الشارع المغاربي : عودة على بدء جرائم الترهيب والتكفير!. هذا باختزال شديد ما جدّ، على امتداد الأسبوع الماضي، من تداعيات بشأن القضيّة المُسمّاة بـ”مدرسة” الرقاب. صحفيّون كدّوا وجدّوا للقيام بواجبهم المهني وكشف أحد الجوانب الأكثر قتامة لجحر سوس التطرّف، والنتيجة حملة منهجيّة لتكفيرهم والتهديد المعلن باستهدافهم جسديّا. وفي المقابل صمت مريع لمن يُفترضُ أن يكونوا أوّل حماة تطبيق القانون!.
لن نتطرّق، في هذا الحيّز، لملابسات معقل التطرّف المعشّش على مشارف مدينة الرقاب. فقد أسال المعسكر المسمّى زيفا بـ”المدرسة” دفقا من الحبر وسيلا من الكلام على مختلف المحامل. وجه آخر لهذه القضيّة لا يقلّ خطورة، ويخصّ عودة وباء التكفير. هذه الممارسة الإجراميّة دستوريّا وقانونيا استهدفت هذه المرّة تحديدا العديد من الصحفيّين والصحفيّات. فقد عمد جموع المتطرّفين ومريدوهم وأنصارهم إلى تحويل وجهة النقاش العام من جوانب جزائيّة تتعلّق بالتجاوزات القانونيّة والجرائم الخطرة كالاستغلال الجنسي للأطفال وانتهاك كرامتهم والمتاجرة بالبشر وتغذيّة التطرّف إلى حملة شعواء لا تكتفي فقط بتشويه الصحفيّين الذي أدلوا بدلوهم في هذه القضيّة، وإنّما تتعمّد التحريض عليهم وتكفيرهم والتهديد باستهدافهم شخصيّا، على غرار حمزة البلومي ومحمد شريف حواص ومنير الهاني…
عدنا في تونس إذن إلى المربّع الخبيث الأوّل، فتصارخ المتطرّفون “وإسلاماه”، وروّجوا لكون القضيّة لا تخرج عن شنّ حرب على القرآن والإسلام، وكأنّ الإسلام الذي توسّع وصمد خمسة عشر قرنا مهدّد بالزوال اليوم قبل الغد!. وإمعانا في التهديد والترهيب، أقدموا على تكفير من أعدّوا التقرير الصحفي المتّصل بمعسكر الرقاب وكشف المعطيات الشخصيّة لعدد منهم. كما لم يتوقّفوا عند هؤلاء، بل استهدفوا كلّ من شهّر بممارساتهم الموسومة بالإرهاب في صريح نصّ القانون. وبلغ الأمر درجة امتناع أحد الصحفيّين بسيدي بوزيد عن مغادرة بيته ليلا خشية الانتقال من مستوى التهديد إلى الانتقام. فقد نشر إمام متطرّف بالمنطقة تدوينة على موقع “فايسبوك” مرفقة بصورة تحريضيّة له مع مقدّم البرنامج التلفزيوني ذي الصلة. الصحفيّة إيمان حمدي تعرّضت بدورها للتكفير والتهديد بذبحها وتقطيع أوصالها، ووُجّهت إليها صورة رهيبة في هذا الصدد مع رسالة تهديد بالتصفية مكتملة الأوصاف الدمويّة.
والسؤال المطروح: هل حوسب أصحاب هذا الخطاب التحريضي المعلن ورسائل التهديد البيّنة؟!، والحال أنّه كان يُفترض إيقافهم فورا عن بثّ سمومهم وفتح أبحاث تحقيقيّة بشأنهم في انتظار استكمال الإجراءات القانونيّة إزاءهم. النقابة الوطنيّة للصحفيّين التونسيّين قالت في بيان موثّق أصدرته للغرض: “الحملة تواصلت ضدّ كلّ الصحفيّين الذين كان لهم موقف نقدي للمدرسة غير القانونيّة عبر السبّ والشتم والاتهام بمعاداة الدروس الدينيّة وصلت بعض الأحيان حدّ التكفير”. لماذا تناست مؤسّسات الدولة الفصل السادس من الدستور؟!، وهل تجهل أنّ في تكفير الصحفيين تكفيرا للصحافة ولحريّة التعبير، وأنّ في ذلك إعدامًا للشرط الأوّل لأيّ نظام ديمقراطي؟!.
لا ريب أنّ ترك الحابل على الغارب سيجعل من عودة حملة الترهيب والتكفير مجرّد تمهيد لما هو أسوأ، ولا نستغرب عندها أن يطال أصابع هذا الوحش سائر المثقفين وأصحاب الرأي وكلّ من يجرؤ على كشف الحقيقة البشعة لهؤلاء. فلا تجعلوا أنفسكم بالصمت عن تكفير الصحفيّين ذاك الثور الأسود الذي صرخ بين أنياب مفترسه نادما: “أُكِلتُ يوم أكلَ الثور الأبيض”.
تساؤلات خطيرة يطرحها اليوم الجسم الصحفي في تونس، وأوّلها عدم فهم مبرّرات ما يُروج عن وجود تضييق أمني على الصحفيّين الذي عملوا بشأن قضيّة الرقاب. فمن المفارقات أنّ القوّات الحاملة السلاح في تونس هي أولى ضحايا الإرهاب إحصائيّا. ومن ثمّة يبدو غير منطلقيّ التستّر على أمثال هؤلاء المتطرّفين الذين يصفون حماة البلاد بـ”الطواغيت”، إلاّ في حال وجود رهانات ومصالح غامضة ومشبوهة!…
ينبغي إذن أن نبحث عمّن له مصلحة في عدم تطبيق القانون ضدّ من يُمارس جرائم التكفير وإتاحة الفرصة مجدّدا لتقسيم التونسيين. فما يجري قد لا يكون بمعزل عن بداية الاستعدادات للاستحقاقات الانتخابية لنهاية العام الجاري. وليس علينا أن نناشد النيابة العموميّة كي تتحرّك سريعا، ذلك أنّ تطبيق القانون من صميم عملها ومن أمسّ واجباتها. وحريّ بها، قبل كلّ شيء، أن تُثبت بإعمالها للقانون أنّها لا تخضع لا لضغوط جهات سياسيّة أو حزبيّة مّا، ولا لمزايدات أيّ كان. فحين لا يُطبّق القانون ضدّ من يُحرّم التفكير ويُمارس التكفير يُصبح الدستور بمثابة حبرٍ سريّ لا تُرى مضامينه ولا يُعمل بها إطلاقا!.