الشارع المغاربي / الدكتورة نايلة السليني والدكتور فريد بن بلقاسم: تواصل أسبوعية «الشارع المغاربي » نشر سلسلة مقالات بقلم الدكتورة نائلة السليني والدكتور فريد بن بلقاسم يطرحان خلالها تاريخ نشأة ومسيرة تنظيم الإخوان المسلمين في العالم العربي وتفرّعاته في بلدانه مدعومة بالوثائق والأحداث والتواريخ والأسماء كاشفين العديد من الجوانب المجهولة عن التنظيم المذكور ورجالاته.
ويتنزّل هذا المقال في سياق مواصلة النّظر في الجهاز السريّ لجماعة الإخوان المسلمين، ونهتمّ فيه بالجانب التنفيذيّ من خلال رصد ممارسات هذا
الجهاز منذ نشأته إلى الستينات. وقد استندنا في ذلك إلى مصدرين رئيسيين وهما: محمود الصبّاغ وهو أحد قادة هذا التنظيم منذ بدايات تكوينه في
أواخر ثلاثينات القرن الماضي إلى الخمسينات وكتابه «حقيقة التنظيم الخاصّ ودوره في دعوة الإخوان المسلمين »، وعلي عشماوي وهو من قادة النظام
الخاص منذ منتصف الخمسينات إلى الستينات وكتابه «التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين .»
ونتوقّف بداية عند ذكر خاصيتين ميّزتا النّظام الخاصّ الإخوانيّ: الخاصية الأولى نستخلصها من كتاب الصبّاغوهي تنزيل هذا النّظام ضمن مفهوم الجهاد من
المنظور الإخوانيّ الّذي يختزله قول حسن البنّا مؤسّس الجماعة أنّ «الأمر أصبح جدّا لا هزلا، وأنّ الخطب والأقوال ما عادت تجدي، وأنّه لا بدّ من الجمع بين الإيمان العميق والتكوين الدقيق والعمل المتواصل »‹. والحقيقة، إنّ المتابع لسيرة النّظام الخاصّ الإخوانيّ، ومنذ مرحلة مبكّرة من تاريخه، يدرك أنّ المراد بهذا الجهاز المصطبغ بطابع السريّة لا يتوقّف عند تكوين أعضائه وتدريبهم وإعدادهم روحيّا ورياضيّا وعسكريّا فقط، بل الانتقال بهم إلى مرحلة التنفيذ بعد أن يكونوا قد تهيّؤوا تبعا لنظام البيعة القائم على السمع والطاعة أي «على امتثال الأمر وإنفاذه توّا في العسر واليسر والمنشط والمكره » مثلما نصّ عليه تعريف البنّا للطاعة في رسالة التعاليم.
وبناء على ذلك تحدّدت أهميّة هذا التنظيم، فأفراده عند البنّا «هم التعداد الحقيقي للإخوان المسلمين »، و «هم يحظون باهتمامه الكامل وأولويته المطلقة في الإعداد والتربية والمتابعة ،» بحسب ما ذكر علي عشماوي. وأمّا الخاصيّة الثانية فتتمثّل في أنّ بين خطط الجهاز السريّ الإخوانيّ دسّ بعض أفراد الجماعة في التنظيمات الأخرى بغية معرفة أسرارها، والاعتماد على جهاز مخابرات إذ يقول عشماوي «يولع الإخوان دائماً بجمع المعلومات والتجسّس
على الآخرين، وهم يفخرون دائماً أنّ لديهم جهاز مخابرات قادر على جمع وتحليل المعلومات، فهم يتجسّسون على كلّ شيء، على الأحزاب والهيئات، والحكومات، بل على الأجهزة، وكلّ فرد في موقعه جاسوس لحساب الجماعة، فكلّ موظف وكلّ عامل يرسل باستمرار بأسرار وظيفته أو عمله إلى قيادة
الجماعة، بل كلّ ضابط وكلّ شرطيّ يقوم بنفس العمل لحساب قيادته داخل الجماعة .»
وتبعا لهاتين الخاصيّتين اللّتين كانتا بمثابة المبادئ التي سيّت النّظام الخاص لجماعة الإخوان وحكمت عقيدة قيادته وأفراده، صدرت عن هذا الجهاز جملة من الأعمال والممارسات المطبوعة بطابع العنف تجاه الخصوم في الساحة السياسيّة المصريّة. وقد شهدت حقبة الخمسينات مثلما هو معلوم تحوّلا سياسيّا بإطاحة تنظيم الضبّاط الأحرار بالنّظام الملكيّ في مصر فيما عُرف بثورة 23 جويلية 1952 .
عنف النّظام الخاصّ في الأربعينات
إبّان الحكم الملكيّ سجّل النّظام الخاصّ الإخوانيّ حضوره في الساحة السياسيّة المصريّة بتدبير عمليات اغتيال ضدّ الخصوم السياسيين للجماعة مدشّنا بذلك مرحلة جديدة من الممارسة السياسيّة قائمة على العنف. ومن أشهر عمليات الاغتيال نذكر: يعود أوّل استخدام للعنف في سجلّ جماعة
الإخوان إلى اغتيال أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء المصري في 24 فيفري 1945 على يد محمود العيسوي.
وتلاه اغتيال القاضي أحمد الخازندار، وهو القاضي الذي كان ينظر في قضيّة سينما مترو التي اتّهم فيها الإخوان، في 22 مارس 1948 على يد حسن عبد الحافظ ومحمود زينهم.
وفي 28 ديسمبر 1948 دبّر عناصر من النّظام الخاص من بينهم عبد المجيد أحمد حسن اغتيال محمود فهمي النقراشي رئيس الوزراء المصري.
ويستوقفنا في كتاب الصبّاغ القراءة التي قدّمها لحدث الاغتيال النقراشي، وهي قراءة لا فقط تبريريّة وتضفي المشروعيّة عليه، بل هي أيضا قراءة تمجيديّة. فقد نزّل الاغتيال في سياق الردّ على القرار الحكوميّ بحلّ جماعة الإخوان، وهو قرار لا فقط جائر يحرم المصريين ممّا تدعو إليه جماعة الإخوان، وإنّما من وقّعه «محارب غادرللإسلام والمسلمين » أيضا. وبذلك يتنزّل الاغتيال في إطار «قتل المحاربين للإسلام » باعتباره «فرض عين على كلّ مسلم ومسلمة » وهو شكل من أشكال «العبادة » و «قدر محتوم لكلّ من يتحدّى إرادة الشعوب وعقائد المخلصين ». ورغم أنّ الصبّاغ أشاد بهذا العمل إلاّ أنّه وضعه في خانة الأعمال الفرديّة النّابعة من إحساس شابّ غلت الدّماء في عروقه من الظلم ولم تكن بتوجيه أو أمر من القيادة. وفي الحقيقة إنّ المتابع لسيرة الإخوان عبر التاريخ سواء في مصر أو في غيرها يلاحظ أنّهم غالبا ما يعتبرون أعمال العنف الصادرة عن أعضائهم أعمالا فردية لا تتحمّل الجماعة مسؤوليتها فضلا عن العمل على تبريرها من خلال اتّباع الطريقة نفسها وهي ادّعاء المظلوميّة.
وبمثل هذا المنطق التبريريّ يعمد الصبّاغ إلى شرعنة ما قام به بعض شباب الإخوان من النّظام الخاصّ ويذكر من بينهم شفيق أنس من محاولة
إحراق خزانة وثائق سيارة الجيب، تلك الحادثة التي أشارت إليها الأستاذة نائلة السليني في المقال السابق.
تبيّ هذه الحوادث أنّنا إزاء جماعة أسّست جهازا سرّيا مدرّبا تدريبا عسكريّا على القيام بأعمال عنف من قتل واغتيال وتدمير وتفجير، وهذا الجهاز مكلَّف بتنفيذ مثل هذه الأعمال دفاعا عن الجماعة متى واجهت أوضاعا تهدّدها. فهي إذن لا تدافع عن نفسها باستعمال الوسائل القانونيّة السلميّة المتاحة لها ولغيرها من الحركات متى رأت أنّها تعرّضت إلى ظلم، ولكنّها تلجأ إلى الردّ باستعمال العنف بواسطة هذا الجهاز السريّ الّذي لا يتوانى عن استعمال العنف الموجّه نحو لا المسؤولين الرسميين في الدولة المصريّة فحسب، وإنّما نحو مؤسّساتها وعموم النّاس أيضا.
عنف النّظام الخاصّ في الخمسينات والستينات إبّان حكم عبد الناصر
قبل أن نخوض في الصراع الّذي دار بين الجماعة والنظام المصري الجديد آنذاك نلفت انتباه القارئ إلى أنّ عنف النّظام الخاص لم يقتصر على من تعتبرهم الجماعة أعداءها فقط بل شمل أعضاء من التنظيم نفسه، وأهمّ عمليّة كانت اغتيال سيّد فايز في 19 نوفمبر 1953 بواسطة علبة متفجّرة سُلّمت إليه على أساس أنّها صندوق حلوى هدية بمناسبة عيد المولد النبويّ وما إن فتحها حتى انفجرت في وجهه وقُتل هو وشقيقه.
وقد اتّهم عبد الرحمن السندي قائد النّظام الخاص حينها بتدبير الحادث في إطار عمليّة تصفية داخليّة بين الأجنحة المتصارعة داخل التنظيم. تواترت الشهادات من قيادات الإخوان على أنّ جمال عبد الناصر كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين، بل يذهب عشماوي إلى القول بأنّ «رجال الثورة من الإخوان، وأنّهم يأتمرون بأمر المرشد العام »، وقد انتظم شباب الإخوان في المعسكرات التي شكّلها ضباط الثورة في المدن. ولكن سرعان ما انقلبت العلاقة بين الطرفين لأسباب، يقول عشماوي، إنّها تتعلّق في الظاهر بالخلاف بينهما حول مفاوضات الجلاء مع البريطانيين، وبفقدان الإخوان السيطرة على رجال الثورة الّذين «تنكّروا لبيعتهم مع الجماعة واتّفاقهم معها » في الباطن.
ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى فترتين: فترة المواجهة الأولى في الخمسينات: وقد بدأت بوادر التوتّر في المظاهرات التي سعى من خلالها الإخوان إلى إظهار قوّتهم وإحراج النّظام، وقد «اتّخذوا قرارا بالمواجهة والتصادم معه » معتبرين أنّهم في «معركة مصيريّة مع رجال الحكم العسكريّ الّذين تنكّروا لقيادتهم وأداروا ظهورهم لبيعتهم ،»وفي الحقيقة لم تكن القوّة عدديّة فقط بل كانت قوّة سلاح.
وأعدّ الإخوان خطّة الصدام وهي تقوم على خمسة تحرّكات ذكرها عشماوي على النحو التالي: 1- تحييد الجيش بواسطة العناصر الإخوانيّة المدسوسة فيه، والقبض على الشخصيات المهمّة وإن تعذّر ذلك اغتيالهم، والاستيلاء على أقسام البوليس والمباني المهمّة في الأقاليم، ومساعدة المجموعات الوافدة على القاهرة الإخوان على الاستيلاء على المباني الحكوميّة وقد كانت محدّدة بدقّة، وقيام الطلابّ بمظاهرة ضخمة ومسلّحة تحاصر القصر الجمهوري وتستولي عليه.
ولك أيّها القارئ أن تقارن هذه الخطّة بما ذكره المنصف بن سالم في مذكرّاته وترصد نقاط التشابه بينها وبين الخطّة التي أعدّتها ما سمّاها بمجموعة «الإنقاذ الوطني » للانقلاب على النّظام في 8 نوفمبر 1987 .
وتمثّل حادثة المنشية في الإسكندرية في عام 1954 التي تعرّض فيها جمال عبد النّاصر أوج مراحل الصّدام بين النّظام وجماعة الإخوان، وقد انكشفت من خلال ردّة فعل النّظام مظاهر الارتباك والشعور بالرعب لدى جماعة الإخوان. وفي أعقاب هذه المواجهة الأولى انقسم الإخوان إلى قسمين
في علاقتهم بالحكومة؛ قسم دعا إلى الاتصال بها وتصفية الخلاف معها وقسم رفض ذلك، وقد آل الصراع بينهما إلى معركة جرح فيها بعضهم.
فترة المواجهة الثانية في الستينات: بعد الإفراج عن الإخوان وخروجهم من المعتقلات منذ سنة 1956 ، استعاد النّظام الخاص نشاطه بالتدريب والإعداد الروحيّ والرياضيّ والعسكريّ، والبحث عن مصادر تمويله (إنشاء مؤسسات تجاريّة، تبرّعات الأعضاء في الداخل والخارج، تمويلات خارجيّة) وتوفير الأسلحة والمتفجّرات والمفرقعات من داخل البلاد وخارجها إلى أن تمّ الأمر في سنة 1962 . وقد كان العامل المميّز لتكوّن التنظيم في هذه المرحلة هو التأثّر بفكر سيّد قطب القائم أساسا على المفاصلة مع المجتمع والنّظام، وتطارح الإخوان خطّة تقوم على التخلّص من عبد النّاصر واغتيال شخصيّات مؤثّرة في الحكومة المصرية، وتخريب المنشآت مثل مبنى الإذاعة والتلفزيون ومحطّات الكهرباء.
وتصاعدت أجواء التوتّر بين التنظيم والحكومة المصريّة، واللاّفت فيما يرويه علي عشماوي أنّ سيّد قطب كان يؤكّد على قرب الصدام بالاستناد إلى معلومات تأتيه من مكتب المشير عبد الحكيم عامر، وهو ما يطرح أسئلة حول علاقة سيّد قطب بالمشير في تلك الفترة. ويبدو أنّ النّظام المصريّ قد بادر إلى
هذا الصّدام من خلال شنّ حملة اعتقالات كبيرة تمكّن خلالها من القبض على قادة التنظيم الخاصّ، ومحاكمتهم، تلك المحاكمة التي انتهت بإعدام سيّد
قطب ومحمّد يوسف حواش وعبد الفتاح إسماعيل.
وبذلك أقفل الستار على هذه المرحلة الثانية من المواجهة بين التنظيم الخاصّ لجماعة الإخوان والنّظام المصريّ بقيادة عبد النّاصر، وبلغ الأمر بالإخوان في صراعهم معه إلى حدّ التشفّي منه بعد هزيمة جوان 1967 إذ اعتبرها محمود الصبّاغ «آية من الآيات الدالّة على عظمة الخالق ولطيف عنايته .»
لقد استعرضنا جملة من الأحداث التي تكشف طابع النّظام الخاصّ الإخوانيّ الصداميّ وأنّه ذراع الجماعة المسلّح لممارسة العنف ضدّ الخصوم ولمواجهة النّظام الحاكم طيلة الفترة الممتدّة من الأربعينات إلى الستينات، ولكن يبدو أنّ قادة هذا النّظام كانوا يبالغون في تقدير قوّتهم فوجدوا أنفسهم يخوضون مواجهات غير متكافئة ما أدّى إلى اعتقالهم ومحاكمتهم. وبعد الستينات ستبدأ مرحلة جديدة تشكّلت فيها معالم تنظيمات جديدة اتّخذت بعدا أكثر تطرّفا في الفكر وأكثر عنفا في الممارسة، لاسيّما بعد ظهور حركات إسلامويّة في بلدان عربيّة أخرى متأثّرة لا بالإيديولوجيا الإخوانيّة فقط وإنّما بأساليب الإخوان في العمل التنظيميّ وأهمّها تكوين جهاز سريّ خاصّ.