الشارع المغاربي – إنتاج الفسفاط في مستوى أكثر من كارثي والشركة تعتزم توريد مشتقاته - بقلم: مُعز زيّود

إنتاج الفسفاط في مستوى أكثر من كارثي والشركة تعتزم توريد مشتقاته – بقلم: مُعز زيّود

7 مارس، 2019

الشارع المغاربي : يفوق عمر شركة فسفاط قفصة 120 عامًا، لكن يبدو أنّ ثماني سنوات من التكالب والفوضى وتغليب المصالح الفئويّة كانت كافية لاستنزاف عملاق الصناعات المنجميّة والكيميائيّة في تونس ونخر قواه والتبشير بتدميره كليّا. وأمام هذا المصير المظلم لا تزال المجموعة الوطنيّة عاجزة عجزا شبه تامّ عن إدارة هذا الملفّ الحارق وإبعاد غول الإفلاس عن كبرى الشركات الوطنيّة وأعرقها… إنتاج الفسفاط في مستوى أكثر من كارثي والشركة تعتزم توريد مشتقاته.
«تواصل تعطّل الإنتاج بشركة فسفاط قفصة»، «شلل تامّ لنشاط الفسفاط بالحوض المنجمي»، «توقّف الإنتاج بالأقاليم الأربعة لشركة الفسفاط»، «فسفاط قفصة تغرق »… هذه وغيرها من العناوين المماثلة أضحت عبارات ثانويّة مستهلكة تتخلّل نشرات الأخبار. ورغم خطورتها فإنّها لم تعد تثير التونسيّين كثيرا، ولاسيما بعد التطبيع المؤسف مع ما بات ينخر شركة فسفاط قفصة من أورام الفوضى العارمة والتمرّد غير المحدود. يحدث ذلك في ظلّ تنصّل الجميع، سلطةً تنفيذيّة وتشريعيّة وأحزابًا ومنظمات، من واجب المشاركة الفعليّة والفاعلة في إيجاد الحلول، بدلا من إغماد خناجر مسمومة في جسد المؤسّسة الوطنيّة. العبثيّة المفرطة التي فُرِضت على شركة فسفاط قفصة فرضًا بلغت اليوم درجة الإعلان عن اعتزام الشركة استيراد بعض مشتقات الفسفاط لأغراض فلاحيّة وللإيفاء بتعهّداتها إزاء ما تبقّى لها من حرفاء في العالم…

«زيد أضرب، مازالت تتنفّس !»

كان من المفترض أن يشنّ عمّال شركة فسفاط قفصة، اليوم الموافق للخامس من مارس 2019، إضرابا جديدا عن العمل بكامل أقاليم المؤسّسة الوطنيّة، في كلّ من المتلوي وأمّ العرائس والرديف والمظيلة، وذلك إعمالا لمقتضيات اللائحة المهنيّة الصادرة عن الجامعة العامّة للمناجم يوم 19 فيفري الماضي. وقد ألغي الإضراب بعد اضطرار الإدارة العامّة للشركة للموافقة على بعض المطالب الجديدة للهيكل النقابي.

وليس سرّا الاعتراف بأنّ الجانب النقابي للشركة يتحمّل جزءا من مسؤوليّة الوضعيّة الحرجة التي بلغتها، لا فقط بسبب بعض المطالب المجحفة لجامعة المناجم في ظلّ الوضع المالي المتردّي للغاية للمؤسّسة، وإنّما أيضا لفشلها في تأطير منظوريها والإسهام في إيجاد حلول عمليّة تحافظ على استمراريّة هذا المكسب الوطني. ويبدو أنّ جانبا من عمّال الشركة لم تعد تهمّه الانعكاسات الخطرة لزيادة الأعباء الماليّة للمؤسّسة، وبات لا يُفكّر إلّ حدّ أنفه من فرط ما يُعاينه من استقواء كلّ من هبّ ودبّ على الشركة والإيغال في نهش ما تبقّى من الطبقات الأخيرة للحمها.

كانت شركة فسفاط قفصة تُصنّف، على امتداد أكثر من قرن، ضمن كبرى الشركات المنتجة للفسفاط في العالم، بطاقة إنتاج سنوي تُناهز 8 مليون طنّ من الفسفاط التجاري. وهو ما جعلها تسهم بشكل كبير في تغذية مخزون الدولة من العملة الصعبة وتُعدّل موازينها الماليّة. ومنذ الثورة لم تعد الشركة تُنتج أكثر من 3 مليون طن سنويا بسبب التعطيل المنهجي لوحدات الإنتاج. فأمست مجرّد خيال شبحي لهذا الصرح العريق.

ولا يمرّ أسبوع دون أن يُقدم بعض العاطلين عن العمل وطالبي الشغل ومن ينسبون أنفسهم إلى هذه الفئة إلى قطع الطرقات أمام شاحنات نقل الفسفاط لمنع عبورها إلى مصانع المجمع الكيميائي بكلّ من قفصة وصفاقس وقابس. وفي السياق ذاته باتوا لا يتردّدوا في حرق عجلات السيّارات في الطرقات الرئيسيّة وقطع الطريق أمام الحافلات الناقلة لعمّال الشركة. وفي المظيلة لم يكف هؤلاء تعطيل وحدات الإنتاج وعزل المدينة، بل بلغ بهم الأمر مؤخّرا حدّ التجاسر على عدد من الإدارات العمومية والإقدام على غلقها. وهو ما لا يُمكن تصنيفه إطلاقا ضمن الاحتجاجات السلميّة أو اعتباره شكلا من التحرّكات المشروعة للمطالبة بحقّ التشغيل. وهنا تحديدا نُلاحظ كمّ النفاق السياسي في توصيف تلك الممارسات العنيفة. فالترويج لمجرّد «غلق» هذا المرفق أو ذاك يعكس عمليّة مغالطة واضحة تهدف إلى إعطاء معان مقبولة وشرعيّة لتلك الممارسات غير القانونيّة. والحال أنّ ما بعض ما يحدث في منطقة الحوض المنجمي يُعدّ استقواء واضحا على مؤسّسات الدولة، ولا علاقة له بممارسة الحقوق الفرديّة أو الجماعيّة التي يكفلها الدستور، بل ويُجسّد عمليّة انتقام منهجيّة من مكتسبات المجموعة الوطنيّة عموما. والنتيجة أنّ استمرار حالة التمرّد القائمة تُهدّد ببلوغ شركة فسفاط قفصة قريبا حالة إفلاس قد تنتهي بتدميرها وتسريح عمّالها أصلا.

حلول ترقيعيّة عمّقت النزيف !

ما لا يُدركه البعض أنّ عدد موظفي شركة فسفاط قفصة قد تضاعف مرّات عدّة، خلال السنوات الثمانية الأخيرة. والأنكى من ذلك أنّ المحتجّين مازالوا يُطالبون بانتداب 6 أو 7 آلاف منهم في الشركة، لا مجرّد مئات. وهو رقم من شأنه، لا فقط أن يُعمّق الصعوبات الماليّة الحادّة التي ترزح تحتها المؤسّسة الوطنيّة، بل القضاء عليها نهائيّا.

والمعلوم أنّ الاستجابة للمطالب التشغيليّة المتضخّمة باتت تفوق قدرة المؤسّسة على استيعابها. وهو ما أدّى إلى مضاعفة كلفة الإنتاج، دون أن يُجاري ذلك أيّ التزام باستئناف نشاط وحدات إنتاج الفسفاط ونقله وتحويله. ومن المضحكات المبكيات أنّ الرئيس المدير العام للشركة قد صرّح مؤخرا أنّه لا يستبعد إمكانية توريد الفسفاط من الخارج من أجل تأمين عقود مع حرفاء أوروبيين وتوفير الأسمدة الفلاحية، فضلا عمّا تحتاجه المصانع التونسيّة من مواد كيميائيّة كانت تُصدّر سابقا إلى الخارج بوفرة. وطبعا فإنّه لم يعد سرّا أنّ منافسي تونس في مجال تصدير الفسفاط، وخصوصا المغرب، قد استغلّوا كما يجب هذا الظرف الصعب، واعتمدوا منطق السوق. وهو ما أدّى إلى افتكاك عدد من زبائن شركة فسفاط قفصة، عبر اشتراط التزويد بإبرام عقود طويلة المدى.

وفي المحصّلة، فإنّ الحكومات المتعاقبة قد عوّضت عجزها عن حلّ المشاكل المتفاقمة للحوض المنجمي بالالتجاء إلى حلول ترقيعيّة عمّقت الأزمة، على غرار إحداث شركات البيئة والبستنة وتصنيف وحدات الإنتاج مناطق عسكريّة. وهو ما جعل شركة فسفاط قفصة تدور في الحلقة المفرغة لمطالب التشغيل التي لم تعد قادرة على استيعابها.

وفي الأثناء اختلط الحابل بالنابل، وانعكست الأضرار على مؤسّسات وطنيّة أخرى مثل الشركة التونسيّة للسكك الحديديّة التي سجّلت بدورها خسائر ضخمة جدّا جرّاء ضرب نشاطها المتعلّق بنقل الإنتاج إلى مصانع المجمع الكيميائي. ولن نُذيع سرّا في هذا الصدد بالإشارة إلى ما يُروّج عن علاقة أحد السياسيّين في ولاية قفصة بنشاط نقل الفسفاط عبر أسطول شاحنات خاصّة متعاقدة لنقل الإنتاج بدلا من شركة السكك الحديديّة. وهو ما يُذكّرنا بسياسيّ آخر له علاقة بأساطيل التجارة الموازية في ولاية مدنين.

كما لا يخفى أنّ بعض المصالح الشخصيّة ولوبيات الفساد في منطقة الحوض المنجمي قد باتت جزءا من عمليّات البلبلة المنهجيّة التي لا تنقطع ولا تتوقّف، فضلا عن الضلوع في تمويل الاحتجاجات أو المشاركة في تدبيرها أو تغذيتها، مثلما حدث في مواقع أخرى بجنوب البلاد.

قضيّة أمن قومي !

أضحت قضيّة شركة فسفاط قفصة تُشكّل قضيّة أمن قومي، تدليلا على أهميّة هذه المؤسّسة الوطنيّة في تعديل التوازنات الماليّة والحدّ من الاختلال الفادح في هذا المضمار. هذا لا يعني طبعا أنّ الحلّ في يد «مجلس الأمن القومي »، بدليل فشل إعلانه مواقع الإنتاج مناطق عسكريّة محميّة من فرق الجيش الوطني. فالحلّ يكمن أساسا في الكفّ عن الحلول الترقيعيّة واكتساب شجاعة سياسيّة لفتح هذا الملف الحارق وإدارته بشكل ناجع، وجعله أولويّة وطنيّة لا فقط حكوميّة.

ومن الطبيعي أن تتحمّل الحكومات المتعاقبة المسؤوليّة الأولى للفشل المتراكم في حلحلة الأزمة المزمنة لشركة فسفاط قفصة، لكن ملفّا دقيقا بهذا الحجم والأهميّة يُعدّ مسؤوليّة المجموعة الوطنيّة بمختلف مكوّناتها، بدءا بالحكومات والسلطة التشريعيّة ومرورا بالمنظمات الكبرى والأحزاب ووصولا إلى المجتمع المدني. والمؤسف أنّ منطق المزايدات والتنصّل من تحمّل المسؤوليّة هو الذي أدّى بالشركة إلى الوضعيّة المأسويّة التي تعيشها اليوم.

وقد علمت «الشارع المغاربي» أنّ هناك نيّة لإعادة فصل الإدارتين العامّتين لـ»شركة فسفاط قفصة» و»المجمع الكيميائي التونسي»، بعد أن وُحّدتا منذ عام 1994 واعتُمد آنذاك رئيس مدير عام واحد للشركتين. وهو ما يعني أيضا المضي في فصل الهياكل التجارية للمؤسّستين التي وُحّدت منذ سنة 1996 . ويهدف هذا الإجراء إلى تفعيل عنصر الحوكمة في كلّ من الشركتين. ومع ذلك لا يُنتظر أن تُثمر هذه الإجراءات نتائج إيجابيّة، إلاّ في حال استعادت مؤسّسات الدولة قدرتها المفقودة على تطبيق القانون، ضدّ المتلاعبين بمصير الشركة.

وفي كلّ الأحوال فإنّ الحلّ الجذري يتطلّب تنظيم حوار وطني عميق للنظر في أزمة شركة فسفاط قفصة واستتباعاتها، لا مجرّد ندوة وطنيّة لا تُحقّق شيئا بعد اختتامها وتناول الغداء. ومن غير شكّ أنّ الحكومة مطالبة بعرض تصوّرات واضحة للحلول المرغوب اعتمادها على المديين المنظور والمتوسّط. وطبعا فإنّ مختلف المكوّنات الكبرى للمجموعة الوطنيّة مدعوّة إلى المشاركة في هذا الحلّ، مجلس نوّاب الشعب أو الأحزاب الممثلة برلمانيا، لأنّه من التمييع لقضايا البلاد تشريك ممثلي 215 حزبا، جلّها مجرّد حوانيت على وجه الكراء. ومن نافلة القول إنّ للمنظمات الوطنيّة الكبرى دورها المحوري في تقديم الحلول الممكنة وأساسا الاتّحاد العام التونسي للشغل، وكذلك منظمة الأعراف باعتبارها معنيّة بالمؤسّسات الاقتصادية الخاصة المستفيدة من نشاط شركة فسفاط قفصة. ومن المهمّ أيضا اعتماد مقاربة تشاركيّة تفتح الباب أمام مكوّنات المجتمع المدني المعنيّة بهذا الملف الحارق، وضبطها خلال اجتماعات تمهيديّة بتلك القادرة على تقديم دراسات أو مبادرات عميقة ومعلّلة لإيجاد حلول للإشكاليّات المطروحة. ومن الضرورة بلا ريب أن يكون لنخب جهة قفصة عموما وممثلي مجتمعها المدني دورهم في تشخيص المشكل وطرح الحلول المنشودة.

استعادة المبادرة

لا أحد يُشكّك طبعا في نضاليّة أبناء الحوض المنجمي، فهم في غير حاجة لشهادة في ذلك. وتكفي الإشارة إلى من بذلوه من غالٍ ونفيس أثناء انتفاضة عام 2008، حين واجههم نظام بن علي بآلته القمعيّة بلا رحمة. ومع ذلك فإنّ من مسؤوليّة الجميع الدفع في اتّجاه إيجاد حلول بديلة للتنمية في جهة قفصة، والكفّ عن التعويل فقط على شركة فسفاط قفصة وتكبيدها المزيد من الخسائر الجسيمة.

ولنا أن نتساءل عن معنى أن تتمكّن مجموعات من الشباب، في كلّ مرّة، من إيقاف وحدات الإنتاج أو قطع الطريق أو السكك الحديديّة أمام مرور عربات تحميل الفسفاط ومشتقاته؟!. تكمن أعتى درجات النفاق السياسي اليوم في عدم تسمية الأمور بمسمّياتها، فهناك فرق شاسع جدّا بين شرعيّة المطالب المتعلّقة بالتشغيل وبين اعتماد وسائل عنيفة للتعبير عنها. ولولا المزايدات، من هنا وهناك، لما عجزت مؤسّسات الدولة عن التصدّي للتجاوزات القانونيّة والفوضى العارمة والإجرام في حقّ البلاد جمعاء، باسم الاحتجاجات المشروعة. وهذا لا يعني طبعا الدعوة إلى حلول أمنيّة أثبتت فشلها، وإنّما إلى استعادة مؤسّسات الدولة زمام المبادرة، وعدم التنصّل من إلزاميّة تطبيق القانون على المخالفين عند الضرورة.

ولا ريب أنّ من حقّ ولاية قفصة على غرار سائر الجهات الداخليّة أن تحظى بالتمييز الإيجابي في جهود التنمية، تعويضا عمّا عانته من حرمان وتهميش متعاظمين خلال عقود طويلة. كما أنّه من دور التونسيّين جميعا أن يُناضلوا من أجل تكريس العدالة الاجتماعيّة التي لا تزال عرجاء إلى اليوم. ومع ذلك فإنّه من العبث المفرط أن يتساقط بعض السياسيّين ونوّاب البرلمان والنخب في تغذية النعرات الجهويّة وتقسيم التونسيّين وترديد شعارات مؤذية لمصالح البلاد، لمجرّد حسابات سياسويّة شخصيّة. سبق أن تابعنا أمثلة عديدة لتلك المزايدات العبثيّة، على غرار ما جدّ خلال احتجاجات «الكامور »، حين تنادى البعض بأحقيّة أبناء ولاية تطاوين في آبار النفط، ومثلما تصارخ البعض الآخر بأحقيّة أبناء ولاية قفصة في مناجم الفوسفاط، وكذلك أحقيّة ولاية صفاقس بما يدفعه رجال أعمالها من ضرائب. ولم يبق سوى إعلان بقيّة مناطق البلاد جزرا مغلقة، كأن تحتفظ ربوع الشمال الغربي بقمحها وسيدي بوزيد بثروة مواشيها والجريد ونفزاوة بتمورها، ثمّ يُمنع دخول فنادق الساحل على غير أهلها… كلّ ذلك يندرج ضمن أجندات ومزايدات تحريضيّة خطيرة تنبني على فائض من التمييز والأنانيّة المفرطة والعقليّة القبليّة المعاديّة لمنطق الدولة المعاصرة.

لقد آن الأوان لطرح ملف شركة فسفاط قفصة، دون أدنى تأخير أو تردّد، في نطاق رؤية تنمويّة شاملة من أجل إيجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ هذه المؤسّسة الوطنيّة الكبرى من خطر الإفلاس المُحدق بها. يعني ذلك ضرورة استعادة دورها الريادي، لا فقط في منطقة الحوض المنجمي، وإنّما كذلك في دعم التوازنات العامّة للدولة التونسيّة بأسرها. فقد كان إنتاج الفسفاط يُعادل 7 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، قبل أن تهدّد العبثيّة المؤسّسة بلفظ أنفاسها الأخيرة.


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING