الشارع المغاربي – الإمام سحنون بن سعيد التّنوخي بين الأمس واليوم../بقلم:صلاح بوزيّان (أستاذ باحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة)

الإمام سحنون بن سعيد التّنوخي بين الأمس واليوم../بقلم:صلاح بوزيّان (أستاذ باحث في الحضارة العربيّة الإسلاميّة)

قسم الأخبار

24 مارس، 2023

الشارع المغاربي: هو أبو سعيد عبد السّلام بن حبيب بن حسّان بن هلال بن بكّار بن ربيعة بن عبد الله التّنوخي ،حمصي الأصل مالكيّ المذهب قيرواني المسكن  ولد سنة 160ه/774م في قرية مزناتة الشّرق بالمغرب و ليس بالمشرق، و ذلك أنّ والده جاء من جند حمص الشّام إلى القيروان و استقرّ بها ، تعلّم سحنون في كتاتيب القيروان و لمّا صار شابًّا نبغ في العلم حفظا و استعدادا فشجّعه والده و العلماء على حضور حلقات دروس كبار الفقهاء في جامع القيروان، فكان يلازم مجالس العلم ،حضر دروس أبي خارجة و البهلول بن راشد ومعاوية الصمادحي وغيرهم، واتّصف بدماثة الأخلاق وهدوء الطّبع ،وكان زاهدا في الدّنيا صادق القول صارما في الحقّ ،و اختار خشين اللّباس والطّعام[1] .

ارتحل إلى مصر سنة 178ه،و في الأثناء مات مالك وعمر سحنون 18سنة ، فالتقى بعبد الرّحمان بن قاسم العتقي الذي كان ترد عليه جوابات الإمام مالك عن مسائل فقهية يرسل بها إليه، و سمع منه و سأله العتقي قائلا:( ما منعك من السّماع منه ؟ قال قلّة الدّراهم)[2].فقد كان فقر سحنون هو السّبب الحقيقي الذي منعه من السّفر إلى الإمام مالك.و ارتحل سنة 188ه/803م إلى الشّام والمدينة طالبا للعلم .و من شيوخه في المدينة نذكر عبد العزيز بن الماجشون و عبد الله بن نافع الصّائغ و مطرف بن عبد الله بن بن مطرف بن سلمان ابن أخت مالك. و من شيوخه في مكّة سغيان بن عيينة وقد قال الأمام الشّافعي في الإمام مالك وابن عيينة:( لولا مالك وسفيان بن عيينة لذهب علم الحجاز)[3].و من شيوخه في الشّام الوليد بن مسلم. و سمع من علماء أجدابيا التي مات فيها ابن القاسم ،و من شيوخه بإفريقية عبد الرّحمان بن القاسم و أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم و يُكنّى بابن القيسي من أهل مصر سمع من الإمام مالك و اللّيث و سَمِعَ منه سحنون وأسد بن الفرات و عدد كبير من العلماء[4]. وسمع من عدّة علماء من الأندلس تجاوزوا 70 منهم إبراهيم بن شعيب الباهلي. و سَمِع من علماء البيرة نذكر منهم إبراهيم بن خلاّد.و سَمِعَ من علماء مرسيه نذكر منهم عُمير بن عبد الرّحمان بن مروان العتقي. لقد ثابر سحنون في طلب العلم و تجشّم الصعاب و تنقّل شرقا وغربا وسمع من عند ابرز شيوخ العالم الإسلامي و من بينهم تلاميذ الإمام مالك.عاد إلى القيروان 191ه/806م ، و عَمِلَ على نشر المذهب المالكي طيلة ال80 سنة التي عاشها ، وساهم مساهمة منقطعة النّظير في جعل المذهب المالكي الأكثر انتشارا افريقية فصار مذهب أهل افريقية وامتدّ إلى غيرها من بلدان العالم الإسلامي المجاورة، و قد اتّخذ من تعليم الصّبيان وتحفيظ القرآن و إلقاء الدّروس للنّاس سبيلا لخدمة المذهب المالكي، و رتّب مدوّنته أحسن ترتيب ممّا جعلها محطّ اهتمام و انشغال طالبي العلم و عموم المسلمين الطّامحين إلى التّوسع في أمور دينهم ، و لكثرة انشغاله بتعليم النّاس والصبيان اكتفى بالمادّة التي جعلها في المدوّنة ، و لم يلتفت إلى التّأليف . و رغم أنّ الأسدية ـــ كتاب فقه على مذهب مالك يتناول مسائل العبادات والمعاملات ــــ  التي ألّفها أسد بن الفرات سبقت بظهورها المدوّنة،فإنّ الأخيرة و إن جاءت من بعدها فقد كانت أكثر انتشارًا بين طلبة العلم و العلماء و عموم المسلمين ، و شمولا و تدقيقا في طرح المسائل الفقهية التي تهمّ المسلمين من منظور مالكي صِرفٍن و لعلّ عدد مسائلها خير شاهد على عمق مضمونها و ثراء محتواها ، فهي تتكوّن من 36 ألف مسألة، ممّا جعل إقبال النّاس عليها عجيبًا ولافتًا، لفهمها و تدبّرها بل و حفظها بالتّردد على مجالس سحنون.و لقد بارك الله جهود الإمام سحنون فتخرّج على يديه عدد كبير من العلماء والفقهاء تقلّدوا مهمّة نشر المذهب المالكي في المغرب والأندلس من بعده ، ونذكر من تلاميذه:1) ابنه محمّد بن سحنون (202ه ــــ256ه/ 817م ـــ 870 م) اهتمّ به والده وكلّف مؤدّبا  بتعليمه وكان يوصيه قائلا:( لا تؤدّبه إلاّ بالمدح و لطيف الكلام ، ليس هو ممّن يؤدّب بالضّرب والتّعنيف ،و إنّي لأرجو أن يكون نسيجا وحده و فريد زمانه ، و أتركه على نحلتي ) فكان محمّد بن سحنون فقيه المذهب المالكي في القيروان و صار شيخ العلماء في بلاد المغرب في النصف الأوّل من القرن الثّالث بلا منازع، و اتّسم بالأخلاق العالية والأدب و دراية وعلما وافرا بآراء المذاهب الفقهية الأخرى التي خالفت المذهب المالكي ، وكان حاذقا في فنون العلم و التّأليف و من مؤلفاته كتاب( النّوازل ) وكتاب(آداب المعلّمين ) الذي يُعدّ نظريّة في تربية وتعليم الأطفال[5].

2) ابنته خديجة بنت سحنون العاقلة المتأدّبة (270ه)، أخذت العلم عن أبيها بحر العلوم الإمام سحنون ،وصارت عالمة وفقيهة مالكيّة ، كانت تفتي لنساء عصرها و تُـقدّم دروسا فقهية لطالبات العلم في بيت أبيها[6].

3) عبد الله بن أحمد بن طالب التميمي (210ه ــ 285ه/826م ــ 899م) عمّ بني الأغلب أمراء افريقية ، كان فقيها و قاضيا ، من كبار أصحاب سحنون سَمِعَ منه ابن اللّباد و أبو العرب التّميمي صاحب كتاب المحن ( وهو كتاب في المحن و البلايا التي نزلت بأعلام الأمّة وعلمائها و قضاتها و فقهائها و زهّادها و صالحيها من سجن و تشريد وتعذيب و قتل وصلب و تشهير من ذلك ما امتُحن به عطاء بن أبي رباح والإمام أحمد بن حنبل زمن محنة خلق القرآن و غيرهما ..)[7].

قام الأمير أحمد بن الأغلب التّميمي بعزل ابن أبي جواد من القضاء سنة 232ه، وولّى الإمام سحنون البالغ من العمر 74عاما، و بقي قاضيا إلى أن تُوفي ، و قبل سحنون القضاء بشرط ألاّ يأخذ أجرة على ذلك و يأخذ أجرة أعوانه و كُتّابه و إدارته من جزية أهل الكتاب و ليس من السّلطان.وقام بكثير من الإصلاحات و التّغييرات و سنّ نظاما قضائيا ساهم في نشر المذهب المالكي في جانبه الاجتماعي.من ذلك أنّه يكتب أسماء النّاس الوافدين عليه للتّقاضي في رقا فُرادى و ينادي عليهم الواحد تلوى الآخر بالتداول لعرض مسائلهم ويستثني الملهوف فيقدّمه على عامّة الحاضرين .وهو أوّل القضاة عيّن للجامع إماما يصلّي بالنّاس . وهو أوّل القضاة الذي شرّد أهل البدع و الأهواء من الجامع ومنعهم من التّحلق فيه من ذلك الإباضية والصفرية و المعتزلة ومنعهم من إمامة النّاس في الصّلاة و فرّق جميع المخالفين للمذهب المالكي .و هو أوّل من أمر أعوانه بقتل الكلاب السّائبة في الأسواق حتّى لا ينتشر داء الكلب. و تميّز بالشجاعة و الصّرامة فكان لا يخشى أحدا في الحقّ و لو كان سلطانا .إضافة إلى أعمال أخرى تذكرها كتب التّراجم. إلاّ أنّنا حينما نتوجّه لزيارة مقام الإمام سحنون اليوم بمدينة القيروان نفزع لهول المنظر الذي عليه مقام هذا العالم ، فهو مبنى يحتوي قبر سحنون و ابنته و ابنه محمّد بن سحنون و أمراء من بني الأغلب ، و هذا المبنى مُقفل بسلسلة حديدية تحيط به الأزبال و بقايا المرمّات و أكوام التراب و الأغبار و الفضلات في مشهد محزن و مقرف ، يدفعنا إلى طرح ألف تساؤل ، هكذا يُكرم الإمام سحنون ناشر المذهب المالكي ، الفقيه العالم الزّاهد ، الذي يأتيه الطلبة و الباحثون و العلماء من كلّ فجّ عميق من أوطان و بلدان العالم الإسلامي ، أين عناية سلطة الإشراف من بلدية القيروان و الولاية و وزارة الشؤون الثقافية و المعهد الوطني للتّراث . كلّ المتساكنين قرب مقام الإمام سحنون يشهدون بالإهمال الذي لحق المقام طيلة سنوات بعد 2011 . ألا يكون هذا المعلم التّاريخي سببا في سياحة ثقافية من كلّ العالم ؟ أسئلة لا نجد لها جوابا أمام هذا الصمت الغريب من سلطة الإشراف .و لقد أرفقنا هذا المقال بصور التقطناها تبيّن المشهد الكارثي في مدينة القيروان .


 انظر: محمّد زينهم محمّد عزب، الإمام سحنون ، تح حسين مؤنس، دار فرجاني،1992، ص65.[1]

 انظر: القاضي عياض، ترتيب المدارك، دار الكتب العلمية ، بيرت ـ لبنان، ط1 ،1418ه ــــ 1998م.ج1،ص360 .[2]

انظر:الذّهبي، سير أعلام النبلاء،ج8، ص455 .[3]

انظر:محمّد زينهم ،الإمام سحنون، مر.س، ص 91.[4]

 انظر: محمّد بن سحنون ، كتاب الأجوبة، دار سحنون للنّشر و التّوزيع ، تونس ، ط1 ، 1432هـ ـ 2011م ،ص33.[5]

 انظر: محمّد بن قاسم مخلوف، شجرة النّورالزّكية في طبقات المالكية، تع عبد المجيد خيّالي، دار الكتب العلمية ، بيرت ـ لبنان، ط1 ، 2003م ـ 1424هـ ، ج1، ص104. [6]

 أنظر: شجرة النّور الزّكية ، مص. س،ص 81.[7]

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 21 مارس 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING