الشارع المغاربي – "إذا كان الكلام من فضّة، فالسكوت من ذهب" / بقلم الصادق بلعيد

“إذا كان الكلام من فضّة، فالسكوت من ذهب” / بقلم الصادق بلعيد

قسم الأخبار

12 أكتوبر، 2020

الشارع المغاربي: قبل كل شيء لنترحّم على أختنا “رحمة لحمر” ولنسأل الله تعالى ان يتلقى روحها الطاهرة في رحاب جنانه الواسعة، ولنقدم أخلص تعازينا لعائلتها ولنشاركها حزنها وآلامها، ولنسأل الله عز وجل ان يرزق أهل الضحية وذويها جميل الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا اليه راجعون….

أما بعد،

هل كان لأحد ان يتخيل ان الجريمة النكراء التي ذهبت ضحيتها المرحومة “رحمة”، ستثير هذا الكم من التساؤلات؟ – قد يصعب التطرق الى كل هذه المواضيع، لذا فإننا نخص بالتحليل اشكاليتين متباعدتين تماما ولكن كل واحدة منهما تمثّل معضلة اجتماعية صعبة الحل: المشكلة الأولى تتعلق بمادة القانون الجزائي (1) والثانية تهم مادة القانون الدستوري (2)؛

أولا: تعثرات تطبيق القانون الجزائي

لقد جاءت المجلة الجزائية بحكم “الاعدام لكل من يرتكب عمدا مع سابقية القصد قتل نفس بأية وسيلة كانت” (الفصل 201) وقضت ان “يُنفذ حكم الإعدام شنقا” (الفصل 7)؛ هذه القواعد قد عُهد بتطبيقها حصرا إلى سلطة مختصة، هي ‘السلطة القضائية’، وترجع كل الإجراءات والمراحل لتطبيقها حصرا اليها، ولا يحق لأحد ‘التدخل’ فيها او ارباكها بأي شكل من الأشكال: يقول الفصل 109 من الدستور بصورة موجزة وجازمة: ‘يحجر كل تدخل في سير القضاء’؛ وهذه الرزمة من المبادئ والقواعد تم تحيينها وتأكيدها وترقيتها الى اعلى سلم التشريعات في بلادنا بإدراجها في الدستور الحالي بكل وضوح، حيث نُعتت هذه المهمة بعبارة “السلطة القضائية” –على قدم المساواة مع’السلطة التشريعية’، و’السلطة التنفيذية’ و’السلطة المحلية’ -؛ كذلك، تمّ إثراء هذه الاحكام بما جاء في المعاهدات الدولية التي اعتمدتها الدولة التونسية والتزمت بأحكامها على ان تكون هذه المعاهدات في ارقى درجة من التشريعات الداخلية.

وحسب الأبحاث الأولية في قضية الحال، اتضح انه تمّ القبض على الجاني في مدة وجيزة، وانه اعترف بجريمته وانه أيضا في حالة “عَود” (الفصول 47 الى 52: ‘في ما يزيد الجرائم شدة’)؛ كل هذه المعطيات تثبت ان هذه الجريمة النكراء تسقط تحت طائلة التشريع بمختلف احكامه ومستوياته ضمن اختصاص المحاكم؛ مما يعني ان كل ‘تدخّل’ مهما كان مصدره ومستواه يعتبر تشويشا غير مقبول ‘اطلاقا’.

كذلك، يعلم الكل ان المجتمع المدني والأطراف السياسية والأوساط الإعلامية بمختلف اتجاهاتها تجمع على واجب احترام المهمة القضائية وطقوسها وأعرافها عملا بمبدأ استقلالية القضاء المعترف به عالميا وبالخصوص، المدرج في دستورنا الحالي – وما قبله – وان أي تطاول على هذه ‘الكعبة’ السامية يستحق استهجان الرأي العام وسخطه ومعاقبة المشوشين.

رغم هذا وبكل أسف، فوجئ الجميع بان مثل هذا ‘التدخل’ المحظور حصل من طرف رئيس الدولة، بذاته، وفي ظروف مشدَّدة الخطورة، نذكرها بإيجاز كما يلي: 1- هذا ‘التدخل’ صدر عن مدرّس في القانون مارس ذلك طيلة حياته المهنية؛ 2- هذا التصريح صدر عنه بصورة مباشرة اثناء اجتماع ‘مجلس الأمن القومي’، ووقع بثّه على قناة تلفزية رسمية و’على الطائر’، حسب العبارة المعروفة؛ 3- إنه من الواضح والمحرج انه لم يتم اختيار إطار وتوقيت التصريح الرئاسي بصورة عفوية وتلقائية، بل إنه حصل خلال اجتماع ‘مجلس الامن القومي’، وربما كانت في ذلك إشارة الى عزم رئيسه على الاعتماد عليه عند الحاجة، وهذا مقلق للغاية؛ 4 -والأمر اللافت هو ان هذا التصريح وكيفية إخراجه حصلا بسرعة البرق، وفي يومين فقط بعد حدوث الجريمة، وهذا له معنى وله مغزى: فإن صاحبه أراد استباق كل الأطراف في استغلال هذه الحادثة وفي التظاهر بالتعاطف معها والعزم على الدفاع عنها؛ وفيه أيضا الإشارة الى أنصاره بالدور الذي يريد منهم ان يلعبوه نصرة لأفكاره(م) وتصوراته(م)؛ وهذا أمر أهم واخطر من ذات العملة الاجرامية التي اثارت كل هذه المأساة وهذا الجدل.

وفي رأينا تمثل، هذه المبادرة الرئاسية الاعتباطية تشويشا خطيرا وغير مسؤول في العمل القضائي نتصور انه سيحدث احراجا عميقا للقضاة الذين سيكلّفون بالنظر في هذه القضية بالذات: فإنهم، بلا ريب في ذلك، سيجدون نصب اعينهم هذا التصريح الرئاسي وسيتساءلون حول الموقف الواجب اتخاذه ازاءه، مع العلم ان الحل في أي من الاحتمالين الممكنين سيكون غير مريح وغير مرضي : فإذا حكموا بـ’الإعدام’، فإنهم سُيتّهمون بالتواطئ مع الإرادة الرئاسية عن غير قناعة؛ وإن حكموا بغير ذلك فإنهم سيُتهمون بالتغليب المفرط لمبدا استقلال القضاء وبالتمرد على تلك الارادة الرئاسية قصد الحفاظ عليه؛

ومهما يكن من أمر، فإن من شأن هذا التصريح الرئاسي غير المناسب وغير المبرّر ان يخلق في الرأي العام زوبعة غير مرغوب فيها، وأن يُحدث في العلاقات بين السلط الدستورية الثلاث أزمة عميقة هي، والحالة كما هي عليه اليوم، هي في غنى عنها.

ثانيا: زلزلة النظام الدستوري

لا ينحصر وقع التصريح الرئاسي الأخير في زعزعة ضمير القاضي في الأعماق، بل إنه سيكون له مفعول سلبي وخطير على أسس النظام الحكومي وأركانه باعتبار انه ضرب في المنظومة الحكمية ‘كل ما هب ودب’، وأوحى بان الأخطر قد يكون قريبا.

لننظر في مدى تأثيره السلبي من ناحية موقع رئيس الجمهورية في الهيكلية الدستورية؛ فلرئيس الجمهورية وظيفتان: هو ‘رئيس الدولة’، من ناحية أولى، وهو يمارس ‘السلطة التنفيذية’ بمشاركة رئيس الحكومة، من ناحية ثانية؛ فالسؤال المطروح هو: هل له صلاحيات إزاء ‘الوظيفة القضائية’؟ – الجواب سيكون كالتالي:

1– إن الفصل 72 من الدستور حدد المهام الرئاسية بعنوان ‘رئيس الدولة’، لكن لم يذكر لا من بعيد ولا من قريب أية صلاحية ‘قضائية’ بذاتها، لصالحه؛ فينتج عن هذا ان أي ‘تدخل’ في هذه المهمة مثلما حصل، يعتبر لغوا لكونه مخالفة فادحة لأحكام الدستور، فلا يؤخذ على محمل الجد، أصلا؛ لكن، لنذكر ان الدستور خص رئيس الدولة بصلاحية القرار في مجال “العفو الخاص” (الفصل 77)؛ لكن هذا اختصاص ولا يدخل في دائرة العملية القضائية، ولا تمثل بذلك استثناء عن المبدأ العام.

2 – واذا نظرنا الى رئيس الجمهورية كسلطة “تنفيذية”، فإن الفصلين 77 و78 من الدستور لم يدَعا أي مجال للشك حول غياب أي شكل من التأويل او التفسير الدستوري لصالح رئيس الدولة؛ فالسلطة ‘التنفيذية’ تنفذ وكفى.

وفي الصورتين، فإن صلاحيات رئيس الدولة كمثله من السلطات الأخرى تقف عند حد صلاحيات القاضي واختصاصاته.

إن مبدا استقلال القضاء والقاضي ما هو الا تطبيق واستنتاج لمبدأ “الفصل بين السلطات والتوازن بينها” (التوطئة).

– فمبدأ استقلال القضاء والقاضي الوارد في الدستور الحالي (الفصل 102) يعلن بكل وضوح وبكل صرامة ان “القضاء سلطة مستقلة” وان “القاضي مستقل”، وأن “لا سلطان عليه في قضائه لغير القانون”؛ هذا الإعلان لم يُبق اية مدعاة للشك او التأويل ويتميز بعموميته ‘المطلقة’؛ وهو يقف في وجه أي متطاول على سلطته؛ فصاحب التصريح المذكور، إذا نظرنا اليه بصفته ‘رئيس الدولة’، لا صلاحية له ولا تفويض للمس بمحتوى هذا المبدأ ولا بعموميته، بل إن مهمته في هذا المجال هي رعاية هيبة هذه الوظيفة العليا وردع كل من اعتدى عليها (الفصل 72)؛ فكيف إذا سمح لنفسه بهذا ‘التدخل’ في هذه الوظيفة القضائية في حين أنه مطالب حرفيا بان “يسهر على احترام الدستور” (الفصل 72)، ما يعني على الأقل انه مطالب بألا يقوم بخرقه او لا حتى بتأويله، مثلما حصل ذلك في العديد من المناسبات، ؛ أو بالأحرى، فإنه لا يجوز له ان يستنبط اقوالا خالية من كل معنى مثل ‘حكم التاريخ والشعب أقوى من حكم القضاء’ لتبرير مواقفه’…

ان الدستور أقر حرية التفكير والتعبير لفائدة كل المواطنين، ولهذا فإننا غير معنيين باختياراتهم الفكرية والأخلاقية والدينية والسياسية وغيرها ولا باختلافاتهم فيها؛ لكن نزعم أنه لنا الحق الكامل عملا بأحكام الدستور، في مطالبة المسؤولين والموظفين العموميين، مهما كان موضعهم، بأن يحترموا الاختيارات والاتجاهات الفكرية وغيرها الواردة في الدستور والمدمجة في النظام التشريعي القائم وبالخصوص، فإنهم مطالبون بألّا يستغلوا مناصبهم أو نفوذهم في سبيل دس أفكارهم واختياراتهم في ما حدد بأنه الرزمة الصلبة والمستقرة للإجماع القومي، الذي يجمع ويوحّد بين كل التونسيين، أي العهد الدستوري الذي اهتدى اليه الشعب بعد مشقة عسيرة وعناء كبير، وبالاّ يوهموا ان ما يتفوهون به قد يكون صادرا مباشرة من ذلك ‘العقد الفريد’ ومطابق له ومتناغم معه؛

إنه من المؤسف أن نلاحظ أن في هذه القضية المحزنة ارتكب رئيس الدولة هفوات خطيرة لا يجوز تناسيها: فلقد تدخل بغير حق في مجال السلطة القضائية وكأنه قاض كغيره من القضاة، بل إنه استبق القضاة الرسميين فحكم وقضى في ما ليس له من سلطان، او على الأقل، إنه أوعز إليهم بالقرار الواجب إصداره والحال ان هذه القضية هي قضية جزائية حساسة تستدعي الكثير من التروي والتمعّن والحرص على ابتكار الحل العادل والمنصف، لا الهرولة وراء القرارات الاعتباطية وغير المشروعة؛ وبالخصوص، يكون هذا الواجب اكبر صرامة عندما يكون موجها الى اعلى القمة التشريعية في البلاد. وإذ نذكّر بالضجة التي حصلت على إثر التصريح الرئاسي حول مسألة الإرث وحقوق المرأة، التي هي في آخر المطاف مسألة أقل احراجا لكونها قضية ‘مدنية’، فإن الأسف كل الأسف ان نرى الرئيس يعيد الكرّة بنفس الاسلوب الاعتباطي في مسألة جزائية، هذه المرة، هي اكثر اثارة واستفزازا، وأن يتدخل في ما ليس له فيه من سلطان؛ وكأنه لم يتفطن الى انه بهذه المبادرة غير المحبذة قد جمع في يده السلطات الثلاث المذكورة في الدستور باعتبار انه قضى وشرّع ونفّذ في آن واحد….

وفي هذا الباب، يمكن القول ان رئيس الجمهورية ابدع وبإبداعه هذا، فإنه تجاوز جميع المحظورات التي من اجلها، وضع الدستور؛ فلقد داس برجليه أحد المبادئ الدستورية التي على أساسها وقع وضع هذا النظام الدستوري والسياسي، نعني مبدأ ‘فصل السلطات والتوازن بينها. فلقد أضاف بغير حق مصدرا تشريعيا جديدا باعتبار انه تناسى المبدأ الذي يقول “يمارس الشعب السلطة التشريعية عبر ممثليه بمجلس نواب الشعب او عن طريق الاستفتاء”، وكذلك فإنه استنبط مرجعية تشريعية جديدة باعتبار انه، الى جانب السلطة التشريعية الدستورية، أضاف مرجعية دينية لم تكن مذكورة في الدستور بالمرة؛ فأصبح بذلك مشرعا دستوريا لوحده…

كل هذه التجاوزات وهذه الاعتباطية في ممارسة اعلى وظيفة عمومية في البلاد لا تُقبل ولا يرتاح اليها أحد وتستوجب مراجعة سريعة للنظام الدستوري للبلاد قبل فوات الأوان…


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING