الشارع المغاربي – الضب‭ ‬وابن‭ ‬آوى‭ ‬ومالك‭ ‬الحزين‭...‬

الضب‭ ‬وابن‭ ‬آوى‭ ‬ومالك‭ ‬الحزين‭…‬

قسم الأخبار

10 يونيو، 2022

الشارع المغاربي-عيسى‭ ‬جابلي:إلهي‭ ‬يا‭ ‬حبيبي،‭ ‬أنا‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬أبنائك‭ ‬الذين‭ ‬رميتهم‭ ‬في‭ ‬الشمال‭ ‬الإفريقي‭ ‬في‭ ‬مزرعة‭ ‬تونس‭ ‬المحروسة‭. ‬أتقول‭ ‬لي‭: ‬لقد‭ ‬عهدتها‭ ‬بلداً‭ ‬عظيماً‭ ‬فكيف‭ ‬تسميها‭ ‬مزرعة؟‭ ‬معك‭ ‬حق‭ ‬يا‭ ‬إلهي،‭ ‬ولكن‭ ‬دعني‭ ‬أحدثك‭ ‬عن‭ ‬أبرز‭ ‬زعمائها‭ ‬الخالدين‭ ‬المخلّدين‭ ‬الّذين‭ ‬تحسدنا‭ ‬عليهم‭ ‬الأمم‭ ‬والبلدان،‭ ‬حتّى‭ ‬صرنا‭ ‬نرميهم‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬بالكمّون‭ ‬إذا‭ ‬أقبلوا،‭ ‬ونرشّهم‭ ‬بالماء‭ ‬إذا‭ ‬أدبروا‭ ‬مخافة‭ ‬أن‭ ‬يصيبهم‭ ‬مكروه‭ ‬وتُحرم‭ ‬المزرعة‭ ‬الموقّرة‭ ‬من‭ ‬تدبيرهم‭ ‬وعبقريتهم‭.‬

كان‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬ناسكاً‭ ‬طيباً‭ ‬في‭ “‬كتاب‭ ‬كليلة‭ ‬ودمنة‭” ‬أو‭ ‬كان‭ ‬في‭ ‬أمثولة‭ ‬أخرى‭ ‬محتالاً‭ ‬على‭ ‬الحمار‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الأسد‭ ‬الأجرب،‭ ‬لم‭ ‬يفوّت‭ ‬الفرصة‭ ‬حتّى‭ ‬حصل‭ ‬على‭ ‬قلب‭ ‬الحمار‭ ‬الغبي‭ ‬وأذنيه،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬بُعِث‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬في‭ ‬مزرعة‭ ‬تونس‭ ‬المحروسة،‭ ‬وهو‭ ‬حالياً‭ ‬من‭ ‬أقدم‭ ‬الكائنات‭ ‬التي‭ ‬تقطنها،‭ ‬عاصر‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وعاش‭ ‬النكبة‭ ‬والنكسة‭ ‬وحرب‭ ‬الأيام‭ ‬الستة‭ ‬وشهد‭ ‬استقلال‭ ‬تونس‭ ‬وعاش‭ ‬التجربة‭ ‬الاشتراكية‭ ‬وأحداث‭ ‬الخميس‭ ‬الأسود‭ ‬وانتفاضة‭ ‬الخبز‭ ‬وثورة‭ ‬الضباط‭ ‬الأحرار‭ ‬وتأميم‭ ‬قناة‭ ‬السويس،‭ ‬ونظّم‭ ‬انقلابا‭ ‬فاشلا‭ ‬على‭ ‬بورقيبة‭ ‬ليعيش‭ ‬من‭ ‬الغد‭ ‬انقلاب‭ ‬بن‭ ‬علي،‭ ‬وشهد‭ ‬سقوط‭ ‬جدار‭ ‬برلين‭ ‬وانهيار‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفياتي‭ ‬وحرب‭ ‬الخليج‭ ‬الأولى‭ ‬وحرب‭ ‬الخليج‭ ‬الثانية‭ ‬وأحداث‭ ‬الحادي‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬سبتمبر‭ ‬وسقوط‭ ‬بغداد‭ ‬والثورة‭ ‬التونسية‭ ‬وسقوط‭ ‬الترويكا‭ ‬والحرب‭ ‬الروسية‭ ‬الأوكرانية‭ ‬وحكومة‭ ‬طالبان‭..‬

وهو‭ ‬حسابيا‭ ‬أقدم‭ ‬من‭ ‬مؤسسة‭ ‬الإذاعة‭ ‬والتلفزة‭ ‬التونسية‭ “‬إ‭. ‬ت‭. ‬ت‭” ‬والشركة‭ ‬التونسية‭ ‬للكهرباء‭ ‬والغاز،‭ ‬وأقدم‭ ‬من‭ ‬الديوان‭ ‬الوطني‭ ‬للأسرة‭ ‬والعمران‭ ‬البشري،‭ ‬وأقدم‭ ‬من‭ ‬الملعب‭ ‬التونسي‭ ‬ومجلة‭ ‬الأحوال‭ ‬الشخصية،‭ ‬بل‭ ‬إنه‭ ‬يكبر‭ ‬الدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬بخمسة‭ ‬عشر‭ ‬عاما‭ ‬بالتمام‭ ‬والكمال‭..‬

كان‭ ‬همه‭ ‬منذ‭ ‬فتح‭ ‬عينيه‭ ‬على‭ ‬الدنيا‭ ‬أن‭ ‬يعود‭ ‬بتونس‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬كتاب‭ “‬كليلة‭ ‬ودمنة‭” ‬بقرن‭ ‬ونصف،‭ ‬فسُرّته‭ ‬معلّقة‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬السابع‭ ‬للميلاد‭ ‬لا‭ ‬يبرحه‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬بقية‭ ‬جسده‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬ومثله‭ ‬كمثل‭ ‬من‭ ‬يجلس‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬في‭ “‬مانهاتن‭” ‬بينما‭ ‬يضع‭ ‬قدميه‭ ‬في‭ ‬صحراء‭ ‬الربع‭ ‬الخالي‭. ‬ولتحقيق‭ ‬غايته‭ ‬بذل‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬كل‭ ‬طاقاته‭ ‬في‭ ‬التحيل‭ ‬فعقد‭ ‬الأحلاف‭ ‬المستحيلة‭ ‬وأبرم‭ ‬صفقات‭ ‬لا‭ ‬يقبلها‭ ‬عقل‭: ‬يجلس‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬اليمين‭ ‬ويمضي‭ ‬عهوداً‭ ‬مع‭ ‬أقصى‭ ‬اليسار،‭ ‬وفي‭ ‬الأثناء‭ ‬يخطب‭ ‬ودّ‭ ‬الوسط‭ ‬وعينه‭ ‬على‭ ‬الماضي‭ ‬بينما‭ ‬رأسه‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬السحيق،‭ ‬يمشي‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬ورأسه‭ ‬مشدودة‭ ‬إلى‭ ‬الوراء‭. ‬يتلو‭ ‬على‭ ‬قطيعه‭ ‬الآيات‭ ‬والأحاديث‭ ‬ويقوم‭ ‬بنقيضها‭ ‬تماما،‭ ‬يعدهم‭ ‬بالجنة‭ ‬ويرميهم‭ ‬من‭ ‬الغد‭ ‬في‭ ‬سقر‭ ‬فيسبحون‭ ‬باسمه‭ ‬ويطبطبون‭ ‬على‭ ‬كتفه‭ ‬تبرّكا‭ ‬وتقديراً‭.. ‬إنه‭ ‬خلطة‭ ‬عجيبة‭ ‬من‭ ‬اللامعقول‭ ‬وقد‭ ‬تشكل‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬يسعى‭ ‬على‭ ‬قدمين‭ ‬بدل‭ ‬أربع‭.‬

أمّا‭ ‬مالك‭ ‬الحزين‭ ‬فيصغر‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬بثلاثة‭ ‬أعوام‭ ‬لا‭ ‬غير،‭ ‬لذلك‭ ‬كانت‭ ‬علاقته‭ ‬بابن‭ ‬آوى‭ ‬وأشباهه‭ ‬متينة‭ ‬لا‭ ‬يكدّرها‭ ‬مكدّر‭ ‬سوى‭ ‬ما‭ ‬ينشب‭ ‬أحيانا‭ ‬بين‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬وأخيه،‭ ‬أو‭ ‬الخلّ‭ ‬وخلّه‭ ‬من‭ ‬مناوشات‭ ‬قد‭ ‬تصل‭ ‬الى‭ ‬حد‭ ‬هراش‭ ‬خفيف،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬مصيرهما‭ ‬اليدُ‭ ‬في‭ ‬اليدِ‭ ‬والود‭ ‬بالود‭ ‬والاحترام‭ ‬بالاحترام،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬مالك‭ ‬الحزين‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬أقصى‭ ‬اليسار‭ ‬متعثرا‭ ‬يمشي‭ ‬على‭ ‬هزائمه‭ ‬وفضائحه،‭ ‬فها‭ ‬هو‭ ‬معارض‭ “‬شرس‭” ‬لنظام‭ “‬زعبع‭”‬،‭ ‬يدير‭ ‬حزبا‭ ‬تقدميا‭ “‬معارضا‭” ‬له،‭ ‬وجريدة‭ ‬ذات‭ “‬موقف‭” ‬تندّد‭ ‬بجرائمه‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬المعارضين‭ ‬وتعذيبهم‭ ‬وتشريدهم‭ ‬ومصادرة‭ ‬حرياتهم‭ ‬والتأسيس‭ ‬للاستبداد‭ ‬ودولة‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد،‭ ‬ولا‭ ‬بأس‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يحصل‭ ‬في‭ ‬الأثناء‭ ‬على‭ ‬تمويل‭ ‬سنوي‭ ‬عمومي‭ ‬من‭ ‬النظام‭ ‬نفسه،‭ ‬وها‭ ‬هو‭ ‬ينظّم‭ ‬رفقة‭ ‬جماعة‭ ‬منهم‭ ‬شرذمة‭ ‬من‭ ‬أولاد‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬إضراب‭ ‬جوع‭ ‬مفتوح‭ ‬يندد‭ ‬بجرائم‭ ‬النظام،‭ ‬حتّى‭ ‬يمدّ‭ ‬نفسه‭ ‬للنظام‭ ‬ذاته‭ ‬ليلة‭ ‬الانفجار‭ ‬العظيم‭ ‬لينقذه‭ ‬من‭ ‬السيل‭ ‬الّذي‭ ‬لم‭ ‬يمهله‭ ‬حتى‭ ‬جرفه‭ ‬فطار‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬المزرعة‭. ‬ثم‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يعلن‭ ‬مباشرة‭ ‬قطيعته‭ ‬مع‭ ‬بنات‭ ‬آوى‭ ‬ويقول‭ ‬فيها‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يقل‭ ‬مالك‭ ‬في‭ ‬الخمرة،‭ ‬ويصرح‭ ‬بأن‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬رفع‭ ‬السلاح‭ ‬ضد‭ ‬الدولة‭ ‬وتورط‭ ‬في‭ ‬اغتيال‭ ‬أبناء‭ ‬المزرعة،‭ ‬ويعلن‭ ‬عليه‭ ‬وعلى‭ ‬رهطه‭ ‬حربا‭ ‬ضروسا،‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تفاجأ‭ ‬به‭ ‬أهل‭ ‬المزرعة‭ “‬يتهوّر‭” ‬طالبا‭ ‬الاعتذار‭ ‬من‭ “‬زعبع‭” ‬بدعوى‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬حقّ،‭ ‬ويمدح‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬ذاته‭ ‬ويرتمي‭ ‬في‭ ‬حضنه‭ ‬ليشكّل‭ ‬معه‭ ‬جبهة‭ “‬الخلاّص‭” ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬مراقبون‭ ‬إنه‭ (‬الخلاّص‭) ‬لا‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬صلعته‭ ‬ولا‭ ‬مع‭ ‬هيبته،‭ ‬فيمضي‭ ‬في‭ ‬طريق‭ ‬قربه‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬آوى،‭ ‬ويتنقل‭ ‬بين‭ ‬المنابر‭ ‬يمدح‭ ‬خصاله‭ ‬متغنيا‭ ‬بانتصار‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬للديمقراطية‭ ‬والحرية‭ ‬والخير‭ ‬والحب‭ ‬والسلام‭ ‬بدليل‭ ‬الحمامة‭ ‬الوديعة‭ ‬الزرقاء‭ ‬التي‭ ‬فردت‭ ‬جناحيها‭ ‬فضمت‭ ‬إليها‭ ‬أطيافاً‭ ‬من‭ ‬السنوريات‭ ‬والكلاب‭ ‬الضالة‭ ‬والقردة‭ ‬المشاكسة‭ ‬والخنازير‭ ‬القميئة‭.‬

والجامع‭ ‬بين‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬ومالك‭ ‬الحزين‭ ‬أن‭ ‬كلاهما‭ ‬يبحث‭ ‬عن‭ ‬مجد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬الضائع،‭ ‬إذ‭ ‬عاشا‭ ‬زمنيهما‭ ‬ففشلا‭ ‬فيه‭ ‬ثم‭ ‬عاشا‭ ‬زمني‭ ‬أبنائهما‭ ‬ففشلا‭ ‬فيه‭ ‬ثم‭ ‬ها‭ ‬هما‭ ‬يستوليان‭ ‬غصبا‭ ‬على‭ ‬زمن‭ ‬أحفادهما‭ ‬المشردين‭ ‬في‭ ‬شتى‭ ‬أصقاع‭ ‬البلاد‭ ‬مفقّرين‭ ‬مغبونين‭ ‬مسلوبين‭ ‬تائهين‭ ‬حائرين،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يكلاّ‭ ‬أو‭ ‬يملاّ‭ ‬أو‭ ‬يتركا‭ ‬فرصة‭ ‬لهم‭ ‬ليقولوا‭ ‬كلمتهم‭. ‬يغتصبون‭ ‬التاريخ‭ ‬والجغرافيا‭ ‬والعقل‭ ‬والمنطق‭ ‬والطبيعة‭ ‬ليكونا‭ ‬زعيمين‭ ‬رغم‭ ‬أنوف‭ ‬الكل‭ ‬ويبذلان‭ ‬ما‭ ‬يستطيعان‭ ‬لتحقيق‭ ‬ذلك،‭ ‬وإن‭ ‬كان‭ ‬الحلم‭ ‬على‭ ‬جثث‭ ‬الشهداء‭ ‬والمغدورين‭ ‬والمغتالين‭. ‬ارتدى‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬بدلة‭ ‬جديدة‭ ‬وربطة‭ ‬عنق‭ ‬وجدد‭ ‬طقم‭ ‬أسنانه،‭ ‬فلمعت‭ ‬ابتسامته‭ ‬المخادعة‭ ‬الخبيثة‭ ‬ووعد‭ ‬الناس‭ ‬بأنه‭ ‬لن‭ ‬يترشح‭ ‬لأي‭ ‬انتخابات‭ ‬في‭ ‬المزرعة‭ ‬ومن‭ ‬الغد‭ ‬صار‭ ‬رئيسا‭ ‬للبرلمان،‭ ‬بينما‭ ‬ارتدى‭ ‬مالك‭ ‬الحزين‭ ‬تبانا‭ ‬أحمر‭ ‬وراح‭ ‬يفسّح‭ ‬كلابه‭ ‬على‭ ‬الشاطئ‭ ‬مهزوما‭. ‬ولكن‭ ‬ها‭ ‬هو‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬بدلته‭ ‬القديمة‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬تخليص‭ ‬رأسه‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬والزغب‭ ‬كي‭ ‬يبدو‭ ‬أكثر‭ ‬أناقة‭ ‬واضعا‭ ‬اليد‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬ليسودا‭ ‬في‭ ‬المزرعة‭ ‬معا‭ ‬مجدداً‭.‬

أرأيت‭ ‬يا‭ ‬ربّ‭ ‬أنني‭ ‬على‭ ‬حق‭ ‬إذ‭ ‬خاطبتك‭ ‬من‭ ‬المزرعة؟‭ ‬اممم‭.. ‬أتقول‭ ‬لي‭ ‬إن‭ ‬بهيمتين‭ ‬لا‭ ‬تشكلان‭ ‬مزرعة؟‭ ‬معك‭ ‬حق‭ ‬يا‭ ‬ربي‭ ‬حبيبي‭. ‬فقد‭ ‬نسيت‭ ‬أن‭ ‬أذكر‭ ‬لك‭ ‬ثالث‭ ‬الثلاثة‭. ‬فاسمع‭ ‬مني‭ ‬ولا‭ ‬تسمع‭ ‬عني‭ ‬إني‭ ‬قائل‭ ‬لك‭ ‬حقا‭ ‬في‭ ‬بقية‭ ‬الحكاية‭.. ‬لقد‭ ‬نسيت‭ ‬أن‭ ‬أخبرك‭ ‬أن‭ ‬ابن‭ ‬آوى‭ ‬ومالك‭ ‬الحزين‭ ‬سمعا‭ ‬كائنا‭ ‬في‭ ‬القصر‭ ‬الجمهوري‭ ‬يطلق‭ ‬عليهما‭ ‬هذين‭ ‬الاسمين‭ ‬فتعجبا‭ ‬وداخا‭ ‬ودخل‭ ‬بعضهما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬ثم‭ ‬استويا‭ ‬وفكرا‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬اسم‭ ‬يليق‭ ‬بالمزرعة‭ ‬ولا‭ ‬يخرج‭ ‬عن‭ ‬قانونها،‭ ‬فتأملاه‭ ‬فبدا‭ ‬لهما‭ ‬كما‭ ‬يبدو‭ ‬الضبّ‭ ‬في‭ ‬البرية‭ ‬مرفوع‭ ‬الهامة‭ ‬منفوخا‭ ‬مزمجرا‭ ‬غاضبا‭ ‬مكفهرا‭ ‬كيوم‭ ‬أزرق‭ ‬متفجرا‭ ‬كزوبعة‭ ‬يلفظ‭ ‬الزبد‭ ‬كبحر‭ ‬هائج‭. ‬وأما‭ ‬أنا‭ ‬فقد‭ ‬بدا‭ ‬لي‭ ‬الاسم‭ ‬منطقيا‭ ‬مستوفيا‭ ‬لقوانين‭ ‬المزرعة‭ ‬وأعرافها‭ ‬وتقاليدها‭. ‬فرحت‭ ‬أبحث‭ ‬عن‭ ‬الضب‭ ‬فإذا‭ ‬هو‭ ‬زعيم‭ ‬تاريخي‭ ‬معروف،‭ ‬وليس‭ ‬أدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬ذكره‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬النبوية‭ ‬إذ‭ ‬جاء‭ ‬في‭ ‬مسند‭ ‬حذيفة‭ ‬بن‭ ‬اليمان‭ ‬في‭ ‬كتاب‭ “‬مسند‭ ‬البزّار‭”‬،‭ ‬المنشور‭ ‬باسم‭ “‬البحر‭ ‬الزخّار‭” ‬عَنْ‭ ‬حُذَيْفَةَ‭ ‬رَضِيَ‭ ‬اللَّهُ‭ ‬عَنْهُ‭ ‬قَالَ‭: ‬قَالَ‭ ‬رَسُولُ‭ ‬اللَّهِ‭ ‬صَلَّى‭ ‬اللَّهُ‭ ‬عَلَيْهِ‭ ‬وَسَلَّمَ‭: “‬إنَّ‭ ‬الضَّبَّ‭ ‬أُمَّةٌ‭ ‬مُسِخَتْ‭ ‬دَوَابَّ‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭ ‬أَوْ‭ ‬إِنَّ‭ ‬الضَّبَّاتِ‭ ‬دَوَابُّ‭ ‬مُسِخَتْ‭ ‬فِي‭ ‬الْأَرْضِ‭”‬،‭ ‬فهل‭ ‬أحد‭ ‬أعلم‭ ‬من‭ ‬رسولك‭ ‬الكريم‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬ضبّنا‭ ‬المفدّى‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬أمة‭ ‬ولكنها‭ ‬مُسخت‭ ‬ضبّاتٍ؟‭ ‬ولا‭ ‬شكّ‭ ‬يا‭ ‬إلهي‭ ‬الأعظم‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬المزرعة‭ ‬قد‭ ‬اقترفت‭ ‬ذنبا‭ ‬عظيما‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يغتفر‭ ‬حتى‭ ‬صار‭ ‬على‭ ‬رأسها‭ ‬الضبُّ‭. ‬فهذه‭ ‬الأمة‭ ‬تحلم‭ ‬باليسار‭ ‬وتفرز‭ ‬اليمين،‭ ‬تنظر‭ ‬إلى‭ ‬الغد‭ ‬وأقدامها‭ ‬تسير‭ ‬إلى‭ ‬الوراء،‭ ‬تسخر‭ ‬من‭ ‬الضب‭ ‬ثم‭ ‬تصطفيه،‭ ‬وتمدح‭ ‬غيره‭ ‬ثم‭ ‬ترميه‭ ‬في‭ ‬سلة‭ ‬المهملات‭. ‬إنها‭ ‬أمة‭ “‬كلبة‭” ‬لا‭ ‬يقرّ‭ ‬لها‭ ‬قرار‭ ‬وقد‭ ‬استحقت‭ ‬سخطك‭ ‬وغضبك‭ ‬وعقابك‭ ‬فسلطت‭ ‬عليها‭ ‬–‭ ‬عَظُم‭ ‬شأنك‭ ‬–‭ ‬الضبّ‭ ‬ملكا‭.‬

ولقد‭ ‬بحثتُ،‭ ‬يا‭ ‬إلهي،‭ ‬عن‭ ‬فضائل‭ ‬الضب،‭ ‬وفتشت‭ ‬عن‭ ‬مزاياه‭ ‬فوجدته‭ ‬ذكيا‭ ‬في‭ ‬اختيار‭ ‬حفرته‭ ‬التي‭ ‬ينتقي‭ ‬مكانها‭ ‬بعناية،‭ ‬ويحرص‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬تحت‭ ‬نبات‭ ‬الرّمث‭ ‬كي‭ ‬يسهل‭ ‬اهتداؤه‭ ‬إليها،‭ ‬ولكي‭ ‬يستفيد‭ ‬من‭ ‬ظلها‭ ‬في‭ ‬الحر،‭ ‬ووجدته‭ ‬لا‭ ‬يصاحب‭ ‬إلا‭ ‬العقرب‭ ‬السوداء،‭ ‬يسمح‭ ‬لها‭ ‬بمقاسمته‭ ‬السكن‭ ‬في‭ ‬جحره‭ ‬ويقدم‭ ‬لها‭ ‬العطايا‭ ‬من‭ ‬خنافس‭ ‬وغيرها‭ ‬لتصدّ‭ ‬عنه‭ ‬هي‭ ‬بدورها‭ ‬أعداءه‭ ‬من‭ ‬البشر‭ ‬والحيوانات‭. ‬ثم‭ ‬إذا‭ ‬هو‭ ‬مضرب‭ ‬للأمثال‭ ‬في‭ ‬البله‭ ‬والحيرة‭ ‬والضلال‭ ‬فتقول‭ ‬العرب‭ “‬أبلهُ‭ ‬من‭ ‬ضب‭” ‬و‭”‬أحير‭ ‬من‭ ‬ضبّ‭” ‬و‭”‬أضلّ‭ ‬من‭ ‬ضبّ‭”‬،‭ ‬ومن‭ ‬طبع‭ ‬ضبّنا‭ ‬المفدّى‭ ‬التيه‭ ‬والحيرة‭ ‬والنسيان‭ ‬والحياد‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الطرقات،‭ ‬والفضل،‭ ‬كلّ‭ ‬الفضل،‭ ‬لك‭ ‬كيف‭ ‬صورته‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصفات‭ ‬العجيبة‭ ‬التي‭ ‬تحسدنا‭ ‬عليها‭ ‬الأمم‭. ‬ولكن‭ ‬الأعجب‭ ‬أيضاً‭ ‬أن‭ ‬العرب‭ ‬تقول‭ “‬أعقّ‭ ‬من‭ ‬ضبّ‭” ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬صغاره‭ ‬إذا‭ ‬فقست‭ ‬ظنها‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬أحناش‭ ‬الأرض‭ ‬فيقتلها‭ ‬واحدا‭ ‬واحدا‭ ‬ولا‭ ‬ينجو‭ ‬منه‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬فرّ‭ ‬بجلده‭ ‬منه‭. ‬ولقد‭ ‬حافظ‭ ‬الزعيم‭ ‬الضب‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الصفة‭ ‬الحميدة‭ ‬بفضل‭ ‬منك‭ ‬وتوفيق‭ ‬إلى‭ ‬أيامنا‭.‬

أرأيت‭ ‬جل‭ ‬جلالك‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬مزرعة‭ ‬تعمرها‭ ‬البهائم‭ ‬من‭ ‬ابن‭ ‬أوى‭ ‬إلى‭ ‬مالك‭ ‬الحزين‭ ‬إلى‭ ‬الملك‭ ‬الضب‭ ‬ومن‭ ‬جاورهم‭ ‬بإحسان‭ ‬إلى‭ ‬يوم‭ ‬الدين‭ ‬من‭ ‬جرذان‭ ‬وضباء‭ ‬وحمير‭ ‬وحشية‭ ‬وصراصير‭ ‬وذئاب‭ ‬وثعالب‭ ‬وأفاع‭ ‬وعقارب‭ ‬وكركدنّ‭ ‬وفيلة‭ ‬وكلاب‭ ‬برية‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬لو‭ ‬فصّلتُ‭ ‬فيه‭ ‬القول‭ ‬لبلغت‭ ‬أحرفي‭ ‬مشارق‭ ‬الأرض‭ ‬ومغاربها‭ ‬ونفد‭ ‬حبري‭.. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬وأنت‭ ‬يا‭ ‬ربي‭ ‬حبيبي‭ ‬تستنكر‭ ‬عليّ‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المزرعة‭ ‬السعيدة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬الضب‭ ‬وابن‭ ‬آوى‭ ‬ومالك‭ ‬الحزين،‭ ‬ثمّ‭ ‬تتوعّدني‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬بحساب‭ ‬أليم‭ ‬يوم‭ ‬الواقعة‭.. ‬أَفَبَعْدَ‭ ‬هذا‭ ‬الحساب‭ ‬يا‭ ‬ربّي‭ ‬حبيبي‭ ‬حساب؟
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 7 جوان 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING