الشارع المغاربي: لا أراني في حاجة إلى التذكير بأن بادرة 25 جويلية 2021 كانت في يقيني بادرة وطنية أملاها واجب تحرير الوطن من براثن الاستعمار الداخلي بقيادة الإسلام السياسي بجميع كتائبه، الظاهر منها والمتخفي. وتبعا لذالك ،كان من الضروري أن يصدر المرسوم عدد117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021 لإدارة دواليب الدولة مؤقتا في انتظار عودة الحياة السياسية الوطنية إلى الاشتغال وفقا لما توجيه سنن دولة القانون والمؤسسات.
غير أنه تبين أن تلك العودة أبطات وغالت في الإبطاء بحكم ما أصاب دواليب الدولة ذاتها من فساد متعدد الوجوه، عميق الآثار، رأى رئيس الجمهورية أنه بامكانه ان يحاربه بمفرده في إطار ذلك الوضع الاستثنائي ذاته. وعن هذا التمشي الانفرادي كانت واضحات الراهن الوطني والتباساته معا.
فأما واضحاته فهي أن الأسوأ وراءنا، اذ ليس ثمة أضرّ بتونس من «الخوانجية»، فكرا ظلاميا وسلوكا ظالما. وما كان لتونسي عاقل أن ينتظر خيرا منهم، ولا ممّن دار في فلكهم، سواء عن جهل مقدس، او عن تقدير أخرق، أو عن انتهازية نكراء. وأما التباساته فلازمة عما بين المضمون الثوري الواضح لبادرة عيد الجمهورية، وبين منهج انجازه، بما يحف به من تردد وتعثر وبطء. وهذا البون بين المضمون والمنهج لم ينفك يتسع، حتى كاد الشك في سلامة التدبير الرئاسي يستبد بمؤيدي ذلك المضمون عامة، بل حتى بأكثر الناس حماسة له.
وقد انتهزت قوى الردة هذا التردد لتحاول استعادة انفاسها المنهكة بالتعويل على القوى الخارجية، خاصة منها تلك التي لا تعي حق الوعي مرارة الواقع التونسي، وتلك التي آلت على نفسها تعطيل السورة التونسية منذ بدايات عهد الاستقلال وإجهاض ثورة شباب مدرسة الجمهورية مطالبا بحقه في «الشغل والحرية والكرامة الوطنية» حتى لا تكون أنموذجا يهدد أصنام العرب والمسلمين جميعا بألافول، رغم أن تونس الثورية المندرجة في سنن العصر الحديث مذ مايقارب القرنين، لم تسع يوما لا إلى تصدير رؤاها الثورية أو انجازاتها الرائدة، فضلا عن أنها من أشد الدول التزاما بمبدأ عدم التدخل في شؤون الغير.
ولا ريب في أن مساعي العاملين على تحويل جلاد تونس، شعبا ودولة وتاريخا ورموزا وثقافة ومبادئ ومصالح إلى ضحية، باءت سلفا بالفشل ، ذلك أن ما يتناهى إلينا أحيانا من مظاهر عدم رضى بعض أصدقائنا في الخارج على ما يجري في تونس بعد 25 جويلية، أنما هو أولا من تردد التمشي الرئاسي بما يكتنفه من غموض أحيانا أولا، ومن ضعف أداء الديبلوماسية التونسية ثانيا، ثم هو ثالثا من ضرورات الاستهلاك الداخلي في تلك البلدان بحكم ما تشهده في «عصر العولمة» من تعاظم دور منظمات المجتمع المدني فيها زمن المواعيد الانتخابية. وليس مما يحتاج إلى تحقيق خلدوني للوقوف على ما أصبح لتلك التنظيمات من صولة في الرأي العام، وفي دهاليز الحكم، والأوساط الإعلامية، بفضل ما يغدق عليها من أموال لا يعلم مصادرها إلا الراسخون في السباحة في الماء العكر.
ولأمر كهذا كان ذلك الفشل الذريع الذي مني به الاسلام السياسي في تونس قضاء لا تدارك له ولا قيام له –سياسيا – من بعده، لان مقاومته لم تأت على ظهر دبابة، بل من صبر التونسي على غدره قادرا في مجرى حرصه على الجمع المتين بين واجب الحفاظ على سلامة الوطن أولا والالتزام بالارتقاء بالدولة الوطنية، دولة الاستقلال الى مصاف الدولة الوطنية الديمقراطية ثانيا، والتمكين للشعب من أسباب العيش الكريم ثالثا. لذلك كان 25 جويلية مندرجا اندراجا شبه تلقائي في مسيرة تونس نحو الارتقاء بذاتها شعبا ودولة ورموزا تاريخية وثقافية، كما كان هذيان «البناء القاعدي» و«اللجان الشعبية» غير ذي موضوع في تونس راهنا ومستقبلا.
ولا ينكر أحد ما كان لرئيس الجمهورية من حظ عارض بفضل تلك المسيرة، وما كان له الا ان يقتنص ما أتاحته تلك اللحظة التاريخية من فرصة لتلبية نداء الشعب المطالب باسترجاع حريته المسلوبة وسيادته المهدورة.
وما كان لأحد أن ينكر الدور الريادي الذي قامت به بعض الاحزاب الوطنية هوية وهوى في فضح الغدر الخوانجي وفي مقدمتها خاصة الحزب الحر الدستوري التونسي وحزب الوطنين الديمقراطيين وحزب التيار الديمقراطي دون ان ننسى دور المثقفين والصحافيين والكثير من منظمات المجتمع المدني يتقدمها الاتحاد العام التونسي للشغل.فجميع هؤلاء مدينون لرئيس الدولة بانه اصغى لندائهم وأحسن الإصغاء، تماما مثلما آن رئيس الدولة مدين لهؤلاء جميعا بانتضاج شروط إعلان بادرته التاريخية وبما لاقته من صدى واسع في جميع أرجاء الوطن..
لذلك كان المنهج السليم الكفيل بتحقيق مضامين بادرة 25 جويلية يقضي ضرورة بتفادي كل اشكال التفرد بالحكم واتقاء كل إشكال توهم القدرة المنفردة –مهما كان أمرها- على تخليص تونس من مصاعبها الراهنة المستعصية بذاتها حتى على مجرد الحصر . فما من مجال من مجلات الحياة الوطنية إلا وهو منكوب بفعل عشر سنوات من التخريب.ويوجب الإصلاح المعمق الشامل إرادة جماعية فولاذية تعمل بإيمان الأنبياء وصبر المجاهدين في إطار وحدة وطنية، لا ولاء لها الا لتونس، ولتونس وحدها .
وتقضي الحكمة السياسة أن ينطلق ذلك الإصلاح المعمق الشامل بتجديد بناء جميع مؤسسات دولة القانون والمؤسسات بدءا بانتخاب مجلس الشعب انتخابا مشفا نزيها تنتج عنه أغلبية قادرة على الحكم وبعث الهيئات الدستورية التي يراها صالحة لتأمين استئناف مسيرة الانتقال الديمقراطي وتحديد نظام الحكم الذي يبدو له الاجدر بالاتباع، حتى اذا استرجعت الدولة هيبتها أمكن الشروع في الاصلاحات على بصيرة من واقع الامر.
وعندها فقط يمكن إصلاح الاقتصاد والصحة والمالية العمومية والقضاء والتربية والبحث العلمي والثقافة… وعندها فقط يمكن محاسبة الفاسدين حيث ما وجدوا ومحاكمة أصحاب المال الفاسد ومدبري الاغتيالات السياسية والضالعين في جرائم تسفير أبنائنا وبناتنا الى بؤر التوتر وناشري الفكر الإرهابي في صفوف شبابنا وباعثي التنظيمات الإرهابية السرية …قائمة طويلة من المحاكمات تستدعي –في الاقل –بعض السنين ذلك ان أهم ما فيها ضمان أكثر ما يمكن من شروط المصداقية حتى نقطع على اعداء تونس في الداخل قبل الخارج فرص التظلم وتباكي الضحية استعطافا يقوم مقام شرط أمكان عودتهم الى الحياة السياسية ولو بعد حين.
ولما كان الأمر كذلك –اجمالا – فإنه يصعب فهم ما اتخذ من اجراءات في اتجاه القضاء في مرحلة من أدق مراحل تاريخنا المعاصر نعول عليه فيها ليزهق الباطل ويظهر الحق. لآادين احدا ولا أبرئ أحدا، ورأيي في القضاء من رأي هيئة الدفاع عن الشهيدين بلعيد والبراهمي حتى تأتيني الأنوار الساطعة من مصالح دولتي. ولا ارى انه من الحكمة بحال من الاحوال ان يقع التشهير بالقضاء عموما -حتى لو تعثر فعلا عدد غير محدد من هيئته – بل إن الواجب يقضي بإدانة قضاة بشخوصهم، وباتخاذ التدابير ضدهم فرادى، حتي حين يعسر مثل هذا الإجراء كما تبين ذلك أخيرا من خلال تصريحات هيئة الدفاع عن الشهيدين …وعلى ذلك فليقس ما لم نقل في رجال الأعمال والصناعيين وجميع من لم يتورط –لامن قريب ولا من بعيد – في «تجويع الشعب» او «نهب أمواله» فكل تعميم تعتيم، لا يلحق الضرّ بشخص، بل بقطاع مهني برمته …
ومما يشهد في جلاء ما بعده جلا ء لسلامة التمشي الذي نقترحه ما سجل من فاعلية غير مسبوقة –كما وكيفا – لأنشطة قواتنا المسلحة في مقاومة التهريب والتخزين العشوائي للمضاربة الخ. وفي ذلك إشارة جلية الى انه بمجرد سقوط الخوانجية بدأت المراجعات وعما قليل تبدأ التوبات والمصارحات بمجرد أن يشعر الناس بأن زمن «البيليك» و«التتريك» و«الكلالة» قد انتهى.
غير انه من شروط حصول ذلك الوعي باستحالة عودة زمن تخريب الوطن يوجب إجراءات سهلة تقنع المواطن بان تونس عادت الى موضعها من التاريخ بعد عشر سنوات من التيه والاغتراب. فليس من الممكن محاربة الإرهاب وثقافة الحقد ومدارس القرضاوي الارهابي بيننا. ولا بد في هذا الموضع من الاشادة بما تبذله السيدة موسى وزيرة الاسرة المراة والطفولة وكبار السن من جهود متواصلة في مقاومة الغش والفوضى بعث رياض الاطفال لحفظ حق أبنائنا وبناتنا في تربية سليمة.
ونشر الوعي بان الأسوأ وراءنا لاينفصل عن نشر الوعي بأن الأصعب أمامنا.لذلك كان على كل وطني ان ينهض لواجبه المهني يوجب أيضا أن تقوم الأحزاب السياسية بنشره في صفوف التونسيين مع تركيز خاص على تفسير ما جرى خلال العشرية المنصرمة حتى وجدنا أنفسنا في وضع لا نحسد عليه. وحتى لا تتكرر أخطاء عشرية البؤس كان على الأحزاب السياسية ان تتبارى في إقناع الكتلة الانتخابية الصامتة التي تشكل حوالي 46 في المائة من الكتلة الانتخابية الجملية من القيام لواجبها في الموعد الانتخابي القريب اذ ليس ثمة ما يدعو موضوعيا الى تأجيل الانتخابات الى 17 ديسمبر المقب خاصة وان اوضاعنالاالمالية اليوم في امس الحاجة الى معالجة حكيمة تشترك فيها الحكومة من المنظمات المهنية القائمة يتقدمها اتحاد الشغالين واتحاد الاعراف. فليس أضمن لمستقبلنا ولتحررنا من الاستعمار الداخلي من اتخاذ ذات المهج الذي اتبعناه أمس في نضالنا –بقيادة بورقيبة وحشا-ضد الاستعمار الخارجي كما انه ليس اجدى من تلك الوحدة الوطنية الحية لتحقيق آمال شعبنا عامة وشباب مدرسة الجمهورية خاصة في انداز حقه في «اشغل والحرية والكرامة الوطنية».
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 15 فيفري 2022