الشارع المغاربي: في هذا الظرف الوطني المتحرّك سياسيا، الخامل نقابيا، يتوجّب أن نتساءل عن الإتحاد العام التونسي للشغل، من جهة ما مَرَّ به من الأزمنة وما يمرّ به اليوم وآفاقه. ولعل هذا التساؤل هو اليوم مشغل النقابيين مثلما هو مشغل العموم من متابعي الشأن العام. ذلك أنّ هؤلاء وأولئك جميعا، لا يرتضون على الشياع أن تخلوَ تونس من” الأتحاد” ومن المألوف من أدواره الإجتماعية والسياسية. فمن خصائص الإتحاد التي استقرت له في تاريخه وفي تاريخ الدولة الوطنية التونسية أنه شريك لها اجتماعي وشريك لها سياسي. فأين هو اليوم من هذا وذاك ؟
1/الإتحاد شريكا اجتماعيا:
هو شريك للدولة اجتماعي من موقع دفاعه عن الشغالين المنخرطين فيه وغير المنخرطين، وعن الطبقة الشعبية على مقتضى ما تشرع الدولة وما يأتيه الأعراف. وينفتح دفاعُه لظروف العمل وشروط العيش والخيارات الرسمية المفضية إلى تلكم الظروف والشروط وإلى مؤثراتها على عموم الطبقة الشعبية.
وفي بعض المراحل، استكثر فريق من الساسة ومن العموم على الإتحاد تقاليد توسعه في دفاعه عن منظوريه وعن عموم الطبقة الشعبية، ومناكفة السلطة في ذلك. استكثر هؤلاء عليه ذلك، عسى أن يقتصر دوره على الدفاع عن منخرطيه دفاعا مهنيا خالصا حسيرا. وحتى هذا الدفاع صار اليوم مأسوفا عليه.
ويَغنَمُ من انحسار دور الإتحاد الحكامُ والمشغلون العموميون والخواص. ويشاركهم بعض العوام. ولهم في ذلك منطلقان؛ المصلحة والجهل. أما المصلحة فهي في تكريس علاقة شغلية تكون فيها الغلبة المطلقة للجهة المشغِّلة والجهة الحاكمة. وأما الجهل فهو في الخلط بين “المنظمة”و” الجمعية”.
إنّ لتمثلية “الجمعية: نوعين من الإختصاص؛ اختصاص الإنخراط واختصاص المجال. من اختصاص الإنخراط أن “جمعية الصيادين” مثلا إنما تمثّل بصفة مباشرة الصيادين المنخرطين فيها والمؤهلين للإنخراط، وليس المنخرطين في جمعية النادي الإفريقي. ومن اختصاص المجال أن مشاغل جمعية الصيادين تختلف عن مشاغل جمعية الرفق بالحيوان، مثلما تختلف مشاغل جمعية تحفيظ القرآن عن مشاغل جمعية الصّمّ والبكم أو مرضى السكري.
لكن”المنظمة تختلف عن”الجمعية” اختلافا ينتفي الوعي به في بعض النصوص التشريعية. ذلك أن تمثيل المنظمة يشمل المنخرطين من الشغالين وغير المنخرطين منهم تمثيلا واسعا منفتحا لشتى مجالات الممارسة المهنية. فالإتحاد العام التونسي للشغل، منظمةً، يمثل الأجراء بالفكر والساعد، في القطاعين العمومي والخاص. ولا يقتصر تمثيله على المنخرطين فيه. والإتحاد، منظمةً شغليةً، إنما يمثل الشغالين تمثيلا نقابيا منحازا للطبقة الإجتماعية الشعبية التي ينتمون إليها بالغلبة. فصمت” الإتحاد” الإجتماعي اليوم هو إخلال بشراكته الإجتماعية للدولة. وهو من نواقض كيانه.
2/الإتحاد شريكا سياسيا:
لا نرى الآن طائلا في الخوض النظري في العلاقة بين النقابي والسياسي. إنما الأكيد أنّ ما بينهما هو الإتصال وليس الإنفصال. فأصول حزب العمال البريطاني هي نقابات عمال الفحم. و” ليش فاليزا”(Lech Walesa) صار رئيس بولندا من موقع الزعامة لنقابة “تضامن”.
لكن علاقة الإتحاد العام التونسي للشغل بالسياسة ليست، على متانتها، علاقة حكم مباشر. فهو، طيلة عقود الدولة الوطنيةؤ شريك لها سياسي من جهة الخيارات الكبرى، لاسيما تلك التي لها تبعات اجتماعية. ومثلما توطدت هذه الشراكة السياسية العامة في فترات معلومة، تأزمت في فترات أخرى معلومة بدورها. ولعل أقربها الذاكرة الهجمة على مقره التي نفذتها”روابط”الإخوان الممثلة لحكمهم في الشوارع.
وإلى غاية 24 جويلية2021 لم ينفصل دور الإتحاد انفصالا رسميا عن الدولة ، رغم ما كان يتراكم من الأخطاء في تلك العلاقة وداخل هياكل الإتحاد وفي صفوف قادتها وأعضائها. فلا الدولة سعت طيلة عشرية كاملة ، من خلال السلطة، إلى محو دور الإتحاد، ولا الإتحاد سعى إلى الإنفصال عن الدولة أو القيام السياسي مقامها أو منازعة السلطة فيها. فتفريط الإتحاد ، صامتا في هذه المرحلة، في شراكته للدولة وفي دوره السياسي غير المباشر فيها، إنما هو الآخر من نواقض كيانه.
3/مرحلة الخفوت ثم الصمت:
بعد 25 جولية 2021 وضع رأس الحكم كل السلط بين يديه، واختزل في شخصه الدولة عقدا ومؤسسات وأجهزةَ سلطة إلخ.. كما اكتسح بسلطته المطلقة المجالات التي كانت تشغلها الكياناتُ الوسيطة والشريكة. واتجه رأسُ الحكم، من جملة ما اتجه إليه، إلى نسخ الإتحاد مَحوا.و قد مثّل هذا الإتحاهُ مفصلا في العلاقة التي بين الإتحاد والدولة. فمن جهة الدولة التي يمثلها رأس الحكم ، انتفت ذهنية الشراكة الموروثة الجامعة بينها وبين الإتحاد .
تُخبر تلك التقاليد الموروثة عن كون تلك الذهنية الجامعة، والتي لا تخلو من مصلحة متبادلة، تكفل، نظريا، للإتحاد القوة الإجتماعية التي بها يفرض على السلطة الراهنة أن استأنف تلك الشراكة بينها وبينه. وإن هذه الشراكة التي ليست دوما انسجاما هي من أسباب التوازن الإجتماعي و السياسي في البلاد. ولقد هَمّ الإتحاد، بعد جويلية 2021 باستئناف تلك العلاقة ، بفرضها من جهته فلم يقدر. فقد واجهه رأس الحكم ، عليما بعاهات المنظمة، بالتجاهل والجفاء والإستخفاف.
عندئذ قلص الإتحاد من سقف الطموح بعد أن خذلته قواه عن فرض ذلك الأستئناف. صار طموحه مقصورا على أن يكون طرفا في حوار مع السلطة، عسى أن يكون له به موطئ قدم فيها يضمن له حدّا أدنى من الشراكة والإعتبار تقيه شبح الإندثار. لكن رأس السلطة عبس وتولّى، فلاذ الإتحادُ ، كسيرَ الجناحين، بالصمت والإنكماش المُوحِيَين ربما بالخوف ممّا في جرابه.
إن الإتحاد هو اليوم كسير الجناحين فعلا؛ جناح قواه الذاتية وجناح حظوته لدى التونسيين. وهذا ما أطمع رأس الحكم في أن يعمل على أن يَمحُوَهُ من حقيقة الوجود. وإن على الإتحاد اليوم أن يذعن لحقيقة أنه جنى على نفسه إذْ لم يحسن الإصطفاف، طيلة أغلب العشرية الماضية، ولم يتبين أرض تماسكه، وحين طغت هياكله باسمه في الأرض صَوْلا ، وحين انحرف أعضاؤها انحرافا متراكما لم تدارك عليه القيادة المركزية بقاومته أو بفعل هي نفسها عكس ما فعلوا. ولا تبدو القيادة المركزية اليوم قادرة على الحركة. فهي مقعدة. ولعل قعودها هو خوف من نهوضها الذي ليس اليوم متاحا لها.
لكأن قادة الإتحاد الحاليين ، في مختلف الهياكل، قد استنفذوا عمرهم الإفتراضي. وهو استنفاذ ، لو صح، يقتضي أن يعيد الإتحاد صياغة نفسه إعادة يسترد بها اعتباره. وإلا فهو إلى زوال. ” فبِردّ الإعتبار” عنوانا، فازت مؤخرا قائمة نقابة عامة قطاعية. أ فَلا يعقلون.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 10 اكتوبر 2023