الشارع المغاربي : ” أتوجّه إليكم بهذه الرسالة لأعبّر لكم عن سخطي ورفضي للأوضاع المريعة التي آل إليها القضاء التونسي والتي أدّت إلى تجريد السلطة القضائية والقضاة من سلطاتهم الدستورية وتحول دونهم وتحمّل مسؤولياتهم كمؤسسة جمهورية مستقلّة يجب أن تكفل لهم المساهمة في تحديد مستقبل وطنهم والاضطلاع الكامل بدورهم في حماية الحقوق والحريات.”
تلك كانت بداية الرسالة، التي توجه بها القاضي مختار اليحياوي في جويلية 2001 الى الرئيس التونسي آنذاك والتي كانت احدى اهم المحطات المضيئة في نضال القوى الحية للمجتمع التونسي ، نزلت الرسالة بردا وسلاما عى شعب اعتاد على سياسة تكميم الافواه وعلى ان يكون القضاء اداة صامتة، مطيعة في يد السلطة السياسية بسبب غياب الضمانات الضرورية التي تحمي استقلالية القاضي وحيادته والتهديدات التي تطاله في حال تطبيق القانون بكل استقلالية، ابتداء من النقلة التعسفية وانتهاء بالحرمان من المرتب والترقيات، خاصة ان كاتب الرسالة كان قاضيا ، اذ لم يتعود حينها التونسي على سماع قضاة يواجهون السلطة …لم تكن الرسالة الحدث مجرد صيحة فزع لقاض خرج عن بيت الطاعة مما تسبب في عزله ومصادرة املاكه والتضييق على حريته ، بل كانت مؤشرا لبداية تمرد معلن سيتكرس بأكثر وضوح بعد مؤتمر جمعية القضاة العاشر ، الذي انعقد في 2004 تحت شعار “دعم ضمانات السلطة القضائية”،
بعد الثورة مباشرة ، عادت جمعية القضاة المنتخبة للنشاط بعد سنين من عذاب التشريد والتنكيل على خلفية مواقف اعضائها المتمسكة باستقلالية السلطة القضائية، الرافضة لتدخلات السلطة ،بل وساهم بعض منهم في صياغة المراسيم ، ومنها المرسومين 115 و116 الخاصين بالاتصال السمعي البصري ، وذلك ضمن الهيئة العليا لتحقيق اهداف الثورة التي كان لي شرف الانتماء اليها ،
رجعت بي الذاكرة الى بعض هذه الصفحات المشرقة من تاريخ القضاء التونسي بعد القرار الذي اتخذه قاضي التحقيق بالمكتب العاشر بالمحكمة الابتدائية بتونس ، وهو المتعهد بقضية موت الرضع في مستشفى الرابطة ، حيث منع بث برنامج الحقائق الاربع واعادة جزء من برنامج خاص حول الموضوع على قناة قرطاج +، وهو قرار اعتبرته المنظمات والجمعيات وحتى اجزاء من السلطة نفسها ضربا لحرية التعبير وحرمانا للمواطن الذي هزته الفاجعة من الحق في معرفة كل ملابسات ما جرى ،وقفت اتساءل بحق : ان لم يخضع القضاء لابتزاز السلطة وجبروتها، فما الذي يمنعه من تسخير كل الجهود لكشف الحقيقة، كل الحقيقة؟
كنت ولازلت ارفض ان احتج على احكام القضاء وارفض حتى الوقوف امام المحاكم، احتجاجا أو محاولة للتأثير في مسار اية قضية ، مهما كانت عدالتها ، كنت ولازلت مقتنعا، كذلك، بأن القاضي ، هو وحده المسؤول امام ضميره وامام القانون على الاحكام التي ينطق بها ، كنت ولازلت اعتبر ان الاحتجاج الوحيد الذي يجب ان نستعد له جميعا، مجتمع مدني واحزاب ومنظمات ، هو الوقوف ضد المس من سلطان العدالة والنيل من استقلالية قرارها، لكن هذا القرار بالذات ازعجني ، كما ازعج جل الحقوقيين والاعلاميين والسياسيين ، بمن فيهم مسؤولين في السلطة ، ولا يفوتني ان أنوه هنا بموقف الوزير المكلف بالعلاقات بالهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الانسان ، فاضل محفوظ، الذي اعتبر القرار مسا من حرية الرأي والتعبير وشكلا من اشكال الرقابة المسبقة ، كما تبرأ الناطق الرسمي باسم الحكومة، اياد الدهماني، من تدخل السلطة في هذا القرار، واعتبر ان من مصلحة الدولة ان تكشف الحقيقة” لوضع حد للإشاعات والاخبار الزائفة”…
اذن ان لم تكن السلطة هي التي تدخلت ، اين تكمن المشكلة ؟ في الحنين لإرهاصات ومخلفات رقابة ذاتية قديمة؟ في تفسير غامض للفصل 109 من الدستور؟ في ارتباك حصل امام قضية شغلت الرأي العام ؟ في صراع بين الاعلام المتحرر من قيود الرقابة وسلطة قضائية لازالت تبالغ في اجراءات التحفظ؟ كل هذا لا يبرر في اعتقادي المتواضع قرار المنع، اذ أي كان الامر ، فإن المآخذ على القرار عديدة، منها :
- مخالفته للدستور وبالذات للفصل 31 الذي ينص على ضمان حرية الرأي والفكر والتعبير والاعلام والنشر وذلك “دون رقابة مسبقة” وقد مارس قاضي التحقيق رقابة مسبقة باعتباره لم يطلع على البرامج ليتأكد من انها ستمس من سلامة سير الابحاث وسيتعارض مع مبادئ التحقيق مما سيؤثر سلبا على سير العدالة،
- ان غياب تغطية اعلامية شفافة في قضية شغلت الرأي العام يدفع بمزيد الشكوك حول الاسباب الحقيقية للكارثة ومن يتحمل مسؤوليتها ويشكك في مصداقية سير الابحاث ومدى الصرامة في تطبيق القانون،
- ان القرار يعد تجاوزا لسلطات الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري المتعهدة قانونيا لوحدها بمراقبة مضامين وسائل الاعلام وتقييم مدى التزامها بمقتضيات القانون واخلاقيات المهنة، وهي وحدها التي يمكنها اتخاذ القرارات العقابية والزجرية في حال التجاوزات…
للسلطة القضائية دور مهم في هذه المرحلة التي تشهد عديد التراجعات والانتكاسات في اهم مكسب للثورة التونسية . في هذه المرحلة التي بدأت جسور الثقة بين المسؤول والمواطن تتفكك ، لم يبق لنا الا القضاء ليعيد الثقة في القانون وجدية تطبيقه واحترام اجهزة الدولة ، ولن يكون ذلك الا بأجهزة قضائية تعترف بحق الاعلام في انارة الرأي العام وكشف الحقيقة، لأننا ” اذا اسكتنا صوتا فربما نكون قد اسكتنا الحقيقة “( جون ستيوارت ميل).
افتتاحية العدد الأخير من أسبوعية “الشارع المغاربي”.
مسعود الرمضاني: رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية