الشارع المغاربي-منى المساكني : يبدو هذه المرة أن السيل قد بلغ الزبى، بعد أن قدمت الحكومة مشروعي قانوني مالية تكميلي وآخر للعام القادم في سياق غامض و مخالف لمبادئ المالية العمومية لما تضمناه من مناورات غير مفهومة ومن مغالطات، بما يرتقي إلى صفة التحيل في سابقة من نوعها في تاريخ تونس الحديث، ذلك أن الميزانيتين قد انبنتا على وضعيات مبهمة من قبيل ترحيل ديون للدولة غير خالصة للسنوات القادمة و عدم احتساب مصاريف متعلقة بالأجور و دعم المحروقات و تعديل موازنات المؤسسات العمومية مما يعني ان البلاد سوف لن تعتمد ميزانية للعام القادم، بالمعنى الفني المحض للكلمة لمخالفتها جل المعايير المعتمد في هذا المجال .
ومن المثير للانتباه أن محكمة المحاسبات، كانت قد أوصت لدى تدقيقها، تحديدا، لميزانيتي 2013 و 2016 بضرورة التقيد بمعايير المالية العمومية وفقا لأحكام القانون قانون عدد 81 لسنة 1973 و الذي جرى تنقيجه عدة مرات اخرها كان سنة 2016 و بأهمية احترام مبادئ ختم الميزانيات على غرار الشمولية و مبدا عدم المرونة و تجنب ترحيل الارصدة المحاسبية و الإفصاح المالي القويم و الفصل بين حسابات السنوات المحاسبية. و لكن يبدو أن للسلط المعنية رأي آخر فيما يتعلق بتلميع صورة مؤشرات المالية العمومية لدى المنظمات المالية الدولية الدائنة – وهي المدركة تماما لما يجري على هذا المستوى و تغظ الطرف عنه-، من ناحية و عند المتابعين للشأن الاقتصادي الوطني، من ناحية أخرى.
الميزانية التكميلية…و وضعية الابهام
تقدمت الحكومة بمشروع قانون مالية تكميلي لسنة 2019، لتصحيح الفوارق من حيث المبدأ بين ما تم رسمه من أهداف بالميزانية و قانون المالية الأصلي و ما جرى تنفيذه قبضا و صرفا. غير ان تقديم مشروع قانون المالية التكميلي، في ظرف زمني وجيز، يطرح عدة إشكاليات باعتبار تأكيد الخبراء على أن مجلس نواب الشعب و لجانه يفتقرون للكفاءة لفهم ميزانية الدولة و دراستها.
وتبرز المعطيات ارتفاع حجم الميزانية التكميلية للعام الحالي الى 43 مليار دينار، بحكم تجاوز نفقات الدولة الاهداف المرسومة بمبلغ ضخم يفوق ملياري دينار وهو متأت اساسا من زيادة في الاجور غير متوقعة او معلنة تمت على ما يبدو تحت ضغط “مفاجئ” بـ 650 مليون و تعديل اسعار المحروقات (440 مليون دينار) لتأخر دخول حقول نفطية هامة حيز النشاط حسب الرواية الرسمية و مزيد دفع فوائض الديون (570 مليون دينار) و ضخ اموال للصناديق الاجتماعية لم يتم الافصاح عنها مطلقا بقيمة 320 مليون دينار و تقييد منحة العودة المدرسية (200 مليون دينار) رغم عدم صرفها و تسجيلها في نفس الوقت في ميزانية 2020 في محور نفقات التصرف دون اعتبارها في بند التأجير و 40 مليون دينار لهيئة الانتخابات علما ان مسار الانتخابات و ما يتطلبه من نفقات امر تعلم بدقة نفقاته قبل سنوات من انطلاقه.
غير ان المثير للاستغراب، يتمثل في اعلان السلط المالية في تونس و بشكل لافت ان قانون المالية التكميلي لسنة 2019 هو قانون لميزانية “ترحيلية” وهو مصطلح يستخدم لأول مرة منذ بداية اعداد الميزانيات حسب المقاييس المعروفة سنة 1906 بمقتضى امر علي من الباي. و يعني ذلك ان المسالة اصبحت مجرد ارقام تقنية خارج أي معيار واقعي او موضوعي لغرابة المصطلح و دلالاته خصوصا و ان التفسير المقدم على هذا الصعيد يتمحور حول اتخاذ اجراء “الترحيل” نظرا لان ميزانية 2019 هي اخر ميزانية للمرحلة النيابية 2014 -2019 ما يستوجب، وفق تقدير وزارة المالية، الإيفاء بجميع تعهدات الحكومة المتخلية، وعدم ترحيلها إلى الحكومة المقبلة و ذهب بعض نواب البرلمان الى استخدام توصيف اخر باعتبار الميزانية التكميلية ميزانية “تطهيرية” وهو امر لم تسجله مبادئ و احكام اعداد الميزانيات من قبل.
ومن هنا يمكن التأكيد، انه لا وجود فعليا لميزانية تكميلية على ارض الواقع لكونها عملية محاسبية لا غير و ان السلط التونسية بدأت على ما يبدو حقبة جديدة للتخلص من “عبء” اعداد الميزانيات و اعتماد التخطيط الاقتصادي اسوة ببعض الوضعيات او بالأحرى الحالات اذ ان لبنان لا وجود لميزانية فيه منذ 12 سنة.
في نازلة الترحيل
بين مقرر لجنة المالية الوقتية بالبرلمان فيصل دربال وهو نائب نهضوي – مستقل يوم الخميس 21 في نوفمبر الجاري انه و في اطار مناقشة اللجنة لمشروع قانون المالية التكميلي فان التوجه استقر على ترحيل ديون الدولة التي لم يتم خلاصها للسنوات المقبلة والتي لم تسجل ضمن نفقات سنة 2019، ما ينجر عنه اليا “ترحيل” قسط من عجز الميزانية من سنة 2019 إلى سنة 2020، لتتحسن بذلك اصطناعيا نسبة العجز سنة 2019.
ولكن النائب لم يوضح سبب عدم خلاص ديون الدولة مكتفيا بالقول بان قيمتها 700 مليون دينار وهو مبلغ مهم. و تجدر الاشارة، في هذا الاطار، ان وزارة المالية توقفت نهائيا منذ مدة طويلة عن نشر مذكرة المديونية و التي كانت تصدر شهريا و تتضمن تفصيلا لقيمة ديون الدولة التونسية و توزيعا داخليا و خارجيا و حسب الجهات المانحة. كما كانت المذكرة – المأسوف عليها – تقدم نسب فوائض ديون الدولة و يقتصر الافصاح، حاليا، على بعض البيانات الاحصائية المتعلقة بالتداين في نشرية النتائج الوقتية لتنفيذ ميزانية الدولة و التي تصدر بشكل متقطع و دون تواتر واضح و في اغلب الحالات بضغط من وسائل الاعلام.
ومن المثير للاستغراب ايضا ان رضا شغلوم وزير المالية قد افاد و بكل وضوح، في السياق ذاته، لتزداد المسالة غموضا و لبسا، ان ديون الدولة “المرحلة” هي مبالغ مضمنة بحسابات المالية العمومية، و ستبقى للحكومة القادمة إمكانية استعمالها في انتظار إعادة تبويب أولوياتها.
هذا وبالرجوع لمجلة المحاسبة العمومية و للتحاليل الفنية المتاحة، فان الترحيل هي عملية استثنائية في الميزانية وهي تعني نقل بواقي اعتمادات التعهد المتعلقة بإنجاز بعض المشاريع الكبرى و عمليات التجهيز الضخمة كتشييد الطرقات و الجسور و السدود التي تنفذ على امتداد سنوات و ذلك من ميزانية الى اخرى. و يمنع في غير هذه الوضعية المساس باي رصيد مالي في الميزانية و نقله او التصرف فيه الا بإذن برلماني خاص و تشكل هذه القاعدة في التصرف المالي العمومي معيارا دوليا.
هل توجد فعليا ميزانية لسنة 2020؟
لا يمكن الحديث عن وجود ميزانية الا اذا ارتبطت بإنجازات و عمليات جرى اقرارها لصرف نفقات مبوبة و تعبئة موارد منظمة على نحو معياري و ذلك في كنف احترام مقاييس التقيد باعتمادات التعهد و الدفع ذات الصلة وفق فرضيات واضحة.
غير ان ميزانية 2020 تتضمن عددا من الاخلالات الهيكلية بما يمكن ان ينزع منها صفة الميزانية و وصف التوازن و التقيد بمعايير المالية العامة. و على هذا المستوى، فقد طغى اللبس و الريبة في الميزانية على صعيد الغاء دعم المحروقات الموجه الى الشركة التونسية للكهرباء و الغاز و الشركة التونسية لصناعات التكرير وهما من اكبر الشركات استهلاكا للطاقة مع الفولاذ بقيمة 1 مليار دينار وهو الذي كان يساوي 1.5 مليار دينار مما يعني ان هذا التقليص في الدعم الحيوي لوجود المؤسستين ستتحمله المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية بما يعني توجيهها الى الافلاس، بشكل حتمي.
كما اكتنف الغموض موضوع دعم المؤسسات العمومية وهي راجعة بالنظر لأكثر من عشر وزارات الذي ذكر بالتفصيل و لكنه غاب على حسابات الميزانية و قيمته ضخمة في حدود 1475 مليون دينار.
ومن الطريف في الامر كذلك ان ميزانية 2020 تضمنت منحة العودة المدرسية المزمع منحها للمعلمين و الاساتذة في بند النفقات العامة رغم انها تكملة لأجرة المنتفعين بها و قيمتها 200 مليون دينار. و كان حاتم بن سالم قد اعلن مؤخرا ان المنحة مقررة في الميزانية التكميلية لسنة 2019 و سيجرى تنزيلها في حسابات المدرسين حال المصادقة عليه و الحال انها مضمنة بميزانية العام القادم لتحل بذلك المسالة في محور الاعجاز المالي من بابه العريض، ان جاز التوصيف.
ومن المؤسف انه و في خضم هذه العمليات المريبة و المثيرة للدهشة فان قسما مهما من السياسيين و الخبراء و بعض اهل الحل و العقد يتحدثون عن غياب رؤية استشرافية لميزانية 2020 في حين ان هذه الميزانية تفتقر لأي محتوى ثابت او موافق لمقاييس حسابات المالية العمومية.
اخطاء و مغالطات…بالجملة
تقدّر ميزانية الدولة لسنة 2020، وفق مشروع الميزانية الذي نشرته وزارة المالية على موقعها الالكتروني، بنحو 47 مليار دينار بزيادة نسبتها 9.5% مقارنة بالميزانية المحينة للعام الحالي و المقدرة بحوالي 41 مليار دينار ليصل بذلك حجم ميزانية العام القادم الى 45% من قيمة الناتج المحلي بالأسعار القارة رغم ان المعايير الدولية تحصر هذه النسبة في حدود 20% تفاديا لتضخم انفاق الدولة و استثماراتها التي لا تنجز عموما حسب ما يتم اقراره بها على حساب القطاعات الاقتصادية المختلفة.
وارتكز اعداد ميزانية السنة القادمة على عدّة فرضيات تعلّقت بتطور مرتقب لمختلف المؤشرات الاقتصادية اذ قدرت المديونية بحوالي 75% من الناتج (83.% حسب صندوق النقد) واعتماد نسبة نمو في حدود 2.7% في حين ان نسبة النمو اواخر سبتمبر تناهز 1% بحساب الانزلاق السنوي و من المنتظر ان تصل الى -0.4% نهاية هذه السنة في صورة طرح مساهمة القطاع غير المهيكل في تكوين القيمة المضافة (14%) وهو امر يطالب به البنك الدولي منذ سنة 2012.
كما لم تجري الاشارة إلى سعر صرف الدينار مما يعني ان تحديد خدمة الدين و ضبط قيمة الموارد الخارجية قد خضع لمبادئ التجديد الاجتهادي بأتم معنى الكلمة. و اكدت وزارة المالية انها اخفت فرضية سعر الصرف تحسبا من المضاربة وهو امر لا يرتكز على أي سند محاسبي.
وذكرت المصادر الرسمية ان “هندسة” الميزانية هي في الواقع مواصلة لخطة عمل الحكومة الهادفة إلى دفع النمو – المفقود تقريبا – والتحكم في التوازنات المالية الكبرى رغم وجود احتياجات تمويلية بقيمة 11 مليار دينار و نقص في ميزان المدفوعات بنفس المبلغ او يكاد (11.2 مليون دينار) بمعنى ان الثغرة المالية للميزانية تفوق 22 مليار دينار. كما تقول السلط انها تعمل على التحكم في عجز الميزانية والحط منه الى 3% و واقع الحال ان تونس اليوم هي على شفا حفرة و تعثر مالي مؤكد ان رفع المانحون الدوليون و الاتحاد الاوربي يدهم على مالية البلاد التي يضخون فيها قروضا قياسية لسبب او لآخر. و في غياب أي اصلاح جبائي فقد اكدت وزارة المالية ان برنامجها راسخ لدعم الموارد الذاتية للدولة وتطويرها بنسبة 9% بالتعويل في هذا الاطار على تطوير المداخيل الجبائية بنسبة 9.2%.
مقال صادر بأسبوعية “الشارع المغاربي” في عددها ليوم امس الثلاثاء 26 نوفمبر 2019