الشارع المغاربي : لقد نجحت الأحزاب التي تداولت على السلطة منذ جانفي 2011 إلى أواخر سنة 2017في تحييد المسألة الاقتصادية و الاجتماعية من المنافسة على السلطة في كلا المناسبتين الانتخابيتين التأسيسية منها في سنة 2011 و التشريعية و الرئاسية في سنة 2014 و ذلك رغم أهميّة هذه المسألة و دورها الأساسي في انفجار الثورة التونسية. حيث تمحورت الحملات الانتخابية حول موضوع الإسلام السياسي في علاقة مباشرةبحزب حركة النهضة و حول موضوع الحركة الحداثية المتصلة بالإرث البورقيبي الذي مثله حزب نداء تونس في سنة 2014.
لذلك و رغم هزالة البرامج الاقتصادية لكلا الحزبين التي طغى عليها الطابعالسردي و عدم الجدية حيث لم ينفذ منها شيئا يذكر فقد استطاع الطرفاناستقطاب أغلبية الناخبين حول طبيعة الحزبين الإسلامي و الحداثي و جعلا من التصويت الإيجابي “vote utile” لهذا الطرف أو ذاك الهدف الرئيسي للانتخابات مما مكن كلا الحزبين من الفوز بالمرتبة الأولى و الثانية في الانتخابات التشريعيةو الرئاسية لسنة 2014 في عملية لا تخلو من مكر سياسي خاصة إذا ما ربطنا هذه العملية بما تم الاتفاق عليه بين الشيخين في لقاء باريس الشهير في أوت 2012.
هذا التمحور حول هذا الموضوع همّش المسألة الاقتصادية و الاجتماعية و ما يتعلق بها من مسائل ذات أهمية قصوى تتعلق بالسيادة الوطنية و باستقلال القرار الوطني الذي أصبح رهينة لدى القوى الدولية و الإقليمية و لدى المؤسسات المالية التي تسيطر عليها هذه القوى مثل البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و البنك الأوروبي و البنك الإفريقي للتنمية و الوكالة الفرنسية للتنمية و غيرها.
وتأكيدا على ذلك نلاحظ أنه ما أن انتهت الانتخابات التشريعية و الرئاسية في سنة 2014 سرعان ما اكتشف الشعب التونسي أن الحزبين الأساسيين اتفقا على تقاسم السلطة في تناغم فاجئ الكثير من التونسيين من الطرفين و لكن في الحقيقة لم يفاجئ من كان متيقنا من طبيعة المواقف السياسية المتطابقة بين الحزبين و الموالية للقوى الغربية و لحلفائها الإقليمية التي تجسمت بموافقة الطرفين لدخول تونس في حلف الناتو بصفة شريك غير رسمي في خطوة أخرجت تونس من ثوابتها الدبلوماسية في التمسك بأدنى حد من الحيادية. كما أن هذا التناغم تجلى عبر طبيعة التوجهات الاقتصادية الموغلة في الليبرالية لهذين الحزبين الذين استسلما لهيمنة الاتحاد الأوروبي لرسم المسار التنموي في البلاد نحو مزيد الاندماج في إطار الخطة الإستراتيجية لهذه المجموعة الأوروبية التي ترمي إلى مزيد السيطرة على المنطقة الجنوبية للمتوسط في إطار صراع النفوذ للقوى العظمى في منطقتنا العربية.
تجري الرياح بما لا تشتهي السفن
رغم نجاح هذه الأطراف السياسية في التمركز في السلطة اثر الانتخابات التشريعية و الرئاسية لسنة 2014 غير أنها فشلت فشلا ذريعا على المستوى الاقتصادي و الاجتماعي في تحقيق تطلعات الشعب التونسي في الشغل و في العيش الكريم في وطن حر و منيع. حيث أن كل المؤشرات باتت واضحة و غير قابلة لأي منازع بل أصبح معترفا بها حتى في أعلى دوائر السلطة نفسها. لقد تجلى ذلك من خلال انهيار قيمة العملة الوطنية و من خلال ارتفاع نسبة المديونية و كذلك من خلال عجز المنوال الاقتصادي لخلق مواطن الشغل مما دفع بشبابنا بما فيه المثقف إلى هجرة مكثفة تستنزف طاقاتنا البشرية التي طالما راهن عليها الشعب التونسي بأسره منذ الاستقلال لبناء الوطن.
هذا الفشل أدى إلى ما وصل إليه اليوم الوضع الاجتماعي من تأزم وصل إلى حد التصادم الحاد بين السلطة و الأحزاب التي تساندها و بين المنظمة النقابية التي تطالب بحق الأجراء في الوظيفة العمومية بتعديل الأجور بالقدر الذي يسمح حفظ المقدرة الشرائية للمواطن التي تآكلت من جراء ارتفاع نسبة التضخم و غلاء المعيشة الناتج عن انهيار قيمة العملة الوطنية. غير أن هذه المطالب المشروعة تبين أنها لا تنال موافقة الاتحاد الأوروبي عبر ذراعه المالي صندوق النقد الدولي الذي يدعو كعادته إلى مزيد التقشف عبر الضغط على الأجور و الزيادة في نسبة الجباية ضمانا لتوفير الموارد المالية الضرورية لتسديد الديون و دفعا نحو مزيد خصخصة القطاع العام لصالح اللوبيات الداخلية و شركائها في الخارج. وهذا التوجه اصطفت حوله الحكومة و الأحزاب التي تساندها رغم تعسفها و رغم ما يحتمله من تدخل في الشؤون الداخلية لبلاد تعتبر حرة و مستقلة.
الأزمة الاقتصادية و الاجتماعية حسمت الصراع السياسي
من هذا المنطلق يمكن التأكيد أن ما يجري اليوم في إطار الصراع الثلاثي بين حزب حركة النهضة و بين رئيس الجمهورية و ما تبقى له من حزب نداء تونس و بين رئيس الحكومة الذي انطلق في المنافسة على السلطة و هو يستعد للإعلان عن حزبه السياسي لا يعدو أن يكون صراعا داخل نفس البيت الذي انخرط سياسيا في المشروع الغربي الأمريكي الأوروبي و الخليجي التركي و الذي يهدف إلى تحقيق صفقة القرن و التطبيع مع الكيان الصهيوني و تصفية القضية الفلسطينية. في هذا الإطار يمكن قراءة تعيين وزير السياحة الأخير بمباركة بين جميع الأطراف الثلاثة بصفتها رسالة مضمونة الوصول للقوى الخارجية المعنية. كما انخرطت اقتصاديا في إطار الليبرالية الموغلة التي تعتمد الدفاع عن مصالح اللوبيات الداخلية المترابطة مع المصالح الأوروبية و الذي يتجلى عبر الترخيص لمزيد انتشار العلامات التجارية الفرنسية في بلادنا رغم فداحة العجز التجاري للبلاد الذي فاق 29 مليار دينار في سنة 2018 و الذي أدى إلى مزيد انهيار العملة الوطنية و التي لا يبدو أنها تشغل بال الأطراف الثلاثة الماسكة بزمام السلطة في البلاد اليوم.
لذاك يبدو أن هذا الثلاثي بالإضافة إلى كل الأطراف التي تدور في فلكه سواء من القيادات السياسية التابعة للنظام السابق التي رجعت لسالف نشاطها و بدأت تحركها في الساحة السياسية من جديد أو من بعض السياسيين الذين تصدروا مراكز قيادية سواء اثر اندلاع الثورة في سنة2011 أو اثر الأزمة السياسية التي اندلعت اثر اغتيال الشهيدين شكري بلعيد و محمد البراهمي،كل هذه المجموعة تمركزت ضمن كتلة اختارت الانحياز للمصالح الأجنبية و تعمدت ارتهان البلاد سياسيا و اقتصاديا على حساب المصالح العليا للوطن و لعامة الشعب التونسي و على حساب السيادة الوطنية و استقلال القرار الوطني
السيادة الوطنية مسألة محورية لإصلاح الوضع الاقتصادي
لمزيد التوضيح حول هذا الموضوع الذي طالما كان من شبه الممنوعات الخوض فيه في بلادنا لابد من الرجوع إلى محتوى اتفاق الشراكة الموقع بين الجمهورية التونسية و الاتحاد الأوروبي في جويلية 1995.
حيث شمل هذا الاتفاق في جميع أبوابه و فصوله على جميع الميادين التي يتدخل بمقتضاها الاتحاد الأوروبي نذكر من أهمها تنظيم الحوار السياسي الذي يستوجب عقد اجتماعات دورية أو عند اقتضاء كل أمر. كذلك نذكر حرية الانتصاب و الخدمات التي تتم من الجانب الأوروبي بدون قيد و لا شرط بينما من الجانب التونسي تبقى رهينة التأشيرة الإجبارية. كما نص الاتفاق في الفصل 46 على إدماج التدخل في قطاع التربية و التكوين وهو ما يجري حاليا على قدم و ساق من طرف خبراء فرنسيين و الحال أن ميدان التربية و التكوين يعتبر ميدان سيادي بحت لا يقبل التدخل فيه من طرف أي بلد أجنبي و خاصة عندما يتعلق الأمر بتدخل بلد استعماري سابق بتونس. كذلك التدخل في المسألة البيئية كما تم في الفصل 49 إدماج حق الشركات الأوروبية في النفوذ للقروض من المصارف البنكية التونسية بينما كانت سابقا تعتمد على وسائلها الخاصة بحكم أنها معفية من الضرائب. كما شمل الفصل 51 اعتماد المواصفات الأوروبية في كل المجالات الخاصة بالجودة و بمعايير التطابق. كما شمل الفصل 52 على ضرورة تحوير التشريع التونسي ليتقارب من التشريع الأوروبي في كل المجالات التي احتواها هذا الاتفاق أي بعبارة واضحة جميع المجالات التربوية و الاقتصادية و المالية و الفلاحية و النقل إلى غير ذلك.
كما نص الاتفاق على ضرورة المرور نحو تحرير كل القطاعات المتبقية للمنافسة و في مقدمتها القطاع الفلاحي و الخدماتي وهي التي أصبحت اليوم محل مفاوضات ما عبر عنه الاتحاد الأوروبي بطريقة أحادية “اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمقة”.
بالتزامن مع هذه العملية الاندماجية الشاملة و السالبة للسيادة الوطنية و لاستقلالية القرار الوطني التي أقدم عليها الاتحاد الأوروبي لابد من التركيز على الممارسات التي أقدمت عليها المنظمات الأوروبية التي تغلغلت داخل الوزارات التونسية و داخل مفاصل كل الإدارات الوطنية نذكر من أهمها و أخطرها منظمة “GIZ ” التابعة للوكالة الألمانية للتعاون الدولي التي خولت لنفسها بتواطئ مع المسؤولين التونسيين فتح مكاتب خاصة بها داخل العديد من وزارتنا الوطنية و استباحت الولوج إلى كل المعلومات الخاصة بثرواتنا الطاقية و المنجمية و غيرها في وزارة الصناعة مثلا و في العديد من الوزارات الأخرى بدعوى إعانة و مساعدة السلطة و الإدارة التونسية المركزية و الجهوية في خرق فاضح لأبجديات السيادة الوطنية. هذه الوكالة الألمانية أصبحت تتصرف و تتدخل في الشأن الداخلي التونسي بدون مبالغة بصفة وكيل استعماري بأتم معنى الكلمة حيث تتواجد في كل مفاصل الدولة.
كما لا يسعنا و نحن نتحدث على السيادة الوطنية أن لا نذكر التجاوز الخطير الذي حصل في سنة 2014 حيث تم تكوين “الجنة التوجيهية للاقتصاد التونسي” “Comité de pilotage de l’économie tunisienne” داخل البنك المركزي التونسي و ذلك لصياغة برنامج اقتصادي للمدة 2016 – 2020. هذه اللجنة التي يترأسها محافظ البنك المركزي السابق تتكون بصفة رسمية من 16 عضوا من بينهم السفير الفرنسي السابق و المدير العام للخزينة العمومية الفرنسية (نعم و بالتأكيد) و كذلك مؤسسات تمثل لوبيات فرنسية من بينها “مؤسسة مرسيليا للبحر الأبيض المتوسط “”Marseille Méditerranée ” و فرعها التابع لها مباشرة الذي تأسس في تونس تحت اسم “تونس للبحر الأبيض المتوسط” . هذه اللجنة ترأسها محافظ البنك المركزي السابق و تتكون أيضا من وزير الاقتصاد و المالية آنذاك و من الوزير المستشار الاقتصادي لدى رئيس الحكومة مهدي جمعة و من المعهد العربي لرؤساء المؤسسات.
هذا الخرق الصارخ للسيادة الوطنية تجسده أيضا تدخل الجمعيات المدنية التي تنشط على قدم و ساق بصفتها لوبيات تعمل لصالح البلدان الأوروبية نذكر من بينها الجمعيات التابعة لأهم الأحزاب الألمانية و التي تسوق بدون هوادة لاتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق عبر تمويل الندوات الخاصة بهذا الموضوع. هذا الخرق الصارخ جعل سفراء البلدان الأوروبية و خاصة منهم السفير الفرنسي و الألماني يقومون بخرق صارخ للاتفاقية فينا المتعلقة بالعلاقات الدولية حيث استباحوا البلاد و مؤسساتها و بدون أي ردة فعل من السلط التونسية التي استسلمت للأمر الواقع.
لذلك نعتقد أن تمحور موقف المنظمة الشغيلة التي كانت و مازالت دائما في الصف الأول للذود و الدفاع عن السيادة الوطنية و استقلال القرار الوطني يعتبر بدون منازع خطوة كبرى نحو استرداد الحقوق لأهلها نعتقد أنه يجب أن تتكتل حول هذا الموقف كل القوى الوطنية الغيورة على استقلال و حرمة هذا الوطن.
صدر بالعدد الأخير من اسبوعية “الشارع المغاربي”.