الشارع المغاربي : للتوضيح فقط نريد أن نؤكد أننا لسنا معنيين بالصراعات السياسية التي تدور داخل الأحزاب أو بين الأحزاب بقدر ما تتركز اهتماماتنا بالأساس حول سبل إخراج تونس من الأزمة الاقتصادية العميقة التي تهدد كيان الدولة وسيادتها ومستقبل أجيالنا.
في هذا الصدد نؤكد من جديد أن إصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي يجب أن يمر حتميا عبر تقييم موضوعي ودقيق لكل المؤشرات ذات الصلة غير أنه مع الأسف إلى اليوم لم يجد هذا الموضوع المحوري العناية الجدية من طرف كل الحكومات السابقة ومن الحكومة الحالية للحسم فيها بطريقة موضوعية ونهائية.
طبعا المطالبة بالبت في المؤشرات الأساسية هو ضرورة قصوى لكشف حقيقة الوضع الاقتصادي أمام الشعب التونسي وهو يدخل في ما تعهد به رئيس الحكومة الذي أكد عديد المرات أنه التزم بمصارحة الشعب في هذا الموضوع.
على هذا الأساس نريد كذلك أن نؤكد أن مسألة الإصلاح الاقتصادي ليست في علاقة بإيديولوجيات معينة بقدر ما هي معنية بمصلحة بلد يريد التمسك
بسيادته وبحق شعبه في العيش الكريم في وطن آمن مستقر.
من ذلك تبقى مواقفنا في مواضيع ذات أهمية قصوى مثل التفويت في مؤسساتنا الوطنية الإستراتيجية مرجعيتها كما سنبينه لاحقا مبنية على مقاربات مع ما يجري في بلدان تُعتبر معابد الليبرالية مثل الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وبريطانيا.
العنوان الأول لإصلاح الاقتصاد الوطني: تعزيز قيمة الدينار
لقد عرفت العملة الوطنية انهيارا تاريخيا مقارنة بأهم العملات التي تتعامل معها بلادنا وذلك منذ سنة 1986 تاريخ تطبيق “برنامج الإصلاح الهيكلي” الذي فرض من صندوق النقد الدولي في ثاني تدخل له في بلادنا .
في هذا الصدد نريد أن نذكر أن من أكبر الأخطار التي كانت تُفزع عديد المختصين المعنيين بالشأن الاقتصادي التونسي بعد توقيع تونس على اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي في سنة 1995 هي مسألة تدهور قيمة العملة الوطنية وذلك في علاقة بما يمكن أن تُكلّف البلاد من ارتفاع للمديونية ومن تدهور للعجز التجاري و تداعياته المباشرة على ميزان الدفوعات ومن تطور خطير لما يسمى “بالتضخم المستورد” الذي سوف يقضم القدرة الشرائية للمواطن وكذلك من ارتفاع لكلفة الاستثمار الداخلي الذي بالتوازي مع ارتفاع نسبة الفائدة البنكية المُشطّة أصبح حاجزا خطيرا يمنع أية مراهنة لفكرة استثمار داخلي.
تقويض القدرة الشرائية للمواطن وتعطيل الاستثمار الداخلي وما ينجر عنه من ارتفاع للبطالة يعتبر الوقود الخطير للدفع نحو أزمات اجتماعية عميقة وشديدة الخطورة.
نحن نؤكد على ضرورة تنمية الاستثمار الداخلي لأسباب موضوعية لأنه عكس الاستثمار الخارجي المصدر كليا يبقى الوحيد المطالب بدفع الضرائب لتعزيز خزينة الدولة كما أنه مطالب بإرجاع مداخيل التصدير لتعزيز رصيد البلاد من العملة الأجنبية هذا علاوة على خلق مواطن شغل مستدامة وذات قيمة علمية تمكن من تشغيل أصحاب الشهادات العليا والاستفادة من اختصاصاتهم العلمية لوقف نزيف هجرة الجامعيين الذي استفحل في البلاد والذي يهدد مستقبل تونس باستنزاف طاقاتها البشرية ذات القيمة العلمية المرتفعة.
لقد تبين من خلال إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء الخاص بتطور التشغيل في المؤسسات الخاصة في القطاع المنظم أن هذا القطاع لم يعد يتمكن إلا من خلق أقل من 15 ألف موطن شغل سنويا بينما يجب خلق 150 ألف موطن شغل سنوي على مدى عشر سنوات لتقليص نسبة البطالة إلى مستوى مقبول معتمد عالميا في حدود 4 بالمائة فقط.
لا يمكن رد الاعتبار للاستثمار الداخلي بدون سياسة جدية لتعزيز قيمة الدينار بأسرع وقت ممكن لأن ذلك يُعتبر ضرورة قصوى للحد من التضخم المستورد وتدهور القدرة الشرائية للمواطن و للحد من نسبة المديونية المصطنعة (نسبة مديونية ناتجة عن انهيار قيمة الدينار) وللحد من العجز التجاري الذي يتم تغذيته عبر انهيار قيمة الدينار بنسب جد مرتفعة كانت في حدود 22 بالمائة في سنة 2017 .
من ذلك مثلا ارتفع العجز في الثمانية الأشهر الأولى من سنة 2017 إلى 16,3 مليار دينار مقابل 13,4 مليار دينار في نفس المدة من سنة 2016( أي بنسبة 22 % وهي النسبة التي تعادل تقريبا انهيار قيمة الدينار أمام اليورو في نفس المدة) وإلى 18,7 مليار دينار في نفس المدة من سنة 2018 مقارنة بسنة 2017 أي بنسبة 15% وهي نسبة تقارب نسبة انهيار الدينار أيضا في هذه السنة وهي في حدود 12 %.
ما من شك إذا أن تعزيز قيمة الدينار مسألة محورية شديدة الأهمية تتطلب بالتأكيد اتخاذ قرار سياسي جريء وسيادي لأنه سيفضي حتميا إلى ضرورة الرجوع إلى قيمة العملة الثابتة ولو مرحليا لتخطي هذه الأزمة العميقة والخطيرة.
من باب المقارنة نلاحظ أن المغرب الشقيق وتفاديا للوقوع في انزلاق خطير مثل الذي سقطت فيه تونس فقد عمل على تعزيز الدرهم المغربي
وجعله ملتصقا بالأورو منذ توقيعه على اتفاق الشراكة في التسعينات إلى اليوم.
طيلة هذه المدة إلى اليوم انخفضت العملة المغربية 10 بالمائة فقط من قيمتها مقابل انهيارا ب 122 بالمائة للدينار التونسي؟ طريقة احتساب العجز التجاري
الحالية ترتقي إلى مستوى التزوير بتواطئ مع الطرف الأوروبي وخاصة فرنسا لقد بينا هذا الموضوع في عديد المرات وأكدنا على ضرورة الاعتراف بالواقع واعتماد العجز الحقيقي الذي تُبيّنه المبادلات الخاصة بالنظام العام المتعلق بالمؤسسات المقيمة والتي ترضخ لقانون الصرف للبنك المركزي الذي يفرض ضرورة اعتماد فواتير توريد وتصدير يتم إيداعها لدى البنوك للتمكين من خلاص فواتير التوريد وتحويل مداخيل التصدير.
خلافا لنظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا والتي لا تلتزم بقانون الصرف للبنك المركزي فهي تعتمد مجرد تصريح لدى الديوانة عند دخول المواد الأولية أو النصف مصنعة المتأتية من الخارج وعند خروج المواد المصنعة محليا ورجوعها إلى بلدان المصدر أو المالك الأصلي
. لذلك طريقة إدماج المبادلات التي تتم في النظام العام مع تلك الخاصة بنظام الشركات غير المقيمة والمصدرة كليا هي طريقة مخالفة لقوانين المحاسبة المعتمدة دوليا بما في ذلك في فرنسا التي أكدت قوانينها “أن البضاعة التي يتم تحويلها إلى بلد خارجي من أجل المناولة لا تحتسب تصديرا لذلك البلد وإرجاعها إلى فرنسا بعد تحويله لمنتوج صناعي لا يُحتسب توريدا من ذلك البلد. بل يُحتسب خدمات صناعية يتم احتسابها في ميزان الخدمات”.
حتى يكون القارئ وكل من يهمّه الأمر على بينة تامة في هذا الموضع الهام والخطير فقد توجهنا جماعيا مع بعض الأصدقاء المختصين في رسالة
مفتوحة نشرت بجريدة ” Kapitalis “بتاريخ 17 فيفري 2017 إلى كل من وزير الصناعة والتجارة آنذاك وإلى سفير الاتحاد الأوروبي لنبين له بكل الحجج أن العجز التجاري الحقيقي في تونس أعلى بكثير من الذي يتم اعتماده بين الطرفين أي الحكومة التونسية والطرف الأوروبي وأن الفارق الذي يتم التستر عليه يمثل العجز التجاري الذي يسود مبادلاتنا مع الشريك الأوروبي.
لذلك على سبيل المثال العجز التجاري المعلن عنه رسميا من الطرفين كان في سنة 2017 في حدود 15,9 مليار دينار بينما العجز الحقيقي كان في حدود 25,2 مليار دينار أي بفارق 9,3 مليار دينار وهو يمثل العجز مع بلدان الاتحاد الأوروبي بصفة قطعية.
رئيس الحكومة اختزل بطريقة عجيبة العجز التجاري في موضوع العجز في ميزان الطاقة: الواقع اخطر من ذلك
في سياق الكلمة التي ألقاها رئيس الحكومة يوم الجمعة الفارط حول موضوع العجز التجاري اختزل المسألة في عجز ميزان الطاقة.
ولمزيد التوضيح نقدم للسيد رئيس الحكومة هذا الجدول الذي يعتمد ما نشره المعهد الوطني للإحصاء الخاص بالمبادلات التجارية في الثمانية أشهر الأولى
لسنة 2018 .
هذا الجدول الرسمي يبين أن قطاع الصناعات الميكانيكية والالكترونية يتصدر نسبة العجز التجاري ب 27,4 % ثم يليه قطاع الصناعات المعملية الأخرى ب 23,8 % ثم يأتي قطاع الطاقة في المرحلة الثالثة بنسبة % 20,7 . مما يبين أن العجز التجاري هيكلي ويشمل كل القطاعات بما فيها النسيج والملابس والجلد والأحذية وباستثناء قطاع وحيد له فائض: قطاع الفسفاط والمناجم.
هذا مع العلم أنه في السنة الماضية عند التحضير لقانون المالية لسنة 2018 تم التنبيه من عديد المختصين ونحن من بينهم على ضرورة اعتبار سعر برميل البترول فوق السعر الذي اعتمدته الحكومة ب 54 دولارا بالنظر لكل المؤشرات العالمية التي تدل على أن السعر سوف يرتفع إلى 70 دولارا أو أكثر. غير أن الحكومة أصرّت على عدم التغيير لأسباب تتعلق بالتزاماتها مع الأطراف الخارجية للضغط على عجز الميزانية.
التفويت في مؤسساتنا الوطنية الإستراتيجية ليست حلا والحل يكمن في إصلاحها وفي تعزيز مردوديتها
في وثيقة صادرة في فرنسا في شهر مارس 2014 عن “جمعية قدماء مدرسة الحرب الاقتصادية” تعرضت إلى التحولات الهامة التي أصبح عليها العالم بعد الأزمة المالية التي عصفت بالاقتصاد العالمي بين سنة 2007 و 2008 . حيث ذكرت أن الولايات المتحدة الأمريكية أصدرت عدة تشريعات تقنن وتحدد من الاستثمار الخارجي خاصة في قطاعات تعتبرها تمس بالأمن الوطني الأمريكي وقد حددت قطاع الطاقة والبنوك والاتصالات والنقل بجميع أنواعه وقطاع المعلوماتية والإلكترونيك لما لها من علاقة بصناعة الأسلحة وغيرها أصبحت كلها شبه ممنوعة على الاستثمار الخارجي.
كما نسجت على منوالها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وذلك عبر تشريعات خاصة بالبورصة لمنع أو صد أية هجمة من الخارج للاستيلاء على المؤسسات الإستراتيجية الوطنية. وقد ذكرت الوثيقة عديد المؤسسات الفرنسية التي تعرضت لهذه الهجمات من بينها مجموعة “بيبسي كو” الأمريكية التي اكتسحت رأس مال شركة “دانون” الفرنسية وكذلك شركة “بيشيناي ” لصناعة الفولاذ والألومينيوم التي اكتُسحت من طرف الشركة الكندية “ألكان”.
انطلاقا من ذلك استشعرت السلطات الفرنسية الخطر والتجأت إلى تشريعات تقيد هذه العمليات دفاعا عن مؤسساتها.
إضافة إلى ذلك وفي الوقت التي تفرط فيه بلادنا في نسيجها المتواضع من مؤسساتها الصغرى والمتوسطة بالتقاعس حتى في تنفيذ حق تونس في تطبيق قوانين الحماية منذ إصدارها إلى اليوم، تذكر الوثيقة أن ألمانيا التي تفرض ليبرالية بلا قيود على غيرها قامت بين سنة 2008 و 2009 بضخ
60 مليار يورو كمنح لتعزيز الدورة الاقتصادية الألمانية التي بدأت تتضرر من الأزمة.
كما أسست صندوق بقيمة 100 مليار أورو لتقديم الضمانات لتمكين المؤسسات الألمانية من قروض ميسرة وهي في أصلها ميسرة نسبة الفائدة لا تتعدى 2,5 بالمائة فقط.
كما ضخت وهي معلومة جد هامة 480 مليار أورو )وهو مبلغ مهول( لإنقاذ القطاع البنكي الألماني في الوقت الذي ما زالت السلطات التونسية تفكر في التفريط في قطاعات البنك العمومي والحال أنه يتحصل عل مرابيح هامة جدا؟ كما أن ألمانيا ضخت مبالغ كبيرة لقطاع صناعة السيارات الذي اعتبرته الوثيقة القطاع المدلل للحكومات الألمانية؟
فأين نحن من كل هذا الواقع المسنود بالحجج وحكوماتنا والأحزاب المساندة لها لا تفكر إلا في التفويت بطريقة غير مدروسة ولا منطقية في عالم تغلب عليه الحروب التجارية والعمل على الدفاع على المكاسب الوطنية.
مراجعة العلاقة الغير متكافئة مع الشريك الأوروبي ضرورة قصوى لاسترداد السيادة الوطنية بالنظر إلى كل ما سبق ذكره ندعو من جديد وبكل إلحاح إلى ضرورة مراجعة العلاقات الغير متكافئة مع الاتحاد الأوروبي والتي طغت عليها طبيعة هيمنة واستصدار للقرار الوطني بالنظر لاعتبار الاتحاد الأوروبي هذه العلاقة كقضية إستراتيجية – جغرافية في علاقة بالمد الصيني خاصة في المنطقة العربية والإفريقية بينما تمثل لتونس علاقة كارثية دمرت اقتصاد البلاد منذ أكثر من ثلاثين سنة كما تبينه كل الوثائق.
مسؤولية كلا من رئيس الجمهورية ورئيس حزب النهضة كمساندين لتوجهات الحكومة وكذلك الشأن لرئيس مجلس نواب الشعب ولنواب الشعب مسؤولية جمة وخطيرة لما يجري على المستوى الاقتصادي في البلاد حاليا.
صدر بأسبوعية الشارع المغاربي يوم الثلاثاء 18 سبتمبر 2018 بقلم جمال الدين العويديدي