الشارع المغاربي – الصادق‭ ‬بلعيد‭ ‬يقترح‭ ‬دعوة‭ ‬شخصيات‭ ‬وطنية‭ ‬محنّكة‭ ‬ونظيفة‭ ‬لتفعيل‭ ‬العقل‭ ‬"الابتكاري"‭ ‬التونسي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وضع‭ ‬سياسات‭ ‬مستقبلية‭ ‬للبلاد

الصادق‭ ‬بلعيد‭ ‬يقترح‭ ‬دعوة‭ ‬شخصيات‭ ‬وطنية‭ ‬محنّكة‭ ‬ونظيفة‭ ‬لتفعيل‭ ‬العقل‭ ‬”الابتكاري”‭ ‬التونسي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬وضع‭ ‬سياسات‭ ‬مستقبلية‭ ‬للبلاد

قسم الأخبار

11 أغسطس، 2022

الشارع المغاربي -بقلم العميد‭ ‬الصادق‭ ‬بلعيد:

-I-

ان التأمل في المشهد السياسي العام لا يدفع الى التفاؤل ولا حتى الى الاطمئنان:

إن الظروف التي نظم فيها ‘الاستفتاء من اجل جمهورية جديدة’ من شأنها ان تلقي شبهة عميقة على ‘شرعيته’ وعلى ‘مشروعيته’، أساسا: فمن جهة أولى، السؤال المطروح هو: هل يمكن اعتبار هذه العملية بالذات “استفتاء” بالمعنى الدقيق والمتداول عند الناس؟ 

يعرّف ‘الاستفتاء’ بكونه العملية الديمقراطية التي يعبّر فيها المواطنون عن ‘قبولهم’ (‘نعم’) او عن ‘رفضهم’ (‘لا’) لمشروع ما عرضه عليهم المشرع والتي تختم بالتصريح عن قبول ذلك المشروع او عن رفضه بأغلبية الأصوات لهذا او لذاك؛ وكما هو معلوم، فإن الصحة القانونية لهذه العملية مشروطة بواجب احترام المبادئ الديمقراطية مثل النزاهة والشفافية والمساواة بين الناخبين والرقابة المشددة على مختلف اطوار العملية، ونسبة المشاركة في التصويت والاستنكاف عنه، والاعلان عن النتائج الدقيقة للاقتراع، الخ.

إن هذا التعريف ليس معمولا به في أغلب دول العالم، بل وانه مقبول حرفيا في ‘مجلة الانتخابات والاستفتاء’ التونسية، التي تقول في الفصل 117: “تصرح الهيئة بقبول مشروع النص المعروض على الاستفتاء في صورة تحصل الإجابة بـ”نعم” على أغلبية الأصوات المصرح بها”.

إذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المعطيات والشروط القانونية والسياسية المعروفة، فإن السؤال الذي يتبادر الى الفكر هو: هل انه من الملائم سياسيا تنظيم مثل هذه الاستشارة الشعبية في الظروف الاستثنائية الحالية وحول موضوع سياسي حساس مثل الموضوع الدستوري، أي الموضوع الأعلى في سلم التشريعات والمشروعية؟   

الى جانب هذا السؤال المفصلي، هناك سؤال آخر لا يقل اهمية، يفرض نفسه:  هل من المقبول اعتبار هذه المبادرة  الرئاسية عملية ‘قانونية’ او مشروعة، خصوصا إذا نظرنا الى نتائج التصويت المعلنة عنها: فمن بين ما يتجاوز الـ 9.278.000 ملايين ناخب مسجلين على القائمات الانتخابية، لم يشارك في العملية الا 2.630.000 ناخب، أي فقط ما يقارب ربع عدد المسجلين، أي ما هو اقل بكثير من النصف من عددهم حسب المعايير المعمول بها في اغلب الدول الديمقراطية؛ بل وإن عدد المحجمين عن التصويت ومقاطعتهم الواسعة للعملية الانتخابية (6،5 مليون) ينبئ بوجود قطيعة أعمق بين الأغلبية الساحقة من الجسم الشعبي وبين المؤسسات السياسية الحالية؛

إن  هذا الاستفتاء، إذا اريد منه التعبير عن مساندة الشعب للنظام الحالي وللحالة الاستثنائية التي فرضها منذ 2021، او تجديد المشروعية الشعبية الحاصلة اثر الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، فإن ذلك ليس الا وهما عميقا ومغالطة واضحة؛ ذلك إن الماضي لن يأتي لنجدة الحاضر، وهذا الأخير سيكون غير قادر على تحقيق آمال المستقبل؛ وان هذه القطيعة توحي بان النظام الدستوري الجديد سيكون غير قادر، بمفرده ولوحده، على تلبية المطالب الشعبية المتراكمة منذ العديد من السنين؛ فالشرط السياسي الأساسي لذلك هو الخروج  من الانفرادية والتوحدية التي يبدو وكأنهما الميزة الخاصة للنظام السياسي الحالي، والتفتحُ على الفرقاء السياسية الأخرى في إطار حوار وطني صريح وبنّاء؛

وعلاوة على ذلك، فإن السلوكيات الرئاسية تحتوي على نقطة ضعف خطيرة تتمثل في اعتراف صاحبها بغياب مخطط مكرس للنهوض بالبلاد من الأزمة الخانقة الحالية؛ وهذه خاصية تميزت بها المنظومة السياسية منذ 2019 وأصرّ صاحبها على التمسك بها، بما يعني التغييب التام للبعد السياسي في نشاط الدولة وفي لأغلب أجهزتها؛

-II-

إذا كان موقف رئاسة الدولة كما وصف، فالسؤال المطروح الآن هو: ما هو موقف الفرقاء الآخرين، وهل هم او بعضهم مستعدون او قادرون على تحريك العجلة وعلى حلحلة الوضعية المتأزمة؟ – للجواب على هذه الأسئلة، لنسلط النظر على المنظمة الأكبر ثقلا وتأثيرا على الحياة السياسية في هذه البلاد، نعني “الاتحاد العام التونسي للشغل”؛

فلا جدال ان هذه المنظمة الشغيلة العريقة لعبت ولا زالت تلعب دورا رياديا في المشهد السياسي، خاصة وأنها تنفرد باللعب على حبلين – المهني والسياسي– كما إنها تنفرد باستعمال ‘حق الاضراب’ كوسيلة ضغط في الحالتين؛ فهذان السلاحان يجعلان من المؤسسة العمالية طرفا سياسيا مرموقا وفاعلا بالرغم من ان تحركاتها قد لا تخلو من بعض التناقض كما هي الحال في يومنا هذا: فمن جهة أولى، يعلن الاتحاد حاليا وفي آن واحد، عن عزمه على تفعيل ‘اضراب عام’ لم يحدد تاريخه، ومن جهة، فهو يعلن عن مناداته ببعث مشروع وطني مُوحد يُوحّد كل الفرقاء حول مشروع وطني بعيد عن الصراعات الأيدولوجية … ويوضع تحت زعامة عقل سياسي حكيم يوحّد نحو مشروع وطني موحد” (خطاب صفاقس، الجمعة 5 اوت)؛

وسؤالنا والحال كما وصفنا، فمَا هو اسهام المنظمة الشغيلة في العمل في الخروج من الازمة؟ – الجواب سيكون كالتالي: على غرار المؤسسات البيروقراطية، ترى المؤسسة العمالية تقوم ببعث “مبادرة في الحوار السياسي والاقتصادي والاجتماعي” وتقترح تكوين هيئة حكماء لأنشاء ميثاق وطني…”، وتراها تشدد في الشروط التي تطرحها كثمن مسبق للمشاركة في المفاوضات، بل وأنك تراها تحاول اشتراط اعتبار تلك المفوضات كآلية ‘تقريرية’ وليس ‘استشارية’ فقط، كما حصل ذلك في الأيام الأخيرة؛ 

-III-

بعد كل هذه الاعتبارات، يبدو من الضروري، او على الاقل، قد يكون من المفيد إعادة التفكير في الإطار المناسب لوضع خطة أكثر نجاعة مما سبق؛ لقد رأينا في الماضي القريب بعض الفرقاء إما يقومون بتقديم منظومة من صنعهم يرون فيها المنطلق الملائم لكل الحوارات حول اية سياسة تنموية، او ترى أطرافا آخرين يأتون بأقل من ذلك ويجدون في ‘التحاور’ مع الآخرين الفرصة السانحة لتبادل الأفكار والنظريات …؛

نحن لا نرى في مثل هذه اللقاءات – النموذج المعروف منها هو ‘حوارات قرطاج’ -، الا مضيعة للوقت؛ ولسائل ان يتساءل عن الأسباب التي كانت وراء ذلك الفشل؛ في رأينا، تلك الأسباب عديدة ومختلفة وقد يطول هنا شرحها؛ لكن، إذا أردنا اختزال الأمر، فإنه يرجع الى ما يلي: لقد كان من الأساسي التمييز بين ما سنسميه ‘العقل الابتكاري’، من جهة، وبين ‘العقل الفاعل’، من جهة اخرى؛ فإذا رجعنا الى التجارب المذكورة في الفقرات السابقة، فإن ما نلاحظه فيها، هو نزعة المسؤولين عنها الى الخلط بين العقل ‘الابتكاري’ والعقل ‘الفاعل’؛ لذا، نرى أن توخي الطريق العقلاني والفصل بين المقدرتين يكونان أفضل وسيلة لوضع أسس السياسة التنموية في البلاد؛ – ولنقدم فيما يلي تصورنا للمنهجية التنموية الجديدة؛

1 – المستوى ‘الابتكاري’: هو المستوى الأول والأهم باعتبار انه المستوى الذي يسود فيه العقل والتفكير الصحيح وتسود فيه القدرة الابتكارية والخلاقة، ويعمل فيه الخبير في كنف الاستقلالية والموضوعية الكاملتين؛ ومن الواضح ان هاته الشخصيات سيقع انتدابها من بين النخب المرموقة والمحنكة والمشهود لها بالنزاهة والوطنية؛

تتمثل العهدة المسندة الى هذه النخبة السامية في وضع تصور شامل لمستقبل البلاد وفي وضع الخطوط الكبرى للسياسات العامة للتنمية على المدى البعيد مع مراعاة متطلبات المدى القريب والمدى المتوسط؛

إن المسار المقترح هنا غير نادر، ولقد وقع اعتماده بنجاح في العديد من البلدان القريبة منا او البعيدة؛ وإن هذا المسار يفرض نفسه باعتبار مقتضيات العهد الحالي وتعقد الظروف المناخية العالمية التي نعيش فيها اليوم؛ 

وانا نجد في ما يلي تبريرا قويا لاعتماد المسار المقترح في هذه الورقة: فمن ناحية أولى، نحن لا ندع أي ثقة في الاشخاص الذين يتوهمون ان تركيم السلطة بين أيديهم سيكسبهم العلم والحكمة؛ بل انا نرى ان المسار المقترح هنا سيحد او سيقطع مع طبائع الذين، في العمل السياسي، لا يؤمنون الا بالانفرادية بالسلطة الى حد التوحد: ففي هاته الحال، لقد شهد بعضهم بكل صواب: “مهما كانت عبقرية وحكمة القائد السياسي فإنه لا يمكن له النجاح دون تأسيس وحدة وطنية صماء…” أي القبول المتواضع لرأي الغير…؛ وفي المقابل، نرى مخاطر عظيمة في استقواء البعض الآخر بالقوة الجماعية لفرض طلباتهم وافكارهم، مثال ذلك الافراط في استعمال ‘حق الاضراب’ او التهديد التكراري باللجوء اليه؛

2 – المستوى السياسي: إن الهدف من التمييز بين ‘العقل’ و’السياسة’ هو حماية منافع الاول من تجاوزات الثاني؛ و’السياسة’ هي الانانية والسيطرة على الجميع وعلى الكل بدون حدود؛ والمسار المقترح في هذه الورقة يهدف الى التخفيف من مضار السياسة؛ ولهذا السبب رأينا من الصالح التمييز بينهما حتى يبقى للعقل وللحكمة مجالا ‘حراما’ يمكّن اصحابهما من تغليب ‘المعقول’ و’العقلنة’ ومن تجنب أكبر المضار والاذى…؛ وانا نرى في هذا التفريق بين ‘العقل’ و’السياسة’ إمكانية وضع توازن بين عنصرين هما في الآن نفسه ‘عدوان’ و’صديقان’ ولكنهما في نفس الوقت، عنصران ضروريان لتقدم المجتمع ولطوره بحسب تطور المناخ الكلي الذي يعيش فيه…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 9 اوت 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING