الشارع المغاربي – التقارب الاجتماعي زمن كورونا - بقلم د. نوفل حنفي

التقارب الاجتماعي زمن كورونا – بقلم د. نوفل حنفي

قسم الثقافة

13 أبريل، 2020

الشارع المغاربي:تعد الشبكات الاجتماعية وأدوات الإعلام و الاتصال مثل “فايسبوك” و”سكايب…”  جزءا لا يتجزأ من حياتنا اليومية والمهنية والعلائقية بل هي الحياة ذاتها، إذ أن الفرد في العصر الراهن لا يتخيل الحياة دون هاتفه الذكي حيث تتيح له الهواتف الذكية وأجهزة الكومبيوتر ووحدات التحكم في الألعاب فرصا عديدة للاعتقاد انه يوجد باستمرار في مكانه وفى كل أمكنة العالم في نفس الوقت مما يفسح المجال لاعتبار عالمه الخاص متاحا للآخرين كما أن الآخرين قد يقتربون منه في كل وقت رغم بعد المسافات والفوارق العائلية والجهوية والجندرية  والاجتماعية والدينية والإيديولوجية…وهم قادرون على ربط علاقات معه بصرف النظر عن المكان والزمان..

ينجح الفرد في الافلات من سلطة الرقابة العائلية والدينية والقانونية ومن كل عوالمه المنفصلة عن الحياة وفى مقاومة كل الحواجز الاقتصادية والاجتماعية والجندرية والنفسية من خلال الاعتماد على تقنيات الإعلام والتواصل التي تتيح له في معظم الحالات توسيع دائرة علاقاته وتفاعلاته إلى ما وراء الوجود المادي مهما كان التهميش والانعزال الذي قد يعيشه، فهو قادر رغم كل شي بفضل سحر هذه التقنيات على معرفة جميع البشر وعلىالتخاطب معهم وتبادل الأفكار والخبرات المهنية والعلمية والدخول معهم في علاقات حميمة. .

يتبادل الآباء والأبناء والأزواج والأصدقاء والعشاق الرسائل خلال النهار والليل فبعضهم يتحاور بخصوص عمله وآخرون يتناقشون في مسائل تهم الحياة المدرسية والجامعية وقد ينظم الشباب بأنفسهم بعض العاب الاختباء والبحث مع زملائهم في الدراسة أو أقاربهم أو أترابهم في الجمعيات الرياضية أو الثقافية، كما يمكنهم إعداد مقاطع فيديو مع أقاربهم وأصدقائهم والتعليق عليها وتقييمها وقد وصل بهم الأمر إلى نشر لقطات شديدة الصلة بحياتهم العائلية والحميمة في بعض الأحيان وقراءة تعاليق الآخرين عليها بتلهف، فكأنما اخترنا إلغاء الحواجز مع الأخر الذي  اقترب منا داخل الشبكة العنكبوتية إلى حد دخوله إلى قاعات جلوسنا وغرف نومنا  الى درجة اتصال الغير بنا واتصالنا بالغير قد يصل إلى حد  الاختناق. لكنهل يمكن لهذه الأدوات والأجهزة الرقمية أن تعوض الوجود المادي للعلاقات الاجتماعية والعاطفية في سياق التباعد الاجتماعي الذي فرضته خطورة انتشار وباء كورونا ؟

يعتبر الحفاظ على العلاقات بالنسبة لهذه العائلات من المسائل الحيوية حتى أن مصطلح ” العابرة للحدود الوطنية”  يؤكد حقيقة أن هؤلاء الأشخاص يستمرون في الحفاظ على شعور بالانتماء العائلي من خلال الانخراط في ممارسات تتجاوز الحدود الجغرافية، إذ تبين التجربة الاجتماعية أن الهجرة الداخلية أو الخارجية في حد ذاتها لا تؤدى إلى قطع الروابط الأسرية بشكل تلقائي. وقد تمت صياغة هذه الفكرة من خلال التأكيد على ضرورة التقارب المادي، وهى فكرة متجذرة في ثقافتنا المتوسطية بصفة خاصة ، إذ يعتقد العديد من المواطنين أنه لا يمكن ضمان التقارب العاطفي والعناية بالآخرين إلا في حالة التواجد المادي المشترك وخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الأسرية. إلا أن بعض الدراسات السوسيولوجية ما انفكت تبين على مدى العشرين عاما  الماضية أن العائلات والمجموعات المتباعدة عن بعضها البعض من الناحية الجغرافية تتعامل فيما بينها بشكل وطيد إلى درجة تقلص أو انعدام التباعد بين المجموعات المنفصلة عن بعضها البعض، وأنّه يتم تبادل الآراء والمشاريع والذكريات والعواطف بدرجات متفاوتة وبالاعتماد على خصائص الفضاء العام المجرد. صحيح أن المجموعات هي مجموعات يحكمها مفهوم التباعد الاجتماعي ، إلا أن هذا التباعد الاجتماعي لا يشمل كل أصناف الفضاءات العمومية التي يقسمها يورغنهابرماز إلى فضاء عام حسي ” الشارع والمقهى والملعب…” وفضاء عام منظم ” الملتقيات والندوات والاجتماعات الرسمية…” وفضاء عام مجرد ” فايسبوك وتويتر…”، فقد يجبرنا الحجر الصحي أو غيره من الظروف على الانقطاع عن التعامل المادي مع بعضنا البعض، لكن ذلك لا يمنعنا من التقارب عبر المشاركة في الفضاء العام المجرد، اي فضاء الشبكات الرقمية المعقدة والموغلة في التجريد. لقد مكننا اعتماد الفضاء العام المجرد على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات على توطيد العلاقات العائلية والاجتماعية التي قد يفككها الفضاء والزمن حيث نجحت هذه التقنيات في استئناف علاقات مفككة لم يكن أصحابها يطمحون في يوم من الأيام إلى تقاسم كلمة من الكلمات ، وقد انتهى بهم الأمر إلى البوح ببعض الأسرار التي تقربهم من بعضهم البعض في وقتلا يقدر كل واحد منهما على رؤية الأخر ومصافحته أو معانقته بشكل حميمي.

يتطلب إنجاح مشروع التقارب عن بعد بناء بعض التقاليد والطقوس الجديدة مثل الوجبات العائلية أو المهنية…التي يتقارب فيها الكل بشكل رقمي داخل” كاميراالواب”  التي تمكن الجميع من الاشتراك في تناول العشاء وهم منفصلين عن بعضهم البعض، كما يمكن ترتيب صنف طبق الطعام منذ وقت طويل وقد يكون ذلك في علاقة بتقاليد الأسرة في إعداد الأطعمة، يمكن للمجموعات المغلقة داخل الشبكة العنكبوتية أن تنشأ الألبومات العائلية، من خلال مكالمات صوتية وفيديو يومي، كما يمكن مساعدة الطفل أو الطالب في فهم دروسه وإعداد واجباته الجامعية عبر تطوير تقنيات التعايش الرقمي المشترك، ويمكن أن تكون هذه التقنيات فورية ومباشرة (مكالمات صوتية، رسائل فورية، اجتماعات في لعبة متعددة اللاعبين عبر الانترنت) وبعضها الآخر مؤجل اي منشور على شبكة اجتماعية والبعض الآخر قد يتميز بـ”الوعي المحيطي”  الذي يمكن الفرد من أن يكون لديه حضور للآخرين بمجرد رؤيته وهو متصل بالانترنت.

ورغم تطور طرق الاتصال الرقمي، فان التقارب المشترك هو تقارب غير كاف في ذاته ليجعل الأشخاص البعيدين جسديا اقرب إلى بعضهم. فالتكنولوجيا في ذاتها لا تقدر على خلق التقارب بين مجموعات متنافرة بطبيعتها، إذ يتفق العديد من الخبراء أن مستوى التقارب الفكري والعاطفي (درجة الصراع، والاستقرار، وقوة الروابط) الذي يسبق نشاط شبكات التواصل الاجتماعي هو الذي يحدد إلى حد كبير ما إذا كانت الاتصالات الرقمية ستكون فاعلة أم لا في ربط العلاقات بين البشر، وفى هذا الإطار لا يمكننا تجاهل التجاوزات التي يمكن أن تنتج عن المراقبة اللامشروعة أو ممارسة التحرش عبر الانترنت. إن الملابسات العرضية ومشاكل الربط في شبكة الانترنات يمكن أن تكون لها نتائج غير مقبولة من حيث تعميق فجوة التباعد الاجتماعي وإفشال برامج العمل عن بعد أو التعليم عن بعد، وهو حال من لا يفي بوعوده عندما يفشل  في الاتصال من خلال مكالمة  “سكايب” حيث يفشل الصوت في الوصول إلى الشريك أو تختفي الصورة في بعض الأحيان ، بحيث يترك ذلك المجال لبعض الصدمات والمفاجآت التي ترمز إلى المواعيد المفقودة أو المضطربة مما يعمق الشعور بالنقص  والإحساس بالفجوة الرقمية التي قد تكون لها استتباعات خطيرة على مستوى الإحساس بغياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية خاصة في المناطق الفقيرة والمهشمة التي تتميز عادة بضعف مستوى تغطية الخدمات الرقمية، وحتى وان نجحت عملية التواصل الرقمي فلا يمكن للعلاقات الاجتماعية أن تقتصر على التقارب عن بعد خاصة بوجود بعض الأحداث التي تجعل الحاجة أكيدة إلى رؤية بعضنا البعض سواء تعلق الأمر بحادث الولادة أو الوفاة. كما يمكن أن يؤثر احتمال رؤية البعض للبعض الآخر في المستقبل القريب على المشاعر الإنسانية التي لم تعد تتقبل إلا التقارب الحسي الذي قد يتجاهل خطورة وباء كورونا من خلال تقبيل الآخر ومعانقته لمدة طويلة بحيث تفشل كل النصائح الطبية الصارمة في كبح جماح العواطف الجياشة التي تدفع البعض إلى التضحية بحياته من اجل بعض اللحظات الحميمة المؤثرة.

أما المشكل الذي لا يمكن تجاهله فهو عدم المساواة وغياب تكافئ الفرص بخصوص القدرة على الإبحار في مختلف أشكال التواجد الرقمي وذلك بفعل أزمة الفجوة الرقمية. فرغم أهمية التطور التكنولوجي الذي تعولم في شكل دمقرطة الأجهزة الرقمية والهواتف الجوالة، لا تزال ثمة فئات اجتماعية مهمشة ومحرومة من توفر الإمكانات الكافية لشراء وتشغيل أجهزة التقارب عن بعد. فثمة لامساواة حقيقية بين المواطنين في تونس وفى المجتمعات العربية تؤثر على قدراتنا في تثبيت واستخدام الأدوات التكنولوجية للتواصل الرقمي، مما قد يشكل تحديا خصوصيا بالنسبة للمسنين وأصحاب الحاجات الخصوصية، وذلك في علاقة بالمعرفة وصعوبات التعلم والأدوات التي تتكيف بشكل جيد مع الحاجات والقيود المحددة ” ضعف الرؤية وفقدان الكفاءة” بحيث أن ضرورة المساعدة التقنية لبعض الفئات قد تقلّص من هامش الاستخدام المستقل لتقنيات التواصل الرقمي.

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING