الشارع المغاربي – أيّ‭ ‬ثمن‭ ‬لتحويل‭ ‬تونس‭ ‬إلى‭ ‬حرس‭ ‬حدود‭ ‬لأوروبا؟‭!‬/ بقلم: معز زيود

أيّ‭ ‬ثمن‭ ‬لتحويل‭ ‬تونس‭ ‬إلى‭ ‬حرس‭ ‬حدود‭ ‬لأوروبا؟‭!‬/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

6 أبريل، 2023

الشارع المغاربي: ليس‭ ‬من‭ ‬محض‭ ‬الصدف‭ ‬أن‭ ‬تتّفق‭ ‬كبرى‭ ‬العواصم‭ ‬الغربيّة،‭ ‬من‭ ‬روما‭ ‬إلى‭ ‬بروكسال‭ ‬ومن‭ ‬باريس‭ ‬إلى‭ ‬واشنطن،‭ ‬على‭ ‬توصيف‭ ‬الأوضاع‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬بشكل‭ ‬متزامن‭ ‬بأنّها‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬الانهيار‭. ‬تحذيرات‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬نفسها،‭ ‬وفي‭ ‬المحصّلة‭ ‬تهافت‭ ‬شديد‭ ‬على‭ ‬تكثيف‭ ‬الضغوط‭ ‬والابتزاز‭…‬

بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬التهويل‭ ‬أو‭ ‬التهوين،‭ ‬يبدو‭ ‬أنّ‭ ‬تونس‭ ‬تعيش‭ ‬اليوم‭ ‬فترة‭ ‬الهدوء‭ ‬الذي‭ ‬يسبق‭ ‬العاصفة‭. ‬فلا‭ ‬أحد‭ ‬يمكنه‭ ‬استشراف‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬من‭ ‬تصدّعات‭ ‬شتّى‭ ‬في‭ ‬ظرف‭ ‬أشهر‭ ‬قليلة‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تتمّ‭ ‬حلحلة‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة،‭ ‬لاسيما‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الارتفاع‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬للأسعار‭ ‬وتراجع‭ ‬القدرة‭ ‬الشرائيّة‭ ‬لمعظم‭ ‬التونسيّين‭ ‬واختلال‭ ‬توازنات‭ ‬الماليّة‭ ‬العموميّة‭ ‬وتتابع‭ ‬مواسم‭ ‬الجفاف‭ ‬التي‭ ‬تُؤْذِن‭ ‬باحتمال‭ ‬عجز‭ ‬الدولة‭ ‬خلال‭ ‬الصيف‭ ‬المقبل‭ ‬عن‭ ‬توفير‭ ‬الخبز‭ ‬لشعبها‭. ‬ورغم‭ ‬الوعود‭ ‬الدوليّة‭ ‬الظاهرة،‭ ‬من‭ ‬هنا‭ ‬وهناك،‭ ‬بتقديم‭ ‬الدعم‭ ‬لتونس‭ ‬وإنقاذ‭ ‬اقتصادها‭ ‬من‭ ‬الانهيار،‭ ‬فإنّها‭ ‬بقيت‭ ‬كلّها‭ ‬مشروطة‭ ‬باستجابة‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة‭ ‬لشروط‭ “‬الإصلاحات‭” ‬الموجعة‭ ‬لصندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬مقابل‭ ‬فسح‭ ‬المجال‭ ‬أمام‭ ‬ضخّ‭ ‬القسط‭ ‬الأوّل‭ ‬من‭ ‬قرض‭ ‬هذه‭ ‬المؤسّسة‭ ‬الماليّة‭ ‬الدوليّة‭. ‬ملف‭ ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬يُراوح‭ ‬مكانه،‭ ‬ممّا‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬تجميد‭ ‬جلّ‭ ‬فرص‭ ‬التعاون‭ ‬الدولي‭ ‬الكفيلة‭ ‬بالحدّ‭ ‬ولو‭ ‬نسبيّا‭ ‬من‭ ‬انعكاسات‭ ‬الأزمة‭ ‬الشاملة‭ ‬التي‭ ‬تشهدها‭ ‬البلاد‭.‬

ضغوط‭ ‬معلنة

لم‭ ‬تعُد‭ ‬الدول‭ ‬الغربيّة‭ ‬تلوك‭ ‬عباراتها‭ ‬في‭ ‬الكشف‭ ‬عن‭ ‬شروطها‭ ‬وضغوطها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬فرض‭ ‬التزام‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬بالخضوع‭ ‬لإملاءاتها‭ ‬المختلفة‭ ‬الاقتصاديّة‭ ‬منها‭ ‬والسياسيّة‭. ‬والحقيقة‭ ‬أنّ‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة،‭ ‬وإن‭ ‬كانت‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬تراكم‭ ‬فشل‭ ‬الحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬على‭ ‬الحكم‭ ‬منذ‭ ‬الثورة،‭ ‬فإنّ‭ ‬فترة‭ ‬العشرين‭ ‬شهرًا‭ ‬الأخيرة‭ ‬التي‭ ‬مرّت‭ ‬على‭ ‬انفراد‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬بكافّة‭ ‬السلطات‭ ‬لم‭ ‬تحقّق‭ ‬انفراجا‭ ‬سياسيّا‭ ‬واقتصاديّا‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬انغلاق‭ ‬وتدهور‭ ‬لم‭ ‬يخلُ‭ ‬منهما‭ ‬مجال،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجيّة‭ ‬التي‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تُراهن‭ ‬على‭ ‬الدبلوماسيّة‭ ‬الاقتصاديّة،‭ ‬استحالت‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬إلى‭ ‬ماكينة‭ ‬لإشعال‭ ‬الحرائق‭ ‬الدبلوماسيّة‭ ‬الواحدة‭ ‬تلو‭ ‬الأخرى،‭ ‬كتلك‭ ‬التي‭ ‬جدّت‭ ‬مع‭ ‬المغرب‭ ‬والجزائر‭ ‬وليبيا‭ ‬بل‭ ‬ومع‭ ‬سائر‭ ‬دول‭ ‬القارّة‭ ‬الإفريقيّة‭ ‬والعالم‭ ‬بأسره‭ ‬حين‭ ‬صُوِّر‭ ‬التونسيّون‭ ‬للأسف‭ ‬الشديد‭ ‬على‭ ‬أنّهم‭ ‬شعب‭ ‬يُمارس‭ ‬العنصريّة‭ ‬والكراهيّة‭ ‬حيال‭ ‬الأجانب‭!… ‬ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭ ‬باتت‭ ‬مقولات‭ ‬السيادة‭ ‬المكرّرة‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬الرئاسي‭ ‬مُفرغة‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬معنى‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬الاختلال‭ ‬العميق‭ ‬للميزان‭ ‬التجاري‭ ‬وارتهان‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬للدول‭ ‬الأجنبيّة‭ ‬والمؤسّسات‭ ‬الماليّة‭ ‬الدوليّة‭…‬

من‭ ‬المعلوم‭ ‬طبعًا‭ ‬أنّ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكيّة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تُمسك‭ ‬بخيوط‭ ‬اللعبة‭ ‬الماليّة‭ ‬دوليّا‭ ‬قبل‭ ‬غيرها،‭ ‬باعتبارها‭ ‬المتحكّم‭ ‬الأوّل‭ ‬في‭ ‬السياسات‭ ‬العامّة‭ ‬لصندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭. ‬وطبعًا‭ ‬فإنّ‭ ‬الإدارة‭ ‬الأمريكيّة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أوعزت‭ ‬لحلفائها‭ ‬الأوروبيّين‭ ‬ربط‭ ‬مساعدة‭ ‬تونس‭ ‬بضرورة‭ ‬الانصياع‭ ‬لشروط‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬تلك،‭ ‬فضلا‭ ‬عن‭ ‬إبداء‭ ‬انتقاداتها‭ ‬حيال‭ ‬سياسات‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬مساعدة‭ ‬وزير‭ ‬الخارجيّة‭ ‬الأمريكي‭ “‬باربرا‭ ‬ليف‭” ‬قد‭ ‬صرّحت‭ ‬بأنّ‭ ‬الرئيس‭ ‬التونسي‭ ‬أثار‭ “‬قلقا‭ ‬بالغًا‭” ‬بشأن‭ ‬الإجراءات‭ ‬السياسيّة‭ ‬التي‭ ‬ما‭ ‬انفكّ‭ ‬يتخذها،‭ ‬قائلة‭ ‬حرفيّا‭ “‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬عدّة‭ ‬إجراءات‭ ‬اتّخذها‭ ‬الرئيس‭ ‬خلال‭ ‬العام‭ ‬الماضي‭ ‬أضعفت‭ ‬بصراحة‭ ‬المبادئ‭ ‬الأساسيّة‭ ‬للضوابط‭ ‬والتوازنات‭”. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فقد‭ ‬أقرّت‭ ‬في‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬بأنّ‭ ‬الوضع‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬أفضل‭ ‬خلال‭ ‬السنوات‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬سقوط‭ ‬نظام‭ ‬الرئيس‭ ‬الراحل‭ ‬زين‭ ‬العابدين‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬أي‭ ‬أنّ‭ ‬الأداء‭ ‬السياسي‭ ‬للحكومات‭ ‬المتعاقبة‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬ليست‭ ‬أفضل‭ ‬ممّا‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬الحالي‭. ‬ويعني‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭ ‬أنّها‭ ‬لن‭ ‬تنحاز‭ ‬عمليّا‭ ‬للمعارضة‭ ‬السياسيّة‭ ‬الحاليّة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بعدم‭ ‬مراجعة‭ ‬أخطائها‭ ‬السابقة،‭ ‬بل‭ ‬تناست‭ ‬بسرعة‭ ‬أنّها‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬مهّدت‭ ‬كافّة‭ ‬السبل‭ ‬لوصول‭ ‬الحال‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬بلغته‭ ‬ذات‭ ‬جويلية‭ ‬2021،‭ ‬ثمّ‭ ‬أصبحت‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬عمليّة‭ ‬الابتزاز‭ ‬التي‭ ‬تخضع‭ ‬لها‭ ‬البلاد‭ ‬برمّتها‭ ‬وتضرب‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬بأوجاع‭ ‬التونسيّين‭…‬

مجلّة‭ “‬لوبوان‭” ‬Le Point‭ ‬اختزلت‭ -‬بنظرة‭ ‬استعلائيّة‭- ‬البعد‭ ‬السريالي‭ ‬للأزمة‭ ‬الخانقة‭ ‬في‭ ‬تونس،‭ ‬فقالت‭ ‬حرفيّا‭ ‬إنّ‭ “‬المشكل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القصّة‭ ‬العبثيّة‭ ‬كان‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬ينحصر‭ ‬في‭ ‬حدود‭ ‘‬مستشفى‭ ‬المجانين‭’‬،‭ ‬لكنّ‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬يخُصّ‭ ‬أيضا‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬المتوسّط‭ ‬وجنوب‭ ‬أوروبا‭ ‬وشمال‭ ‬إفريقيا‭… ‬فنحن‭ ‬نندفع‭ ‬نحو‭ ‬عتبة‭ ‬ديمقراطيةٍ‭ ‬سابقةٍ‭ ‬على‭ ‬حافّة‭ ‬الانهيار،‭ ‬وفق‭ ‬عبارة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي،‭ ‬ولكن‭ ‬هل‭ ‬يمكنك‭ ‬إنقاذ‭ ‬بلدٍ‭ ‬رغمًا‭ ‬عنه؟‭!‬‭”. ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬العبارات‭ ‬الساخرة،‭ ‬أوضحت‭ ‬المجلّة‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬مقاصدها‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ “‬ما‭ ‬يؤشّر‭ ‬لقصّة‭ ‘‬المهابيل‭’‬Mabouls‭  ‬هو‭ ‬أنّ‭ ‬الرئيس،‭ ‬الذي‭ ‬عيّن‭ ‬هذه‭ ‬الحكومة‭ ‬وسمح‭ ‬لها‭ ‬بالتفاوض‭ ‬مع‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬لمدّة‭ ‬ثمانية‭ ‬أشهر،‭ ‬يتجاهل‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬التوقيع‭ ‬على‭ ‬خطاب‭ ‬الالتزام‭ ‬الموجّه‭ ‬إلى‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭”. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬مثالا‭ ‬لتندّر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربيّة‭ ‬بتجاهل‭ ‬الرئيس‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬لأتّون‭ ‬الأزمة‭ ‬المتصاعدة‭ ‬ومُضيّه‭ ‬في‭ ‬خطابه‭ ‬الإنكاري‭ ‬والتخويني‭ ‬الدائم،‭ ‬والأمثلة‭ ‬تتواتر‭ ‬كلّ‭ ‬يوم‭… ‬

ولا‭ ‬يخفى‭ ‬أنّ‭ ‬الدول‭ ‬الغربيّة‭ ‬تُدرك‭ ‬تمامًا‭ ‬وبأدقّ‭ ‬التفاصيل‭ ‬أنّ‭ ‬تونس‭ ‬باتت‭ ‬تعيش‭ ‬أزمة‭ ‬ماليّة‭ ‬واقتصاديّة‭ ‬خانقة‭ ‬لن‭ ‬تسمح‭ ‬لها‭ ‬بالمضيّ‭ ‬طويلا‭ ‬في‭ ‬النسق‭ ‬الذي‭ ‬تشقّه‭ ‬اليوم،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬ضخّ‭ ‬محافظ‭ ‬ماليّة‭ “‬ضخمة‭” ‬لمنع‭ ‬انهيار‭ ‬منظومتها‭ ‬الماليّة‭ ‬كليّا‭. ‬فالملاحق‭ ‬الاقتصاديّة‭ ‬في‭ ‬السفارات‭ ‬الأجنبيّة‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬تقوم‭ ‬بأعمالها‭ ‬الدوريّة‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬توصيفه‭ ‬بـ‭”‬الجوسسة‭” ‬الاقتصاديّة،‭ ‬أي‭ ‬بالرصد‭ ‬الدقيق‭ ‬لمستجدّات‭ ‬الواقع‭ ‬الاقتصادي‭ ‬في‭ ‬البلاد‭. ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬عمل‭ ‬تلك‭ ‬الخلايا‭ ‬الأجنبيّة‭ ‬لا‭ ‬يقف‭ ‬عند‭ ‬رصد‭ ‬ندرة‭ ‬تموين‭ ‬الأسواق‭ ‬ببعض‭ ‬المواد‭ ‬الاستهلاكيّة‭ ‬وتجاوز‭ ‬نسبة‭ ‬التضخّم‭ ‬عتبة‭ ‬العشرة‭ ‬في‭ ‬المائة،‭ ‬وإنّما‭ ‬كذلك‭ ‬متابعة‭ ‬أوضاع‭ ‬البنوك‭ ‬المحليّة‭ ‬التي‭ ‬لن‭ ‬تتمكّن‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬مواصلة‭ ‬تقديم‭ ‬المسكّنات‭ ‬الماليّة‭ ‬إلى‭ ‬الحكومة‭ ‬أمام‭ ‬غلق‭ ‬أبواب‭ ‬الأسواق‭ ‬الماليّة‭ ‬العالميّة‭ ‬في‭ ‬وجهها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬أتاح‭ ‬لها‭ ‬مرحليّا‭ ‬الإيفاء‭ ‬بتعهّداتها‭ ‬وخلاص‭ ‬أجور‭ ‬القطاع‭ ‬العام‭. ‬في‭ ‬المقابل‭ ‬أسهم‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬استنزاف‭ ‬الشركات‭ ‬الصغرى‭ ‬والمتوسّطة‭ ‬المتهاويّة‭ ‬بشكل‭ ‬فظيع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬باتت‭ ‬عاجزة‭ ‬عن‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬القروض‭ ‬البنكيّة‭ ‬جرّاء‭ ‬رفع‭ ‬البنك‭ ‬المركزي‭ ‬نسب‭ ‬الفائدة‭ ‬المديريّة،‭ ‬ممّا‭ ‬أدّى‭ ‬إلى‭ ‬رفع‭ ‬نسب‭ ‬الفوائد‭ ‬الباهظة‭ ‬الموظفة‭ ‬لتلك‭ ‬الشركات‭ ‬على‭ ‬القروض‭ ‬حدّ‭ ‬المنطق‭. ‬وفي‭ ‬المحصّلة،‭ ‬سقطت‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الشركات‭ – ‬التي‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أحد‭ ‬أهمّ‭ ‬محرّكات‭ ‬الاستثمار‭ ‬والاقتصاد‭ ‬الكليّ‭ ‬عموما‭ -‬‭ ‬في‭ ‬الحلقة‭ ‬الجهنميّة‭ ‬لتراكم‭ ‬الديون‭ ‬والإفلاس‭… ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬بسرّ‭ ‬دفين،‭ ‬وإنّما‭ ‬واقع‭ ‬معلوم‭ ‬بات‭ ‬يؤشّر‭ ‬لعمق‭ ‬المأزق‭ ‬الذي‭ ‬تداعى‭ ‬إليه‭ ‬الاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬وجعله‭ ‬رهينة‭ ‬لتلاعب‭ ‬المحاور‭ ‬الدوليّة‭…‬

مقاصد‭ ‬الابتزاز‭ ‬

هكذا‭ ‬إذن‭ ‬يندرج‭ ‬الإعلان‭ ‬المتزامن‭ ‬للدول‭ ‬الغربيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬عن‭ ‬الانهيار‭ ‬الوشيك‭ ‬للاقتصاد‭ ‬التونسي‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬تأخّر‭ ‬الاتّفاق‭ ‬النهائي‭ ‬مع‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬في‭ ‬صميم‭ ‬الضغوط‭ ‬التي‭ ‬مارستها‭ ‬على‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬ابتزازها‭ ‬سياسيّا‭ ‬وتقييد‭ ‬مصيرها‭ ‬اقتصاديّا‭. ‬ويمكن‭ ‬اختزال‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬اعتباره‭ ‬تهديدًا‭ ‬مباشرًا‭ ‬لتونس‭ ‬في‭ ‬تصريح‭ ‬مسؤول‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬جوزيب‭ ‬بوريل،‭ ‬مؤخرا،‭ ‬الذي‭ ‬أكّد‭ ‬فيه‭ ‬أنّ‭ “‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬لا‭ ‬يمكنه‭ ‬مساعدة‭ ‬دولة‭ ‬غير‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬توقيع‭ ‬اتّفاق‭ ‬مع‭ ‬صندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭”. ‬وقد‭ ‬اقترنت‭ ‬كلّ‭ ‬التصريحات‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬بأنّ‭ “‬انهيار‭” ‬تونس‭ ‬يعني‭ ‬تدفّق‭ ‬المهاجرين‭ ‬نحو‭ ‬الضفّة‭ ‬الشماليّة‭ ‬للمتوسّط‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُشكّل‭ ‬تهويلا‭ ‬وتضخيما‭ ‬غير‭ ‬مبرّرين‭ ‬لأنّه‭ ‬سبق‭ ‬أن‭ ‬تدفّق‭ ‬عشرات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المهاجرين‭ ‬نحو‭ ‬أوروبا‭ ‬قادمين‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬وليبيا‭ ‬إبان‭ ‬الثورة‭ ‬في‭ ‬البلدين‭. ‬كما‭ ‬أنّ‭ ‬أوروبا‭ ‬استقبلت‭ ‬ما‭ ‬يزيد‭ ‬بكثير‭ ‬عن‭ ‬مليون‭ ‬لاجئ‭ ‬سوري‭ ‬منذ‭ ‬بدء‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬سوريا،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يقصم‭ ‬ذلك‭ ‬ظهر‭ ‬أوروبا‭ ‬الهرِمة‭…‬

ونشرت‭ ‬جريدة‭ “‬المانفستو‭” ‬الإيطالية‭ ‬Il Manifesto‭ ‬عنوانا‭ ‬عريضا‭ ‬يقول‭ ‬إنّ‭ “‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬سيساعد‭ ‬تونس‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تحوّلت،‭ ‬مثل‭ ‬طرابلس،‭ ‬إلى‭ ‬حرس‭ ‬للمهاجرين‭”‬Ue in aiuto a Tunisi se‭, ‬come Tripoli‭, ‬diventa gendarme dei migranti‭. ‬فالتأكيدات‭ ‬الإيطاليّة‭ ‬المتواترة‭ ‬بشأن‭ ‬ضرورة‭ ‬إنقاذ‭ ‬تونس‭ ‬من‭ ‬الانهيار‭ ‬وبتنفيذ‭ “‬خطّة‭ ‬مارشال‭” ‬لمساعدتها‭ ‬اقتصاديّا‭ ‬ليست‭ ‬مشروطة‭ ‬فقط‭ ‬بالتوصّل‭ ‬العاجل‭ ‬لاتفاق‭ ‬بين‭ ‬تونس‭ ‬وصندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي،‭ ‬وإنّما‭ ‬بتحوّل‭ ‬الدولة‭ ‬التونسيّة‭ ‬إلى‭ ‬شرطة‭ ‬حدود‭ ‬تعمل‭ ‬لصالح‭ ‬الدولة‭ ‬الإيطاليّة‭. ‬

صحيفة‭ ‬Il Tempo‭ ‬الإيطاليّة‭ ‬كشفت،‭ ‬من‭ ‬جانبها،‭ ‬أنّ‭ ‬مفوّضة‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬للشؤون‭ ‬الداخلية‭ ‬إيلفا‭ ‬يوهانسون‭ ‬ستزور‭ ‬تونس،‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬أفريل‭ ‬الجاري،‭ ‬برفقة‭ ‬وزيري‭ ‬داخليّة‭ ‬فرنسا‭ ‬وإيطاليا،‭ ‬وأنّه‭ “‬لن‭ ‬يكون‭ ‬هناك‭ ‬حديث‭ ‬عن‭ ‬مساعدات‭ ‬اقتصادية‭ ‬بل‭ ‬عن‭ ‬تدخّلات‭ ‬لوقف‭ ‬تدفّقات‭ ‬الهجرة‭. ‬لهذا‭ ‬الغرض‭ ‬سيتمّ‭ ‬تقديم‭ ‬زوارق‭ ‬دوريّة‭ ‬وطائرات‭ ‬بدون‭ ‬طيّار‭ ‬وتكنولوجيا‭ ‬مراقبة‭ ‬الحدود‭ ‬ودورات‭ ‬تدريبية‭ ‬لخفر‭ ‬السواحل‭ ‬التونسي‭. ‬وعمليّا،‭ ‬تحويل‭ ‬تونس‭ ‬إلى‭ ‬ليبيا‭ ‬أخرى‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬أن‭ ‬تتمكّن‭ ‬من‭ ‬إيقاف‭ ‬اليائسين‭ ‬الذين‭ ‬يسعون‭ ‬للخلاص‭ ‬في‭ ‬أوروبا‭”. ‬الصحيفة‭ ‬ذاتها‭ ‬ذكرت‭ ‬أنّ‭ ‬المهمّة‭ ‬الأساسيّة‭ ‬التي‭ ‬كلّف‭ ‬بها‭ ‬الاتحاد‭ ‬الأوروبي‭ ‬مفوّضه‭ ‬للشؤون‭ ‬الاقتصادية‭ ‬باولو‭ ‬جنتيلوني،‭ ‬خلال‭ ‬زيارته‭ ‬الأخيرة‭ ‬إلى‭ ‬تونس،‭ ‬هي‭ “‬بحث‭ ‬وسائل‭ ‬وقف‭ ‬عمليات‭ ‬الإنزال‭ ‬على‭ ‬السواحل‭ ‬الشماليّة‭ ‬للبحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭”. ‬وقد‭ ‬أوضحت‭ ‬بالخصوص‭ ‬أنّ‭ ‬بروكسل‭ ‬تحاول‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إبرام‭ ‬اتّفاقيّات‭ ‬جديدة‭ ‬مع‭ ‬الحكومة‭ ‬التونسيّة‭ ‬حول‭ “‬إدارة‭ ‬تدفّقات‭ ‬الهجرة‭ ‬نحو‭ ‬أوروبا‭”…‬

إنّها‭ ‬باختصار‭ ‬شديد‭ ‬عمليّة‭ ‬مساومة‭ ‬لا‭ ‬يشقّها‭ ‬غبار،‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬عمليّة‭ ‬ابتزاز‭ ‬بأدنى‭ ‬ثمن‭ ‬يُذكر‭. ‬وحتّى‭ ‬المساعدات‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬تقتصر‭ ‬على‭ ‬توفير‭ ‬آليات‭ ‬قمع‭ ‬لتوظيف‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬لصالح‭ ‬إدارات‭ ‬الحدود‭ ‬الأوروبيّة‭. ‬فالدول‭ ‬الغربيّة‭ ‬تشترط‭ ‬في‭ ‬الخفاء‭ ‬المساعدة‭ ‬على‭ ‬حصول‭ ‬اتفاق‭ ‬بين‭ ‬تونس‭ ‬وصندوق‭ ‬النقد‭ ‬الدولي‭ ‬بضرورة‭ ‬توقيع‭ ‬اتفاقات‭ ‬أخرى‭ ‬كفيلة‭ ‬بجعل‭ ‬الحدود‭ ‬التونسيّة‭ ‬جدارًا‭ ‬عازلا‭ ‬أمام‭ ‬المهاجرين‭ ‬غير‭ ‬النظاميّين،‭ ‬ومن‭ ‬دون‭ ‬ثمن‭. ‬

والأنكى‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬تعوّدت‭ ‬على‭ ‬التستّر‭ ‬على‭ ‬فحوى‭ ‬محادثاتها‭ ‬مع‭ ‬المسؤولين‭ ‬الأوروبيّين‭ ‬واتّفاقاتها‭ ‬المبرمة‭ ‬معهم‭. ‬فبتنا‭ ‬لا‭ ‬نعلم‭ ‬ببعض‭ ‬تفاصيلها،‭ ‬رغم‭ ‬خطورتها‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬البلاد‭ ‬ومصالحها‭ ‬الحيويّة،‭ ‬إلّا‭ ‬عبر‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الأجنبيّة‭. ‬وفي‭ ‬المقابل‭ ‬تُهدر‭ ‬السلطات‭ ‬التونسيّة‭ ‬المرتبكة‭ ‬فرصًا‭ ‬مهمّة‭ ‬جعلتها‭ ‬عاجزة‭ ‬مجدّدا‭ ‬عن‭ ‬التقاط‭ ‬هذه‭ ‬اللحظات‭ ‬التاريخيّة‭ ‬المتعلّقة‭ ‬بتوظيف‭ ‬ورقة‭ ‬الهجرة‭ “‬السريّة‭” ‬للردّ‭ ‬عمليّا‭ ‬على‭ ‬عمليّتي‭ ‬الابتزاز‭ ‬والمساومة‭ ‬المكثّفتين‭…‬

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 افريل 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING