الشارع المغاربي: خيرا.. إجتمع المجلس القومي لينظر في ملف المهاجرين من جنوب الصحراء. الجميع قلقون فالدولة تتحمّل قدرا كبيرا من المسؤولية عما آلت إليه الأوضاع. الرأي العام يتحدّث بانزعاج عن هذه الهجرة وبشيء من اللّوم والإستياء، ويذكر أمثلة عن حالات التساهل والتسيّب والعنف الفردي والجماعي في الفضاء العام. تعبيرات جديدة بدأت تظهر في الكتابات والتعاليق “تونس مفترق هجرة” و”تونس أرض استقبال”، مع أوصاف مثل ” التدفّق” و”الغزو” و”الإستيطان”. من الأسئلة الشائعة والمطروحة: من هؤلاء؟ وما هو مصيرهم في تونس المُثقلة بأوضاعها؟ ومَنْ وراءهم في تنظيم الهجرة والإقامة والتشغيل؟ تُرى ما هي استعدادات الدولة لهذه القضيّة المُستحدثة وفي هذا الظرف الخاص؟
عُمق الظّاهرة
نبّه صندوق النقد الدولي في تقرير له سنة 2016 من إزدياد الهجرة من بلدان جنوب الصحراء وبوتيرة سريعة على مدى العشرين سنة الماضية، وبيّن تضاعف نسبة السكان بها وبنفس النسق تقريبا خلال الخمسة والعشرين سنة المُنقضية. استنتج الخبراء أنّ التطوّر المسجّل في ذلك التاريخ متمركزا في أعداد السكان في سنّ العمل وهم الذين يتّجهون عادة إلى الهجرة، وأنّ أبرز العوامل تتمثل في ضعف الدخل الفردي، وتنامي شريحة الشباب، والعلاقات الإستعمارية السابقة، وحروب جنوب الصحراء وفي البلدان غير الساحلية.
ولعلّ تأسيس تجمّع دول الساحل والصحراء في 4 فيفري 1998 بمبادرة من المرحوم العقيد القذافي، وإعلان “سرت” الخاص بالإتحاد الافريقي والذي فتح أبواب ليبيا على إفريقيا بشكل لم تعرفه البلاد من قبل هو في صدارة أسباب القضية الجارية. فالإتفاقية المشار إليها تهدف إلى ضمان حرّية تنقّل الاشخاص ورأس المال بين الدول الأعضاء وفي نفس الوقت حرّية الإقامة والعمل والملكية وممارسة نشاط إقتصادي في أي دولة عضوة (1) .
هكذا برزت ظاهرة المهاجرين من جنوب الصحراء في المغرب العربي (شمال القارة)، وبفعل ذلك أصبحت هذه الهجرة مجالا لمافيات تنشط سواء في دول جنوب الصحراء أو بالمغرب العربي وكذلك في الضفّة الأخرى. إتخذت الهجرة أبعادا مأسوية بفعل تواتر غرق القوارب الصغيرة التي تزدحم بالحالمين بالهجرة مخلّفة مئات إن لم نقل آلاف الموتى، دون احتساب أولئك الذين يتم اعتقالهم سواء من طرف الأجهزة الأمنية الغربية أو المغاربية.
على ضوء ذلك، توجّهت البلدان الأوروبية إلى التشديد في شروط منح التأشيرة وفرض قيود على المسافرين حتى داخل الدول الإفريقية نفسها. وفي هذا السياق واجه المشرّع التونسي هذا الواقع إنطلاقا من قانون 30 مارس 2003 والمنظم لدخول وإقامة الأجانب، كما إنخرط في السياسات الصارمة التي اعتمدتها دول المغرب العربي في إطار “حوار 5+5” (2) الذي تميّز بحزمة من الإتفاقات لتبادل المعلومات وإصدار نصوص قانونية وملاحقة المنظمين والمشاركين في الهجرة غير الشرعية، مع رفع مستوى تدريب أعوان وإطارات المراقبة الحدودية وتجهيزهم بمعدات وتقنيات الكشف الجديدة.
من المهم التذكير بأنّ أول قانون للأجانب في تونس يعود إلى 8 مارس 1968 (قانون عدد 0007-1968) وبأن أبرز ما فيه العقوبات المفروضة على الأشخاص الذين يساعدون أو يحاولون المساعدة بشكل مباشر أو غير مباشر على الدخول أو الخروج أو التنقّل أو الإقامة بشكل غير قانوني في البلاد.
من النخّب إلى المغامرين
عرفت البلاد ودون إشكاليات تُذكر تجربة “إقامة النخب الإفريقية” سابقا، عبر الطلبة الأفارقة في التعليم العالي، والوجوه الرياضية التي اختارت تونس لمواصلة مسيرتها. وتعزّزت بتمركز البنك الإفريقي لدينا من 2003 إلى . 2014
تغيّر واقع الهجرة اليوم عمّا كان عليه في بداية الألفية الثالثة، ليصبح واضح المعالم في الأحياء والفضاءات وفي أغلب الولايات.
الوضع اليوم مختلف تماما لقد صنعنا المأزق لأنفسنا، نحن نتعامل في حياتنا اليومية مع الكثير من المهاجرين والمهاجرات في المقاهي ومحلاّت الأكلات السريعة وصيانة السيارات والبناء والنجارة وفي التنظيف والأنشطة المنزلية وغيرها. ونسمع عن انحرافات لديهم وانزلاقات أخرى. كل هذه الأمثلة تشير إلى أنّ المهاجرين يعيشون على هامش المجتمع، وإلى أنّ عدم الإستقرار هو السمة البارزة في حياتهم. ومن المظاهر الصادمة تسوّل البعض منهم في مفترقات الطرقات، والتعامل مع القُمامات بحثا عن القوارير البلاستيكية لكسب قليل من المال. لا أستبعد في المقابل أن تكون هناك حالات نجحت في إنجاز مشاريع خاصة ربما تؤدي بأصحابها إلى الإندماج لاحقا.
لمزيد فهم القضية راجعتُ تقرير المسح الوطني للهجرة الذي نشره المعهد الوطني للإحصاء سنة 2021 بالتعاون مع المرصد الوطني للهجرة والذي يشير إلى أنّ عدد الأجانب المقيمين بتونس بصفة قانونية أو دون وثائق رسمية يبلغ 59 ألف مقيم: 18.5% من أوروبا، 37% من المغرب العربي، و 36.4 من دول إفريقيا دون تفصيل. وتشهد شريحة المهاجرين من دول جنوب الصحراء تطوّرا ملحوظا حيث ارتفع العدد من 7.200 شخص سنة 2014 إلى 21.466 في تاريخ المسح.
يتمركز المقيمون في إقليم تونس (ولايات تونس وأريانة وبن عروس ومنوبة)، وفي ولايات الوسط الشرقي وفي مقدمتها صفاقس. ويستفاد من إستجواباتهم أن أسباب الهجرة تتحدّد في: الزواج أو لمّ الشمل العائلي بنسبة 36.6% والعمل وتحسين نوعية الحياة بنسبة 35.1 % والتعليم العالي بنسبة 15.5% وأن 6 من 10 مهاجرين يعتزمون البقاء في تونس، و3/2 يفكرون في العودة لبلدانهم الأصلية، و4/1 يعتزمون التحول إلى دولة أخرى، و10/1 ليس لهم رأي.
في كل الحالات لا تخلو الظاهرة من التأثير في المجتمع المحلي حيث ينقل
الوافد في فضاء عمله وسكناه ممارساته وخلفيته بالضرورة، وهنا تبدو الهجرة
عاملا مُفاقما للأزمات القائمة لدينا.
آمل في هذا الوضع الملتبس ألا يتم توضيف القانون رقم 50-2018 عندنا والخاص بالتمييز العنصري من طرف بعض المغامرين ومن ورائهم أصحاب المنفعة في الهجرة.
مشروع “أرض إلإستقبال”؟
تُشكّل الهجرة السرّية أحد الملفات الشائكة في العلاقات الأوروبية – المغاربية. وعلى هذا المعنى فكّرت دول أوروبا في بعث مركز استقبال وفرز للمهاجرين بالمغرب العربي (شمال إفريقيا) وفقا لقرار المجلس الأوروبي المنعقد في 28 جوان 2018. ويُعرف هذا المشروع بــ ” مقاربة النقطة الساخنة “approche hotspot” والذي اعتمد في اليونان وإيطاليا منذ 2015. تهدف هذه المقاربة ظاهريا إلى تقديم المساعدة للدول المُعرّضة لضغوط الهجرة على خط المواجهة خارج حدود أوروبا، ولكنها في الواقع هي نوع من المناولة لحماية الحدود الأوروبية.
حظيت مقاربة “النقاط أو المنصّات” بقبول متفاوت حسب الأطراف وبين الضفّتين. فلقد أظهر القادة في أوروبا الكثير من الحماس خاصة في ايطاليا وفرنسا، فيما كانت ردود الفعل أكثر تباينا في الجانب الإفريقي والعربي. لقد كان لسفير تونس لدى الإتحاد الأوروبي في تلك الفترة موقف مشرّف في جوان 2018، بعد أن كرّرت كل من ألمانيا وإيطاليا الطلب لقبول فكرة ” المنصة”، مجدّدا علنًا رفض تونس ذلك، ومضيفا “ليس لدينا القدرة ولا والوسائل لتنظيم هذه المراكز، نحن نعاني كثيرا من تداعيات ما يحدث في ليبيا والذي هو انعكاس للتدخل الأوروبي”. ودون استغراب وعلى هامش قمّة الاتحاد الإفريقي في 2 جويلية 2018 رفض العديد من القادة هذه الخطة، حيث شبّهها أحد المسؤولين في الاتحاد بـ ” أسواق العبيد الحديثة” التي تنتقي الأفضل للدخول إلى أوروبا وترفض البقية.
اشارت أصوات أخرى إلى أن دول المغرب العربي تواجه نفس الصعوبات التي تواجهها الدول الأوروبية في ما يتعلّق باستقبال المهاجرين: ومن ذلك عدم رضاء المجتمعات، وظهور حالات نفور مع الضغط على الخدمات العامة والإقتصاد. هكذا رفضت تونس هذا الإقتراح إلى جانب المغرب والجزائر ومصر وليبيا. ولقطع الطريق على المحاولات الأوروبية الجانبية تبنّى في فيفري 2019 وبمبادرة مصرية، 55 عضوا في الإتحاد الإفريقي موقفا جماعيا يرفض خطّة “بروكسيل”. ولم يتم الكشف عن الموقف إلا لاحقا في قمة الاتحاد الأوروبي مع الجامعة العربية في “شرم الشيخ”.
من عجائب الصدف وبعد هذا الشوط الطويل تشرح التقارير الغربية أنّ القانون الأوروبي ينص على ضرورة تركيز مثل هذه المنصات في دول مصنّفة “آمنة” وأنّ هذا الشرط في نظر المشرّعين بأوروبا لا يتوفّر حاليا في أية دولة بالمغرب العربي.
خطّة الإستعانة بتونس كأرض إستقبال قائمة.. ولكنها تتم خطوة بخطوة.. وأوّلها تصنيفها “بلدا آمنا” لخدمة مصالح غيرها.
—————-
(1) الدول الأعضاء هي: بوركينافاسو، وليبيا والسينغال والنيجر والسودان وتشاد وجيبوتي وإرتريا وغامبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والسنغال سنة 2000، ومصر والمغرب ونيجيريا والصومال وتونس سنة 2001، وأخيرا بنين وتوغو سنة 2002.
(2) يجمع الحوار 5+5 تونس والجزائر وليبيا والمغرب وموريتانيا وإيطاليا وفرنسا والبرتغال وإسبانيا ومالطا.
*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 28 فيفري 2023