الشارع المغاربي: في تصريح له نشرته صحيفة “لابراس” يوم 3 جوان الجاري قال رئيس الحكومة يوسف الشاهد : “كان لنا جيش تنحصر مهمته في تنظيم عرض عسكري كل يوم 20 مارس لا غير“.
كلام لم يستسغه الجنرال المتقاعد محمد الهادي بن حسين الذي لم يدع الفرصة تمر دون الرد على رئيس الحكومة عبر رسالة مفتوحة حررها بالفرنسية وترجمت أسبوعية “الشارع المغاربي” أهم فقراتها خاصة أنها جاءت بقلم جنرال شغل خلال حياته المهنية بالجيش عدة مناصب منها مدير عام الأمن العسكري (1988 – 1990) ورئيس أركان جيش البر (1990 – 2001) ومدير عام الأمن الوطني (2002 – 2005) وقائد الوحدات التونسية خلال حرب 1973 بصحراء سيناء. وفي ما يلي مقتطفات مطولة من رسالة الجنرال بن حسين الى يوسف الشاهد.
“أولا تقبلوا تحياتي وأعمق عبارات الاحترام التي تفرضها المهمات المنوطة بعهدتكم الى جانب أخلص عبارات الأماني لك بالتوفيق لما فيه مصلحة بلادنا.
أما بعد، فبعد 44 سنة قضيتها في الجيش الوطني منها حوالي 12 سنة أمضيتها في خطة رئيس أركان جيش البرّ، أرى لزاما عليّ أخلاقيا أن أتوجه لكم بكل احترام بهذه الرسالة اثر تصريح لكم نشرته صحيفة “لابراس” بتاريخ 3 جوان الجاري قلتم فيه : «كان لنا جيش تنحصر مهمته في اقامة عرض عسكري كل يوم 20 مارس لا غير».
يمكن قبول كلامكم على أنه مزحة أو ربما زلة لسان ولكن مع ذلك اعتبر أن هناك ضرورة للتوقف عنده.
فقد جاء تصريحكم في شهر جوان الذي تحيي خلاله تونس كل عام ذكرى تأسيس الجيش الوطني.
لذلك أرى أنه من واجبي اخلاصا للذين كان لي شرف قيادتهم للدفاع عن البلاد ومنهم من ضحوا بحياتهم في سبيل ذلك، ووفاء لذكرى العديد من زملاء السلاح الذين استشهدوا في سبيل نفس القضية منذ الاستقلال أقول لكم بكل احترام : “لقد أخطأت“.
ذلك أن هناك معطيات لا جدال فيها تتعلق بنشاطات وبمهمات الجيش يبدو للأسف أنها غائبة عن ذهنكم.
وبالنظر الى وطنيتكم المثالية وعنايتكم بالجيش الوطني ما كان لكم أن ترتكبوا مظلمة ضد ابناء هذه المؤسسة لو كنتم ملمّين بكل ما قدموا من تضحيات في سبيل الوطن بكل اخلاص وتفان.
لقد كان كلامكم عن ماضي الجيش ولهذا سينحصر ردّي تحديدا على الماضي وخاصة الماضي القريب… فأنا أترفع عن الحديث عن الحاضر ولا حتى الحكم عليه يقودني في ذلك واجب التحفظ طالما لم أتلق دعوة رسمية للحديث عنه. لذلك لن يتخطى كلامي ما أعرف عن جيشنا الوطني وما عشت فيه والواجبات التي أديتها بهذه المؤسسة.
وقبل ذلك وفي ما يتعلق بالعروض العسكرية لا بدّ من الاشارة الى أنها بعيدة كل البعد عن أن تكون مجرد نشاط طفيلي أو ثانوي اذ أنها تعد من التقاليد العريقة في جيوش العالم وتمثل موعد لقاء ثابتا بين الأمة والجيش. وكبريات دول العالم مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا والصين والقوى النووية لا تفوت فرصة تنظيمها كل عام بكل أبّهة بمناسبة أعيادها الوطنية. ويساهم العرض العسكري بوصفه استعراض قوة في تدعيم روابط الانسجام وشعور الافتخار بالانتماء للوطن في صفوف الشباب الى جانب ما يحمل من معنى الردع بالنسبة للاعداء.
وفي ما يتعلق بجيشنا فقد نظم منذ انشائه قبل 61 عاما اربعة استعراضات تمت في مناسبات غير منتظمة كان آخرها بحدائق البحيرة منذ 20 سنة وتحديدا يوم 20 جوان 1997.
ومنذ تأسيسه تمركز الجيش الوطني على الحدود وبجنوب البلاد تجسيدا للسيادة الوطنية. وقد حمى الحدود الغربية خلال حرب التحرير التي خاضتها الجزائر الشقيقة وتصدّى لتوغلات الجيش الفرنسي لدى ملاحقته المجاهدين الجزائريين المتمركزين بالاراضي التونسية وكانت الغارات الجوية الفرنسية ومختلف الحماقات التي أتاها عساكر فرنسا في حق مواقع جيشنا والمدنيين.
ومن الملاحم الخالدة لجيشنا الوطني معارك رمادة ووادي دكوك وتطاوين ومعركة بنزرت والتي استبسل خلالها جنودنا أمام عدو يفوقنا عددا وعدة وخبرة رغم الخسائر الهامة في الارواح التي تكبّدوها.
وخلال السبعينات وقفت المؤسسة العسكرية في وجه تهديدات وعربدة جيش القذافي. كما قادت عملية واسعة النطاق في شهر جانفي 1980 أخمدت خلالها هجوما ارهابيا في قفصة وتصدت لمجموعة مسلحة تسللت من الخارج في محاولة لاسقاط النظام. وخلال التسعينات أو ما يعرف بـ “العشرية السوداء” في الجزائر كان جيشنا دائما على أهبة الاستعداد وتمكن بالتنسيق مع قوات الامن الداخلي القديرة من تأمين حدود الوطن برا وبحرا وجوّا ومنع تسلل المجموعات الارهابية التي كان الجيش الجزائري يطاردها بلا هوادة.
وقد تواصل هذا المجهود أكثر من 10 سنوات الشيء الذي منع الارهابيين من موطئ قدم ببلادنا. ففي أية حالة كانت تونس ستكون لو نجحوا في التمكن من مواقع ببلادها ؟
لقد كان تكوين وتدريب وحداتنا العسكرية يتمّان حصرا على أيدي ضباط وضباط صف تونسيين. كما كان جيشنا يشارك في مناورات وتدريبات مع جيوش دول صديقة مثل فرنسا والولايات المتحدة ولكن ذلك كان يتم في اطار تبادل التجارب في مجالات متفق عليها وخاصة في اطار التعامل مع احدث التقنيات العسكرية.
وفضلا عن ذلك شارك الجيش الوطني بكل شرف واقتدار منذ ستينات القرن الماضي في بعثات المحافظة على السلم تحت قيادة الأمم المتحدة مثلما كان الشأن في الكونغو وكمبوديا والصومال ورواندا وبورندي وجزر القمور والصحراء الغربية وجنوب افريقيا وهايتي. وطوال سنوات لم تغب الشمس عن راية العلم الوطني وهي ترفرف عاليا بين الأمم.
ولا يفوتني ان اذكر بأن جيشنا الوطني شارك خلال حرب أكتوبر 1973 بوحدات هامة الى جانب الجيش المصري في صحراء سيناء وقد انتزع سلوك وانضباط وحرفية عسكريينا احترام وتقدير القيادة العسكرية المصرية التي لم تتردد في منح وحداتنا العسكرية أعلى الأوسمة المصرية.
هذه سيدي رئيس الحكومة لمحة خاطفة عن مهمات أداها جيشنا الوطني. على أن هناك مهمات أخرى اضطلع بها بكل اخلاص وحماس ضباطنا وجنودنا البواسل وتتعلق خاصة بالمساهمة في جهود التنمية وحماية المحيط ومكافحة حرائق الغابات وانجاد المواطنين اثناء الكوارث الطبيعية وخاصة منها الفيضانات.
وقد كان الانسان وخاصة الشباب هو عماد هذه الملحمة المتواصلة بلا هوادة منذ الاستقلال…
الشباب الذي يمثل القوة الرئيسية لجيشنا… وقد كان بذكائه وولائه ووطنيته دائما في الموعد لرفع التحديات بكل شرف على خطى الاجيال التي سبقته بما جعله قادرا على تحقيق المعجزات.
ان لكل مرحلة من تاريخ بلادنا العسكري وظروفها وسياستها.
ولقد كان عمل العسكري دائما يتكيف مع سياسة رجل السياسة.
هكذا ترون سيادة رئيس الحكومة أن جيشنا كان أبعد ما يكون عن تسخير وجوده للعروض العسكرية. فقد كان دائما مشغولا رغم وسائله البشرية والمادية غير الكافية بالدفاع عن البلاد وضمان أمنها ونموّها.
ومع تمنياتي لك بالتوفيق في مهمتكم الثقيلة تقبلوا سيدي رئيس الحكومة كل عبارات التقدير والاحترام.
المجد لجيشنا الوطني.. عاشت تونس خالدة.”