الشارع المغاربي – الشرعيّة‭ ‬المهدورة/بقلم معز زيّود

الشرعيّة‭ ‬المهدورة/بقلم معز زيّود

قسم الأخبار

30 يوليو، 2022

الشارع المغاربي- الافتتاحية: لم‭ ‬يكن‭ ‬تمرير‭ ‬مشروع‭ ‬دستور‭ ‬الرئيس‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬مفاجئا‭ ‬لكلّ‭ ‬متبصّر‭ ‬ومدرك‭ ‬لخصوصيّات‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬التونسي‭. ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬النسبة‭ ‬الإجماليّة‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬استفتاء‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬جويلية‭ ‬لم‭ ‬تتجاوز‭ ‬حدود‭ ‬28‭ ‬بالمائة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يعني‭ ‬أنّ‭ ‬التونسيّين،‭ ‬في‭ ‬معظمهم،‭ ‬قرّروا‭ ‬مقاطعة‭ ‬الاستفتاء‭ ‬وحرموا‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬من‭ ‬شرعيّة‭ ‬شعبيّة‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬تباهى‭ ‬بها‭…‬ من‭ ‬المؤكّد‭ ‬أنّنا‭ ‬سنُمضي‭ ‬أيّاما‭ ‬وأسابيع‭ ‬وأشهر‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬تنظيم‭ ‬الانتخابات‭ ‬التشريعيّة،‭ ‬ونحن‭ ‬نستمع‭ ‬لاستطوانة‭ ‬مكرّرة،‭ ‬يملّ‭ ‬كلّ‭ ‬شخص‭ ‬سويّ‭ ‬نغماتها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يؤكد‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬عبرها‭ ‬على‭ ‬النجاح‭ ‬الهائل‭ ‬ومنقطع‭ ‬النظير‭ ‬للاستفتاء‭. ‬

تماما‭ ‬مثلما‭ ‬زعْمِه‭ ‬مرارا‭ ‬وتكرارا‭ ‬النجاح‭ ‬الباهر‭ ‬للاستشارة‭ ‬الإلكترونيّة،‭ ‬والحال‭ ‬أنّ‭ ‬تلك‭ ‬الاستئارة‭ ‬لم‭ ‬تلمس‭ ‬إلّا‭ ‬ما‭ ‬دون‭ ‬5‭ ‬بالمائة‭ ‬من‭ ‬التونسّيين‭.‬ لن‭ ‬نخوض‭ ‬كثيرا‭ ‬في‭ ‬مضمون‭ ‬الدستور‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬مرّره‭ ‬سعيّد‭ ‬بقوّة‭ ‬الأمر‭ ‬الواقع،‭ ‬فبصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬شتّى‭ ‬المراوغات‭ ‬والمناورات‭ ‬للالتفاف‭ ‬حول‭ ‬كنه‭ ‬المسمّيات‭ ‬الكبرى‭ ‬كالحوار‭ ‬الوطني‭ ‬الذي‭ ‬أفرغه‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬معنى،‭ ‬مستغفلا‭ ‬عددا‭ ‬من‭ ‬خبراء‭ ‬الحظوة‭ ‬المؤقتة،‭ ‬فإنّ‭ ‬الانطباع‭ ‬العام‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬أنّ‭ ‬الاستفتاء‭ ‬كالدستور‭ ‬برمّته‭ ‬ليس‭ ‬إلا‭ ‬ابتكارا‭ ‬من‭ ‬وإلى‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬نفسه‭. ‬والمقصود‭ ‬بذلك‭ ‬أنّ‭ ‬من‭ ‬شاركوا‭ ‬في‭ ‬الاستفتاء‭ ‬إنّما‭ ‬صوّتوا‭ ‬بـ‭”‬نعم‭” ‬اختيارًا‭ ‬لشخص‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬وليس‭ ‬قناعةً‭ ‬بمضامين‭ ‬مشروع‭ ‬الدستور‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬يمنح‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬صلاحيّات‭ ‬إمبراطوريّة‭.‬‭ ‬فعلى‭ ‬الأرجح‭ ‬أنّ‭ ‬معظم‭ ‬من‭ ‬اختاروا‭ ‬دستور‭ ‬سعيّد‭ ‬لم‭ ‬يطلعوا‭ ‬عليه‭. ‬وهي‭ ‬مهام‭ ‬تركوها‭ ‬لمقاطعي‭ ‬هذا‭ ‬الاستفتاء‭ ‬المتعجّل‭ ‬الذين‭ ‬تجاوزت‭ ‬نسبتهم‭ ‬عتبة‭ ‬73‭,‬46‭ ‬بالمائة‭.‬ وفي‭ ‬كلّ‭ ‬الأحوال،‭ ‬فوّت‭ ‬هذا‭ ‬الاستفتاء‭ ‬أهمّ‭ ‬قيمة‭ ‬رمزيّة‭ ‬طالما‭ ‬تمسّك‭ ‬بها‭ ‬رئيس‭ ‬البلاد‭ ‬في‭ ‬كلّ‭ ‬خطبه‭ ‬وتصريحاته،‭ ‬وهي‭ ‬أنّ‭ “‬الشرعيّة‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يريد‭”. ‬والحال‭ ‬أنّ‭ ‬حوالي‭ ‬ثلاثة‭ ‬أرباع‭ ‬هذا‭ “‬الشعب‭” ‬اختار‭ ‬أن‭ ‬يفعل‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬يوم‭ ‬25‭ ‬جويلية‭ ‬2022،‭ ‬إلّا‭ ‬التحوّل‭ ‬إلى‭ ‬مراكز‭ ‬الاقتراع‭ ‬العام‭ ‬للبتّ‭ ‬في‭ ‬أمر‭ ‬دستور‭ ‬جديد‭ ‬يُحدّد‭ ‬المعالم‭ ‬الأساسيّة‭ ‬لنظام‭ ‬بلادهم،‭ ‬المنحبسة‭ ‬آفاقها‭ ‬أصلا‭. ‬

إذن‭ ‬عن‭ ‬أيّة‭ ‬شرعيّة‭ ‬وأيّة‭ ‬مشروعيّة‭ ‬يتحدّث‭ ‬هؤلاء‭ ‬المتزلّفون‭ ‬في‭ ‬التلفزة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬عند‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬نسبة‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬الاستفتاء؟‭!‬،‭ ‬وكأنّهم‭ ‬يتكلّمون‭ ‬لغة‭ ‬أخرى‭ ‬لا‭ ‬يفهمها‭ ‬أصحاب‭ ‬العقل‭ ‬مطلقا‭.‬ وليس‭ ‬غريبا،‭ ‬في‭ ‬الحقيقة،‭ ‬أن‭ ‬تصطبغ‭ ‬كلّ‭ ‬مرحلة‭ ‬ببهلونيّيها‭ ‬الجدد‭ ‬من‭ ‬السياسيّين‭ ‬والخبراء‭ ‬المتسلّقين‭ ‬لعباءة‭ ‬صاحب‭ ‬السلطة‭ ‬مهما‭ ‬كان،‭ ‬دون‭ ‬اعتبار‭ ‬للحدّ‭ ‬الأدنى‭ ‬من‭ ‬المنطق‭ ‬والأخلاق‭. ‬فليلة‭ ‬أمس‭ ‬مثلا‭ ‬أمعن‭ ‬مدرّس‭ ‬القانون‭ ‬رابح‭ ‬الخرايفي،‭ ‬على‭ ‬منبر‭ ‬القناة‭ ‬الوطنيّة‭ ‬الأولى،‭ ‬في‭ ‬تلميع‭ ‬صورة‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهوريّة‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬وإنجازه‭ ‬الاستفتائي‭ ‬التاريخي‭ ‬والشرعيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬التي‭ ‬حازها‭. ‬وفي‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬لم‭ ‬يتوان‭ ‬عن‭ ‬تعميم‭ ‬شتمه‭ ‬للتونسيّين،‭ ‬قائلا‭ ‬حرفيّا‭ ‬وصراحة‭ ‬وبلا‭ ‬أدنى‭ ‬احتشام‭ ‬إنّ‭ “‬التونسي‭ ‬قذر‭”‬،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬توصيفه‭ ‬للمفارقات‭ ‬السلوكيّة‭ ‬لدى‭ ‬التونسيّين‭. ‬ووفق‭ ‬هذا‭ ‬المنطق‭ ‬التعميمي‭ ‬الأخرق،‭ ‬لا‭ ‬ندري‭ ‬كيف‭ ‬يمكن‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬شرعيّة‭ ‬شعبيّة‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬صادرة‭ ‬أصلا‭ ‬عن‭ ‬أشخاص‭ ‬قذرين‭ ‬وبلا‭ ‬أخلاق،‭ ‬قياسًا‭ ‬بقول‭ ‬أحد‭ ‬منظري‭ ‬شرعيّة‭ ‬التطبيل‭ ‬تحت‭ ‬مظلّة‭ ‬الخبير‭ ‬في‭ ‬القانون‭ ‬الدستوري‭. ‬ عموما‭ ‬لا‭ ‬يسعنا‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬نردّد‭ ‬المثل‭ ‬القائل‭ “‬شرّ‭ ‬البليّة‭ ‬ما‭ ‬يضحك‭” ‬ونحن‭ ‬نتابع‭ ‬المتحدّثين‭ ‬عن‭ ‬ملهاة‭ ‬هذه‭ ‬الشرعيّة‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يُذكّرنا‭ ‬بذاك‭ ‬المشهد‭ ‬المنتشر‭ ‬أمس‭ ‬بمناسبة‭ ‬حملة‭ ‬مناصرة‭ ‬الاستفتاء‭ ‬لشاحنة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ “‬ديماكس‭” ‬تحمل‭ ‬على‭ ‬متنها‭ ‬جمعا‭ ‬من‭ ‬النساء‭ ‬والرجال‭ ‬يغنون‭ “‬وعليك‭ ‬وهرة‭ ‬يا‭ ‬سعيّد‭”‬،‭ ‬وكأنّه‭ ‬بمثابة‭ ‬إعادة‭ ‬لمشهد‭ ‬الطبول‭ ‬والمزامير‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬رائجة‭ ‬كثيرا‭ ‬زمن‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬وحتى‭ ‬خلال‭ ‬بعض‭ ‬المواعيد‭ ‬الانتخابية‭ ‬بعد‭ ‬الثورة‭ ‬المطعونة‭. ‬لا‭ ‬فرق‭ ‬هنا‭ ‬بين‭ ‬نافخ‭ “‬الزُكرة‭” ‬المتطوّع‭ ‬البسيط‭ ‬وخبير‭ ‬القانون‭ ‬الدستوري‭ ‬الذي‭ ‬يُكلّف‭ ‬نفسه‭ ‬بإضفاء‭ ‬المشروعيّة‭ ‬والشرعيّة‭ ‬الشعبيّة‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تُفنّده‭ ‬الأرقام‭ ‬ولا‭ ‬يحتاج‭ ‬لتأويل‭ ‬المؤوّلين‭.‬

هكذا‭ ‬ترانا‭ ‬نحتفي‭ ‬اليوم‭ ‬بمرور‭ ‬عام‭ ‬بالضبط‭ ‬على‭ ‬إطلاق‭ ‬الرئيس‭ ‬قيس‭ ‬سعيّد‭ ‬وعود‭ ‬زبديّة‭ ‬بتغيير‭ ‬الأحوال‭ ‬الاجتماعيّة‭ ‬والاقتصاديّة‭ ‬البائسة‭ ‬للبلاد‭ ‬ومعظم‭ ‬شعبها‭. ‬حينها‭ ‬ابتهج‭ ‬الكثيرون‭ ‬لنجاح‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬افتكاك‭ ‬زمام‭ ‬المبادرة‭ ‬السياسيّة‭ ‬ووضع‭ ‬حدّ‭ ‬لحالة‭ ‬التهريج‭ ‬المستشري‭ ‬في‭ ‬البرلمان،‭ ‬والتحرّك‭ ‬في‭ ‬اللحظة‭ ‬الصفر‭ ‬لتفويت‭ ‬الفرصة‭ ‬على‭ ‬جماعة‭ ‬الإخوان‭ ‬في‭ ‬اقتسام‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التعويضات‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬التونسيّين‭. ‬وعود‭ ‬وانتظارات‭ ‬أخلف‭ ‬رئيس‭ ‬الدولة‭ ‬للأسف‭ ‬بأغلبها‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬اتساع‭ ‬الأزمة‭ ‬إلى‭ ‬كافّة‭ ‬الاتّجاهات‭ ‬والمجالات،‭ ‬باستثناء‭ ‬تجميع‭ ‬السلطات‭ ‬ومراكمة‭ ‬الصلاحيّات‭ ‬والانفراد‭ ‬بكافّة‭ ‬القرارات‭. ‬وفي‭ ‬الآن‭ ‬ذاته‭ ‬ادّعاء‭ ‬تقمّص‭ ‬شرعيّة‭ ‬شعبيّة‭ ‬أسقطتها‭ ‬مقاطعة‭ ‬معظم‭ ‬التونسيّين‭ ‬للاستفتاء‭ ‬المهدور‭ ‬يوم‭ ‬الأمس‭…‬

. نشرت بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ 26 جويلية 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING