الشارع المغاربي: البيان الختامي الصادر عن مجلس الشراكة التونسي الأوروبي المنعقد يوم 15 ماي 2018 لم يحد عن المألوف و لم يأت بجديد من حيث النتائج المتمخضة عنه وذلك رغم انعقاده في ظرفية تونسية داخلية بالغة الدقة والحساسية و في أعقاب سلسلة من الهزات التي مرت بها العلاقات التونسية الأوروبية نتيجة الإدراجات المتتالية لتونس بالقائمات السوداء الأوروبية.
والواقع أن التأزم الحاصل في العلاقة مع الاتحاد الأوروبي كان يعبر عن الانزعاج الأوروبي مما يعتبره تأخيرا غير مبرر للمفاوضات حول اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق وكذلك إبرام الاتفاق المنشود مع تونس حول ملف الهجرة السرية الحساس الذي يتصدر اهتمامات الجانب الأوروبي الأمنية في علاقاته بالضفة الجنوبية للمتوسط.
الإستراتيجية الأوروبية لتوسيع «التبادل الحر» مع تونس
يجدر التذكير في هذا الصدد بأن الجانب الأوروبي كان حريصا غداة الثورة على ضمان استمرارية السياسات الاقتصادية والخيارات الدبلوماسية التي تبناها النظام السابق كإطار للعلاقات مع الضفة الشمالية والقائمة على اتفاق الشراكة والتجارة الحرة للسلع الصناعية لسنة 1995 و مشروع التبادل الحر الموسع لكافة السلع والخدمات من خلال «الآليكا» باعتباره السبيل الأمثل للحفاظ على المصالح الغربية الأوروبية بتونس والمنطقة.
وفي هذا الإطار جاءت الإغراءات المقدمة لتونس من خلال قمة مجموعة السبع المنعقدة بدوفيل في ماي 2011 بهدف التسريع بإبرام الاتفاق مع الحكومات الأولى التي تولت السلطة بتونس وذلك للحيلولة دون تحول هذا الملف – و كذلك موضوع «الإصلاحات» و العلاقات مع المؤسسات المالية الدولية – إلى قضية رأي عام مع إبقائها خارج دائرة الحوار الوطني أثناء المواعيد الانتخابية الرئيسية.
ورغم تواطئ الحكومات المتعاقبة مع هذا المخطط، إلا فإن يقظة المجتمع المدني التونسي وبعض الحركات السياسية والنقابية المعروفة بتحفظها إزاء هذه السياسات، حالت دون تمريرها بصمت وبعيدا عن الأضواء الكاشفة لمخاطرها على تونس ومساسها بسيادتها واستقلالية قرارها فضلا عن إضرارها بمصالحنا الوطنية العليا وعدم مراعاتها لواقعنا الاقتصادي المتأزم ولمتطلباتنا التنموية.
وهذا ما يفسر تعثر المفاوضات التي انطلقت، بضغط شديد من الجانب الأوروبي، في أكتوبر 2015 على أساس وثيقة العمل الأوروبية و لكنها ظلت تراوح مكانها لما تواجهه من معارضة داخلية وبسبب عدم الاستقرار السياسي والحكومي وكذلك لعدم جاهزية الجانب الحكومي التونسي الذي لم يتوصل لوضع تصور وطني بديل لمستقبل العلاقات التونسية الأوروبية يحظى بإجماع وطني وبتفويض من السلطة التشريعية التونسية.
والملاحظ أن تونس طلبت رسميا – وفقا لما ورد في حديث صحفي لوزير الخارجية التونسي صادر في جويلية 2017 – خلال انعقاد مجلس الشراكة التونسية الأوروبية لسنة 2017 الخروج من سياسة الجوار الأوروبية و الدخول في حوار استراتيجي مع الجانب الأوروبي للتوصل إلى رؤية مشتركة لآفاق العلاقات المستقبلية في الأمدين المتوسط والبعيد. وقد بدا أن الجانب الأوروبي تجاوب مع هذا الطرح الذي تمت الإشارة إلية باقتضاب في البيان الختامي لمجلس الشراكة لهذا العام دون الكشف عن مضامينه و دون إدراجه ضمن الأولويات الإستراتيجية التي سيعمل الجانبان على تجسيدها خلال العامين القادمين.
برنامج العمل المشترك 2018 – 2020
يشير البيان ضمن « الأولويات الاستراتيجية» إلى تبني الجانب الأوروبي خارطة طريق وضعها مجلس الوزراء التونسي تتضمن التدابير ذات الطابع الاستراتيجي و التشريعي الضرورية لإحياء الحركية الاقتصادية والاجتماعية. كما يشير إلى زيارة مرتقبة لرئيس المفوضية الأوروبية إلى تونس خلال شهر جويلية القادم بدعوة من رئيس الجمهورية و كذلك لزيارة المفوض الأوروبي للجوار على رأس بعثة للمؤسسات المالية لبحث «الإصلاحات» الجارية بتونس وسبل دعمها.
و في نفس الإطار تمت الإشارة إلى أن اتفاق التبادل الحر الشامل والمعمق سيساهم في «تحديث الاقتصاد التونسي والإدماج الهيكلي لتونس في الفضاء الأوروبي» مضيفا أن الجانبين اتفقا على تسريع المفاوضات لإبرام الاتفاق « في أفضل الآجال» و كذلك الشأن بالنسبة لملف المفاوضات حول الهجرة السرية وتسهيل الهجرة النظامية الذي تقرر التسريع بإنهائه في اقرب الآجال باعتبار طابعه الأمني الملح.
وهكذا يتضح أن الحكومة التونسية – رغم ادعاءها بأنها تراعي مخاوف وانشغالات المجتمع المدني والاقتصادي والنقابي التونسي وتسعى مع الجانب الأوروبي لبلورة إطار استراتيجي جديد للتعاون والشراكة أكثر مراعاة لخصوصيات تونس الاقتصادية ومتطلباتها الأمنية و التنموية – فإنها تبدو غير قادرة على مقاومة الضغوط الأوروبية التي تدفع باتجاه تبني « الآليكا» بصيغتها الأوروبية وكذلك الاتفاق حول الهجرة السرية قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة حتى تتحول إلى أمر واقع غير قابل للنقاش أو التراجع عنه.
وبذلك تتنكر الحكومة والاتحاد الأوروبي أيضا للالتزامات التي اتخذاها على عاتقهما منذ الجولة الأولى للمفاوضات بتوخي الوضوح والشفافية وتوفير الوثائق والمستندات إلى المجتمع المدني بهدف إطلاعه على سير المباحثات وتشريكها فيها وصولا إلى بلورة الصيغة النهائية للاتفاق.
ملاحظات واستخلاصات
من الواضح أن الجانب الأوروبي يستغل الظرفية الصعبة والدقيقة التي تمر بها تونس لفرض أجنداته و شروطه عليها وهو نفس الأسلوب الذي توخاه منذ بداية الثورة بدعم من مجموعة السبع التي تنكرت لوعودها بتأمين الظروف السياسية والمساعدات المالية الميسرة لتونس وتمكينها من استرداد أموالها المنهوبة حتى يتسنى لها انجاز انتقالها السياسي والاقتصادي في ظروف سلسة وميسرة.
وعلى صعيد متصل تجدر الإشارة إلى الخطاب المزدوج الذي يتوخاه الاتحاد الأوروبي في تعامله مع تونس، وقد تجلى ذلك في البيان الصادر عن البرلمان الأوروبي في سبتمبر 2016 بمناسبة انطلاق المفاوضات حول « الآليكا» حيث دعا المفاوضون الأوروبيون إلى مراعاة التفاوت في مستويات التنمية والصعوبات المالية والاقتصادية التي تمر بها تونس.
كما تبنى البرلمان الأوروبي موقف المجتمع المدني التونسي المطالب بضرورة معالجة قضية المديونية كأولوية قصوى – لما تشكله من عبء وتقييد لاستقلالية القرار التونسي– مطالبا بضرورة احترام مجموعة السبع لما اتخذته في قمة دوفيل من التزامات مالية إزاء تونس.
لكن هذه التوصيات غير الملزمة، ظلت حبرا على ورق مما اضطر تونس مجددا للخضوع للشروط المجحفة وللقروض المشروطة لصندوق النقد الدولي التي تسوق على أنها «إصلاحات هيكلية» والحال أنها زادت في تعميق الأزمة المالية والاقتصادية حتى خرجت عن دائرة السيطرة، هذا فضلا عن كونها تلزم الحكومة باتخاذ تدابير مضرة بمصالح البلاد وتساهم في تأجيج الاحتقان الداخلي، من قبيل التفريط في المؤسسات العمومية، وهي تدرك أن هذا الملف خلافي ولا يمكن للحكومة البت فيه بمفردها.
وعلى ضوء الدروس المستخلصة من تجربة التعاون الطويلة مع المجموعة الأوروبية قبل الثورة و بعدها، يبدو من الحكمة و التبصر أن تتوخى الحكومة القادمة التي ستنبثق عن المشاورات الجارية حاليا موقفا حذرا ومتأنيا في معالجة هذا الملف المصيري بالنسبة لتونس مع مراعاة الاستحقاقات والمواعيد الانتخابية الكبرى المقبلة الرئاسية و التشريعية التي يفترض أن تكون مقدمة لإجراء حوار وطني حول القضايا و الملفات الإستراتيجية تمهيدا للتوافق بشأنها بعد الانتخابات.
وفي ذات السياق يجدر التذكير بفشل الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي انطلقت في إطار مسار برشلونة والتي كانت تعتمد رؤية شاملة لمستقبل العلاقات شمال جنوب لا تقتصر على الجانب التجاري بل تهدف إلى إرساء فضاء مشترك للسلم والأمن والتنمية المتبادلة تُراع فيه الحاجات الأمنية و التنموية للضفتين كمجموعتين متجانستين اقتصاديا و ثقافيا و حضاريا.
أما الآليكا فلا بد من التحذير من مخاطرها العديدة من حيث تجاهلها للانتماء العربي الإسلامي والمغاربي لتونس وسعيها لإدماج عمودي كلي للاقتصاد التونسي يخشى أن يتحول إلى تذويب للكيان التونسي في الفضاء الأوروبي الموسع مع إلزام بلادنا بالتخلي عن سيادتها التشريعية وهويتها الوطنية والإقليمية وجعلها تتبني القوانين الأوروبية المشتركة العابرة للحدود و المستمدة من منظومة «الحوكمة العالمية» التي لا تؤمن إلا بمنطق التجارة والأسواق ولا تيعر أي اهتمام لخصوصيات الدولة الوطنية الحضارية والاقتصادية ولا لحاجاتها التنموية الذاتية.
ومن ناحية أخرى يتعين على تونس أن تراعي التحولات الجغراسياسية الحاصلة في موازين القوة الدولية نتيجة أزمة العولمة الاقتصادية وفقدان الكتلة الغربية الزعامة العالمية أمام الدول الصاعدة مما انعكس سلبا على أوضاع الاتحاد الأوروبي الذي أضحى مفككا و مهددا حتى بالاندثار خاصة بعد خروج بريطانيا وتنامي النزعات الحمائية بعد الانتخابات الأمريكية وفي ظل تصاعد الانتقادات الموجهة للمؤسسات الأوروبية لطابعها غير الديمقراطي ولما تشكله من تهديد للحريات وللقيم الديمقراطية ولكيان الدولة الوطنية في أوروبا.
* سفير سابق باحث في القضايا الاستراتيجية