحة في تونس ترك المجال إلى العديد من الاختلافات في وجهات النظر ليس فقط بين المقاربة الدينية والمقاربات العلمية والفلسفية بل امتدت هذه الاختلافات في القراءة إلى أعماق الموقف الديني نفسه.

ثمة اهتمام كبير بموضوع الصحة في علاقة بخطورة وباء كورونا وهو اهتمام غير جديد في ذاته إذ عرف العالم والبلاد التونسية على الأقل العديد من الأوبئة وقد اعتقدنا أن عصر الأوبئة قد انتهى بحكم الثورة العلمية وانتصار الإنسان الحديث في معركة السيطرة على الطبيعة حتى أن هذا الكائن قد تجاوز عصر الثورة الصناعية ودخل منذ مدة عصر الثورة الرقمية واقتصاد الذكاء، لكننا تفاجئنا من الانتشار الكبير لوباء كورونا من خلال تعميمه وعولمته نظرا لأهمية التغطية الإعلامية ووسائل الاتصال الرقمي، لقد فشل مجتمع السرعة والذكاء والأنظمة الرقمية المتطورة فى اكتشاف هذا الوباء. ففي نهاية شهر ديسمبر 2020 بدا كائن مجهول لا يرى بالعين المجردة التحرك السريع والخفي حتى أن التقنيات الهائلة لم تكن قادرة على كشفه قبل أن يعلن هو عن نفسه ويستعد ليفتك بالجميع.

تلك هي الأسباب المباشرة التي تدعونا لاستعادة التفكير في موضوع نعتقد انه بسيط ومعروف رغم أننا تعودنا استعمال كلمات لا نعرفها بشكل كاف ولا نحرص على تعريفها بشكل دقيق. فما هي الصحة ؟ يبدو أن الصحة لها معاني متعددة لأنها تتعلق بالإنسان والعالم الذي يسكنه، اى أنها في علاقة بالإنسان من حيث هو جسد وروح، ولما كانت الصحة شديدة الصلة بنظام الذات ونظام المكان ونظام المدينة والدولة فلا غرابة إن اعتمدت في معناها الايتيمولوجى على البعد الاقتصادي والسياسي والفلسفى. يبدو أن فكرة الصحة لا تعرف شكلا ثابتا بل تعود إلى حدود متحركة حسب العصور والأماكن والمقاربات النظرية التي تحاول فهمها، ورغم أن فهم مسالة الصحة يفترض الانفتاح على العديد من المقاربات الدينية والعلمية والفلسفية، فان ضرورة الاختصار تجبرنا على الاقتصار على بعض المقاربات دون غيرها لعلنا نتعرض للمقاربات الأخرى في مقال آخر.

ويهدف هذا النص الموجز إلى محاولة فهم موضوع الصحة بالعودة إلى التاريخ والفلسفة خاصة وان علم الطب قد احتكر في السنوات الأخيرة كل المسائل المتعلقة بصحة الإنسان وأصبح الطب يسمح لنفسه بالتنظير في موضوع الصحة ليس فقط من وجهة نظر الفيزيولوجيا والباتولوجيا أو علم الأمراض بل أن الأطباء يتكلمون في الفضاء العام الحسى والمنظم والمجرد حسب التحليل الهابرمازى من حيث أنهم مواطنين ومسؤولين سياسيين وإداريين للصحة، رغم أن مقولة الصحة تبقى غائبة عن كل الخطابات الطبية الخالصة وذلك لان مفهوم الصحة ليس مفهوما اداتيا  بالنسبة للمهتمين بالشأن الطبي وهو مفهوم مجرد وكلى حسب بعض المختصين في الطب والبيولوجيا، إضافة إلى أن مركز اهتمام الطبيب وعلم الطب عامة هو المرض أو الوباء الذي يجب علاجه والحياة التى يجب الحفاظ عليها ولكنه لا يهتم بالصحة ولا يريد أن يعرف ماهيتها وقد استنتج” جورج قونقيلام”  أن الصحة هي مقولة ثانوية مقارنة بأسبقية المرض وان الطب قد ولد لان ثمة بشر يشعرون بالمرض. أما السبب الأخير لغياب مفهوم الصحة داخل الخطاب الطبي فهو يعود إلى الطبيعة الداخلية للطب نفسه وخاصة الطب الحديث وذلك بسبب الايدولوجيا العلمية والتقنوية من ناحية وفكرة التخصص من جانب أخر.

فالخطاب الطبي هو خطاب ايديولوجى عندما يدعى أصحابه أنهم قادرين على الحديث عن الإنسان وعن الحياة بشكل عام اى أنهم  يعتمدون على علم الطب كما لو انه المرجع الشرعي الوحيد الذي يحتكر الحديث عن الإنسان وحياته الطيبة. وعندما نعود إلى الموسوعات الطبية العامة ونصوص كبار أساتذة الطب وتدخلاتهم في وسائل الإعلام يذهب إلى اعتقاد الجميع أن علم الطب هو ذروة الثقافة الكونية وفن العيش السعيد و أن التفسير الشامل للفرد والمجتمع يعتبر أن ذروة الثقافة وفن العيش يعودان إلى النظام الصحي والنظام البيوطبى. ويعود أساس هذه الأعمال و المساهمات الطبية إلى الواقع السياسي، و أن مشكل الصحة والأمراض ليس مشكل الجسم الفيزيائي بل مشكل منظومة السلطة وأسسها القيمية والأيديولوجية و تدريب رجال السياسة كيف يتصرفون ؟ وكيف يوزعون الموارد الطبية والاقتصادية والثقافية والتربوية والرياضية وخاصة الموارد النادرة… كيف يوجهون العالم ؟ وانه يجب على الأطباء ألحرص على المرضى وان لا يعتبروا أنفسهم فلاسفة وحكماء .

رغم قيمة الخدمات التي يقدمها الطب للمرضى والدور الكبير الذي يقوم به الأطباء في مقاومة الأمراض والأوبئة مثل وباء كورونا، فان الصحة ليست مقولة طبية خالصة فعلاوة على أنها ليست موضوع دراسة مفهومية من طرف الأطباء وفى نفس الوقت فهي ليست مجرد صحة عملياتية وعندما يتكلم الأطباء عن الصحة فأنهم لا يتكلمون كأطباء بل من حيث أن لهم حكمة  خاصة أو أنهم مستشارين سياسيين و أنهم يعترفون أن مقاربة الطب هي مقاربة قطاعية غير كافية مما يمهد لأهمية المقاربة التاريخية والفلسفية لأنها تجعل من الإنسان مرجعها ومركزها وغايتها مع إمكانية الاستفادة من المقاربة  الاختزالية الناجعة لعلم الطب. هل يمكن للمقاربة الفلسفية التاريخية أن تقدم لنا مساهمة متميزة عن المقاربة الطبية العلمية المحترفة التي قلنا أنها غير كافية  رغم أهميتها ؟ ماذا يمكن أن تضيف هذه المقاربة في فهمنا للصحة ؟

تعترف منظمة الصحة العالمية في نصوصها المؤسسة أن المشاكل المرتبطة بالصحة تعود إلى الأنظمة السياسية والاقتصادية والإدارية وهو ما يمكن أن يظهر من خلال مثال استئصال الجدري.  لقد قد مت هذه المنظمة التهاني لنفسها عندما نجحت في استئصال هذا المرض ، خاصة وان ذلك قد مكن العديد من الدول من بناء اقتصادها وإنقاذ مواطنيها من الفقر والموت. وهكذا فقد أصبحت الصحة مسالة سياسية اى مشكل اختيار وقرار وعندما ننسى مثل هذا البعد السياسي للصحة فان ذلك قد يتسبب في مخاطر اليوطوبيات الجديدة التي تتمثل في الذهاب مباشرة من المشروع العلمي إلى الواقع دون المرور بمرحلة التوسط الاجتماعي والسياسي اي اخذ القرار بعد التشاور مع أكثر عدد ممكن من البشر.

أما إذا بقينا في حدود اليوطوبيات الجديدة فسنكتفي بالدوران حول حقل الصحة دون معرفته بشكل حقيقي لذلك فإذا أردنا فهم الصحة فلا بد من الانطلاق من الفلسفة دون تجاهل أهمية التاريخ . وعندما يشرع التاريخ في وصف تطور الصحة  فهو يحتاج إلى الاعتماد على جهاز مفهومي. أما إذا أرادت الفلسفة تعريف الصحة فهي تنخرط داخل التاريخ لكن وحدتهما هي القادرة على استعادة المفهوم الديناميكي للصحة وذلك في أشكاله المختلفة التي تمكننا من الوصول إلى هويته التي هي في آخر المطاف هوية الشخص الانسانى الذي يستعد للثورة على منظومة القيم ومنظومة السلطة لأنهما لم ينجحا في اكتشاف كورونا من حيث هي وباء خفى وأكثر سرعة من قدرة منظومات التوقع والاستباق. فما يمكن للتاريخ أن يقدمه لفهم الصحة لا يمكن أن يفهم إلا داخل الدراسات الفلسفية أو داخل التاريخ الفلسفي. وليس للصحة تعريف قبلي لان الإنسان هو الذي يجتهد من اجل ملئها من خلال تعاقب تاريخه وان الفلسفة وحدها هي التي تكون قادرة على تحليل محتوياتها وقد اعتبر كل من” جورج قونقيلام” و”هانس قادامار” أن فكرة الصحة ليست فقط مجرد فكرة طبية خالصة لأنها تتعلق بكل البشر وفى هذا المجال فهي تستحق أن تكون موضوعا للتفلسف الحر. وهنا يمكن أن نعتبر أن فلسفة الصحة عند ” جورج قونقيلام” هي فلسفة ذات أهمية خالصة وان أطروحاته الأساسية هي أطروحات معروفة ومن ذلك أن” العادي ” يكمن في المعيارية البيولوجية أما الصحة فهي مفهوم مبتذل وغير علمي وهو ما ستكون له استتبا عات فلسفية هامة.

لا يمكن تقديم تعريف قبلي للصحة، وهو ما جعل “جورج قانقيلام” يعتمد في أبحاثه على بعض الجوانب التاريخية حتى أن أطروحته حول ” العادي والمرضى” تعطى مكانة هامة لتاريخ الطب وتاريخ الأفكار. فلا بد من الانطلاق من مجموعة من المواد التاريخية حتى نتمكن من استنتاج بعض النتائج الهامة التي لا تكون عبارة عن تعميمات مسيئة ومبالغ فيها و أن تكون في نفس الوقت فلسفية ومتجذرة داخل واقع الفكر وهكذا فان فلسفة قونقيلام هي مقاربة ذات أهمية بالغة لمفهوم الصحة ويعود ذلك إلى منهجها الذي يتماهى مع منهج مؤرخ فلسفة العلم . فلا بد من التكامل بين التاريخ والفلسفة من اجل الطرح الجدي لمفهوم الصحة. نحن هنا ايزاء مقاربة فلسفية وتاريخية لمسالة الحفاظ  على الصحة لأنها لا تتخلى عن أهمية الاعتماد على دليل النظافة وأعمال الأطباء والفلاسفة والأحداث التاريخية والوقائع الجغرافية والتغييرات السوسيولوجية والثقافية وهى في نفس الوقت مقاربة نقدية لأنها تعول على تحليل مفاهيمي وتفسيري لكل هذه الوثائق والأعمال من اجل وصف وتفسير كل حدث بشكل واقعي و أن التاريخ هو الذي يمكن من فهم ما حدث بشكل واقعي ولماذا حدث بذلك الشكل وقد يعود ذلك إلى أن التغييرات التاريخية يمكن أن تؤثر على المفاهيم والأفكار وعلى منظومات السلطة كما يمكن أن يحدث لنا في العالم وفى تونس في مرحلة ما بعد كورونا حيث انه من المرجح حسب تصوري التاريخي والفلسفي أن ثمة فرصة ما للثورة على علاقات السلطة والعلاقات السائدة، إذ نرى السلطة عاجزة في الغرب وفى تونس على التحكم في تراجيديا كورونا التي فاجأتنا ونحن لا نعرفها ولا نراها وهذا العجز هو سيدعو الجيل القادم إلى مراجعة نقدية لكل نسق السلطة وكل أسسها الأيديولوجية وذلك من اجل تعويض ما عجزنا عن تغييره في انتفاضة 17 ديسمبر بحيث تحرص الفلسفة على إحكام الربط بين التاريخ والفلسفة اى أنها تستثمر أفضل ما في الاختصاصين وغيرهما من الاختصاصات الأخرى التي لم نجد الفرصة لتحليلها من اجل بناء فهم أصيل للصحة في علاقة وطيدة بتجاوز المرحلة المظلمة لكورونا وما بعدها والطموح في بناء نموذج جديد يقوم على سلطة مغايرة تخلصنا من سطوة قانون السوق وعيوب الفهم السطحي للديمقراطية وغياب العدالة الاجتماعية…. وهو دليل على ضرورة وجود مسافة نقدية ضرورية من اجل القيام بتحليل مفهومي لمسالة الصحة وعلاقتها بمنظومة السلطة والقيم ونعنى بذلك مسافة داخل الزمن وداخل الفضاء وهى تلك المسافة الضرورية التي يوفرها التفكير في الصحة ، كما هي الطريقة الوحيدة للتقدم في طريق المسار الصحي دون غمامات ودون فقدان للذاكرة مع السعي إلى إدخال البعد المفهومى الفلسفي لطرقنا في القول والفعل.

*د.نوفل حنفى أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية والحقوقية بالجامعة التونسية، ناقش رسالة دكتورا بالفرنسية وستنشر قريبا بعنوان “كونية وتعددية مبادئ العدالة” وكتب العديد من المقالات في مجلات عالمية محكمة تتعلق أساسا بالقضايا السياسية والأخلاقية والحقوقية الراهنة مثل العدالة والديمقراطية والتسامح والعصيان المدني وايتيقا الجنسانية.

 

 

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING