الشارع المغاربي – "البرباشة" يمثلّون 5% من الشعب التونسي/ بقلم حمزة حسناوي

“البرباشة” يمثلّون 5% من الشعب التونسي/ بقلم حمزة حسناوي

25 أكتوبر، 2018

 الشارع المغاربي : وجوه ارتسمت على ملامحها آثار سنوات من المعاناة والحرمان ولا تبخل عن تصنّع ابتسامة ساخرة من كلّ ثوابت المترفين، انطباع يلازم الوجوه التي تعترضك في المسالك المؤدّية إلى مصب الفضلات بمنطقة برج شاكير التابعة لولاية تونس العاصمة والمشهد نفسه يتكرّر قرب أغلب مصبات الفضلات سواء المراقبة أو العشوائية.

طابور من المنسيّين الذين لا يطرق أذهانهم حديث السياسيين ولا يحفلون بيمينيين ولا بيساريين ولا نخالهم مهتمين بزواج المثليين أو بالمساواة في الإرث أو بختان الفتيات أو غيرها من الفرقعات التي تُحدث هنا وهناك، يسارعون الخطى نحو المصب على أمل الظفر ببعض الفضلات القابلة للاستعمال أو للبيع ولو بثمن بخس يسدون به رمق أطفالهم.

“البرباشة” أو النابشون في المزابل وفي مخلّفات الأسواق ظاهرة تجاهلتها الأضواء جعلت الآلاف ممن يمتهنون “التبربيش” نسيا منسيا” لم تأت بها “الثورة” بل هي نتاج طبيعي لتطور غير متكافئ في علاقات الإنتاج ولّد فئات من المهمّشين الذين يعيشون على هامشه وللفشل المتواصل في خلق مناخات تنموية قادرة على استيعاب جميع التونسيين وتمكينهم من الأدنى المطلوب لضمان الحياة.

قررت الاقتراب اكثر من المصب والتحدّث إلى أحد النابشين فيه وبعد أن أبى مرارا التلفّت والتكلّم أدار أحد “البرباشة” إلينا وجهه الذي علته تجاعيد العمر والحرمان… اثنتان وخمسون سنة من معاناة التهميش والعيش في الظلام بين أحد منازل “السيدة” سابقا وحي هلال المتاخمين لوسط العاصمة عقود قضاها في التنقل بين منزله ومصبات النفايات، مدّ لنا يده مصافحا وقد علتها جروح وندوب متفاوتة الأحجام هي علامة مشتركة بين أغلب “البرباشة”، العم عبد الحميد يقول إنه يبدأ جولته اليومية للبحث عن قوت يومه عند الثانية صباحا ينطلق من الحاويات القريبة من منزله وصولا إلى مصب برج شاكير بحثا عن القوارير البلاستيكية والعلب القابلة للرسكلة.

“لم تسعفني الظروف لأتزوج في سن مبكّرة، لدي 4 أبناء تتراوح أعمارهم بين 11 و16 سنة أعمل جاهدا على توفير قوتهم وضمان مواصلة تعليمهم مثل أترابهم، حتى لا يشعروا بواقع الفاقة والفقر الذي هو حالي، أجمع هذه القوارير وأبيعها لمراكز التجميع لقاء بعض الدنانير التي تكفي لضرورات الحياة لا غير… شاقي ولا محتاج”.

الطابور يزداد طولا مئات من المقبلين على القمامة كما لو أنّ فيها كنوزا خفية لا يمكن لغيرهم رأيتها واستشعارها، نتقدّم نحو المصب “روّاد” من كلّ الأعمار… أطفال يبدو أنهم يأتون بحثا عن طعامهم يلتقطون ما يمكن أكله من الفضلات المنزلية بقايا خضر أو غلال، حاولنا التحدث إليهم لكنهم يرفضون الخوض في أي شيء سوى في البحث بين الأكياس عمّا يقتاتون به.

وفي طريق العودة عرّجنا على سوق الجملة ببئر القصعة وكان الوقت ظهرا تقريبا، السوق خالية عدا من بعض التجار الذين كانوا بصدد إفراغ صناديق سلعهم من الخضروات، في الأثناء كان هناك عدد من الأطفال بل وحتى الشبان يجمعون ما تناثر هنا وهناك من حبات الخضر والغلال.

أحد الشبان الذي فوجئ بسؤالنا له عن سبب قيامه بهذا العمل أجابنا مرتبكا بعد أن أكّد على رفض ذكر إسمه أو التقاط صورة له بأنه في الثلاثينات من العمر وأنه متزوج ويعيل أسرة صغيرة. وتابع “جرّبت عددا من المهن وعملت طويلا في مجال البناء إلى أن تعرّضت إلى حادث شغل ولم أعد قادرا على مزاولة أية مهنة شاقة وهذا العمل يكفيني لخلاص معاليم حاجات المنزل ومصاريف أبنائي والأهم أنه يقيني من أن أمدّ يدي للتسول أو للسرقة”.

واضاف:”لا توجد أية ضمانات في هذا العمل، ولا يمكن حصر عدد العاملين به أو أماكن تواجدهم فعلى مدى السنوات الأخيرة ألاحظ بشكل يكاد يكون يوميّا وجوها جديدة وأشخاصا جددا من الجنسين ومن مختلف مناطق الجمهورية من الذين ضاقت بهم السبل ولم يجدوا غير البحث بين مخلفات الآخرين عمّا يسكتون به جوعهم”.

وبعيدا عن منطقة بئر القصعة في باردو وتحديدا في موقع سوق الخضر المحاذي لـ”كتكوت” وفي حدود العاشرة والربع ليلا لفت انتباهنا وجود سيدتين في الخمسينات من العمر بصدد جمع فواضل السوق مستغلّتين سترة الظلام حياء من أعين الناس.

اتجهت صوبهما وبادرتهما بالتحية فردتا بصوت يكاد لا يُسمع بعد أن طمأنتهما إلى أنني لست من المنطقة ولا أعرفهما حينها فقط قالت إحداهما بنبرة حزينة وبكلمات خرجت قهرا من فيها “يعيّش خويا ما ناش نسرقو.. أما الفقر نعمبوه” وأردفت ” نحن نجمع ما يبقي “النصابة” نهارا وننظفه ونطبخ ما صلح منه للاستهلاك.. فلا عمل لنا والحمد لله على كلّ حال”.

واصلت سيري وقد أنهكتني مشاهد يوم طويل من معاناة فئة لها وزنها من التونسيّين الذين يعيشون ويحيون على هامش حياة الآخرين ويستيقظون حين تنام الدنيا ليبحثوا في غفلة منها عن سبل للحياة.

مجتمع مواز                                             

الثابت أنّ مثل هذه الظواهر لا يمكن أن يظهر وينتعش إلا في خضم الفشل السياسي والاقتصادي الذي رافق سنوات ما بعد 2014 في تونس، والذي أسفر عن عديد الظواهر والأمراض الاجتماعية التي أصبح يعاني منها التونسيون من ارتفاع معدلات في الجريمة وتفش للعنف والتسوّل وغيرها من الآفات.

في هذا السياق أكّدت أستاذة علم النفس الاجتماعي فتحية السعيدي أنّ تفشي وانتشار ظواهر مثل “البرباشة” مؤشر على اتساع رقعة المهمّشين وارتفاع نسب الفقر في المجتمع وأن ذلك يفسّر لجوء الآلاف إلى البحث عن فضلات يمكن بيعها أو حتى لتناولها وسد الرمق.

وأفادت السعيدي في تصريح لـ”الشارع المغاربي” بأن مثل هذه الظواهر تؤكّد وجود مجتمع مواز له تقاليده ولغته ونواميسه التي تحكمه، مبرزة أنّ ظاهرة “البرباشة” تختلف من حي إلى ىخر حسب نوعية الفضلات التي يمكن العثور عليها مؤكدة بأنها موجودة حتى في ارقي الأحياء.

من جهته أكّد أستاذ علم الاجتماع عبد الستار السحباني أنّ “التبربيش” لم يعد فعلا فرديا بل اصبح حرفة تتحكم فيها شبكات كبيرة والدولة التونسية لا ترغب في دراسة الظاهرة وتوفير أرقام حول عدد ممارسيها مخافة التورط فيها والالتزام بالبحث عن حلول لها.

وأضاف أنه من خلال دراسته ومتابعته للظاهرة تبين له أن ما يقارب 5 بالمائة من التونسيين منخرطون في اشكال التبربيش ينضاف اليهم 7 بالمائة آخرون اذا ما اعتبرنا مرتادي الفريب وممتهني التجارة الموازية (أنظر الحوار مع عبد الستار السحباني).

أخطار بالجملة

هذه الظاهرة أيضا تحمل خلف أسبابها ومظاهرها أخطارا صحية تتجاوز “البرباش في شخصه لتطال أفراد عائلته وتتحوّل إلى خطر يتهدّد المجتمع.

وتأكيدا لذلك أوضح مدير حفظ صحة الوسط والمحيط بوزارة الصحة محمد الرابحي لـ”الشارع المغاربي” أنّه يجب قبل الحديث عن أخطار الغوص والبحث في الفضلات تصنيفها إلى نوعين فضلات منزلية عضوية وأخرى استشفائية وكيميائية والتي يمكن أن يتمّ التخلّص منها في نفس المصبات.

وأبرز أنّ الفضلات المنزلية تسبّب التلوث الجرثومي باعتبار تشكّلها أساسا من المواد العضوية التي تعدّ مكانا ملائما لانتشار الجراثيم بأنواعها وأنها قد تتسبب في أنواع من التسمم والحساسية وفي أمراض خطيرة نظرا لصبغة تأثيرها التراكمية لافتا إلى أنّ مخاطرها قد تظهر على المديين البعيد والمتوسّط.

وفي ما يتعلّق بالمواد الأخرى على غرار مخلّفات المستشفيات والمراكز الصحية أوضح محدّثنا أن أغلبها خطيرة جدّا ويتسبب في عديد أنواع التلوّث الفيروسي أو الجرثومي وحتى الكيميائي وفي أمراض كثيرة ملاحظا أنّ الخطير أن هذه النفايات يمكن أن تحتوي على جراثيم من مخلّفات مرضى في المستشفيات والمصحّات وأنها بالتالي يمكنها أن تكون ناقلا للعدوى لـ”البرباش” المعرّض للجروح ولوخز الابر والحقن المرمية في الفضلات.

وأضاف أن “البرباشة” عادة يكونون من الأوساط الفقيرة جدّا والذين لا يهتمون كثيرا بالوقاية من الأمراض لانشغالهم بتوفير قوتهم وأنّ ذلك يجعل أبنائهم وعائلاتهم عرضة بدورهم للعدوى بالامراض التي قد يحملها معه حتى في ملابسه، وتابع بأنّ هؤلاء الأفراد في علاقة بالمجتمع وبالجيران وغيرهم وهو ما يزيد في خطر اتساع دائرة العدوى.

وأشار إلى أنّ تعرّض “البرباش” إلى الدخان المتصاعد من النفايات المحروقة يعدّ بدوره مصدرا لأمراض “ما أنزل الله بها من سلطان” على حدّ تعبيره.

وخلص الرابحي إلى أنّ  مباشرة الفضلات يحمل مخاطر جمّة على الجميع وإلى أنّه يجب العمل على إيجاد حلول لتفادي انتشار وتوسّع هذه الظاهرة.

تثمين النفايات ورسكلتها.. الحل المنقوص

وأكّد مصدر من وزارة البيئة والجماعات المحليّة لـ”الشارع المغاربي” أنّ كمية النفايات المنزلية المنتجة سنويا بتونس تتجاوز مليوني طن ونصف الطن لافتا إلى أنه يتم التصرف في أكثر من ثلثها بالمعالجة والتثمين.

وأضاف أنّ الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات التابعة للوزارة تحرص على الاعتناء بمختلف العاملين في منظومة جمع وتثمين النفايات في إطار برنامج يأخذ بعين الاعتبار كافة جوانب التصرف في النفايات ومختلف المراحل، أطلق عليه “برنامج التصرف المندمج والمستديم في النفايات” لافتا إلى أن الوكالة تتعامل عبر نقاط تجميع الفضلات البلاستيكية مع أكثر من 13000 ألف “برباش” وجامع نفايات وإلى أنّ البرباش الواحد يجمع قرابة 20 كلغ من البلاستيك القابل للرسكلة يوميا.

 

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING