الشارع المغاربي – العنف في الملاعب: نظرة باردة على حدث ساخن/بقلم:عبد الواحد المكني

العنف في الملاعب: نظرة باردة على حدث ساخن/بقلم:عبد الواحد المكني

قسم الأخبار

15 يونيو، 2024

الشارع المغاربي: مساء يوم الأحد 2 جوان2024 وخلال لقاء في كرة القدم بين فريقي العاصمة النادي الافريقي والترجي الرياضي التونسي جدت أحداث خطيرة ولكنها ليست جديدة ولا مفاجأة فهي أحداث تتكرر هذه السنوات في ملاعب الرياضة عامة وفي ملاعب كرة القدم تخصيصا وفي كل الحالات فإن بعض القرارات الروتينية التي صدرت عن الرابطة الوطنية لكرة القدم لن تقدم أي حل يردع تكرار مثل هذه المشاهد في ملاعب أخرى وبين فرق أخرى متجاورة أ ومتباعدة .

لنحاول أن نتحدث عن الظاهرة في سياقها العام والتاريخي والمجرّد بنظرة متأنية  وباردة رغم ان الحدث ساخن جدا وخلّف خسائر مادية هامة وهزة معنوية زادت في تأجيج المواقف وتشنيجها.

لنتفق أولا على ان العنف المادي أو اللفظي الذي لا يقل عن الأول خطورة اقترن ومنذ غابر الأزمنة بالجمهرة والتجمهر فكلما ازدادت أعداد الحاضرين والمتفرجين في مُفْتَرج ما لاجت مخاطر التدافع والشغب والعنف . والأمر ثابت في رزنامة الحوليين والمؤرخين منذ زمن السيرك ومبارزات القلادياتور أ وفي مركاض الخيول أو حتى في أماكن العبادة المقدسة وفضاءات الأسواق الأسبوعية والزردة وعلى رمال الشواطئ زمن المصيف.

حيثما كانت الجمهرة كان التدافع والشغب وحدثت مواجهات العنف بل تكررت في ساحات المهرجانات وحفلات الأعراس والختان وحتى في  المساحات التجارية الكبرى وبينها جميعا خيط ناظم هوالاحتماء بـ “سيكولوجيا الجمهرة” أو بحصانة “الحضبة” وهي كلمة عامية تعني حلقة المتجمهرين. تتأتى هذه الحصانة من القدرة على التخفي والقاء المسؤولية على مجموعة وافرة العدد لا يمكن تثبيت المسؤولية عليها بدقة .

 ظاهرة العنف في الرياضة عامة وفي الملاعب خاصة غير جديدة وقد جدّ الشغب والتطاحن في أغلب الدورات الرياضية الكبرى خلال ثلاثينات القرن العشرين من الألعاب الأولمبية إلى كأس العالم في نسختي 1934 و1938 ارتبط بصعود التعصب القومي والأفكار الفاشية والنازية من ناحية والايديولوجيات المضادة لهما والتي لم تكن بدورها بمنأى عن ممارسة العنف. تواصل الأمر في غمار الحرب الباردة فكم مدورة لم تصل حد العنف المادي لكن كانت طافحة بالعنف الرمزي ظهر هذا في أولمبياد موسك و1980 وفي أولمبياد لوس أنجلس 1984 .

وستطالعنا قادم الأيام والأخبار بأنباء عن صدامات وشغب وعنف في ملاعب الرياضة بكل أنحاء العالم طالما ان ثقافة وسائل اعادة انتاج العنف موجودة و”مُعولمة” إذ هي مرتبطة أولا بالرغبة الجامحة في الانتصار والتفوق مهما كان الأسلوب والطريقة وهي مرتبطة في أحيانا أخرى بالشعور بالانتماء والحاجة الى فرض الذات فتأخذ ظاهرة العنف مرتكزا شبيها بالمقدس كالجهة أو الوطن أوالقومية أو”الكرامة” أو”النخوة” أو”أمجاد الماضي”. كلها محثّات على ممارسة العنف خصوصا مع تنامي استعمال وسائل الاتصال الاجتماعي ويسرها لدى كافة الشرائح مما يساهم بطرقة فعّالة في “الدعاية” واستنباط آليات التنظّم في إطار المجموعات والفرق الداخلية التي يصل بها الحماس والانغماس في الانتماء الضيق إلى التطاحن الداخلي بين نفس جماهير الفريق الواحد.

وجب القول ان ملاعب الرياضة في بداية الاستقلال وحتى في الفترة الاستعمارية كانت ذات طاقة استيعاب محدودة وكلنا شاهد أناقة جماهير ملعب الشاذلي زويتن في مطلع الستينات. فأكثر من نصف المتفرجين كانوا يلبسون ربطات العنق والسيدات حاضرات بالمنديل الأبيض وتلك صورة نمطية حقيقية ورائجة. لكن في ملاعب تونس أيضا جدت أحداث عنف سنة 1938 خاصة بين الفرق الايطالية والفرنسية وبين الفرق التونسية والفرق المحسوبة على الاستعمار وبعد الاستقلال جدّت أحداث عنف منها حادثة سوسة 1961 وحادثة المنزه 1971 وحادثة ملعب باجة سنة 1999 في مقابلة كأس بين نادي المكان والترجي والتي اسفرت عن وفاة 3 أحباء وجرح ما لا يقل عن 18 اخرين وأحداث أخرى في الأقسام الصغرى لا يتسع المجال لذكرها بالتفصيل وهي ليست خاصة بتونس فقط بل تحدث في كل الأقطار والأنحاء. ففي الجارة الجزائر جدت في ملعب الشهيد حملاوي بقسنطينة يوم الاثنين 3 جوان2024 (أي بعد أحداث دربي تونس بيوم) أحداث دامية في المقابلة التي جمعت شباب قسنطينة باتحاد الجزائر تمثلت في تهشيم الملعب وتكسير الكراسي واشعال النيران. وخلفت هذه الأحداث سقوط عشرات المصابين والجرحى من الأنصار داخل وخارج الملعب.

السؤال المُجدي هو ما سبب تفاقم الظاهرة وكيف السبل للتصدي لها بوسائل عقلانية وعلمية للحد من خطورتها وهي الغاية من هذه الخطاطة؟؟.

لا ينكر اثنان ان منسوب العنف تطور بعد تطور وسائل الفرجة المشهدية والذكاء الرقمي. من ذلك الألعاب النارية والهوائية على غرار “ا لشماريخ” واللافتات الدعائية و”ديزاين فرجة الملاعب” وخاصة ظاهرة “الدخّلة” وهي صنف من أصناف البروباغندا التي تبطن ثنائية التفاخر والسخرية أو إعلاء الشأن الذاتي وتبخيس شأن المنافس الذي يتحول الى خصم بل إلى عدو.

لا يختلف اثنان في ان وسائل انتاج العنف بالملاعب وفي لحظة الحشد الجماهيري تطورت بفعل “العولمة والسّلعنة”. فهناك اقتصاد مواز أسمّيه اقتصاد الاستثمار في “بهرج المنافسات الرياضية” الرابح فيه ليس اللاعب ولا المدرب ولا الجمهور المتفرج وانما فاعل آخر لا يظهر. رابح خفي لا يعنيه من الخاسر أو الرابح. يعنيه فقط ما سيجني من تصريف ” سلعه” وهي في الغالب سلع مهربة وغير خاضعة للمواصفات الصناعية والديوانية يمكن تصنيفه ضمن تجّار الاستثمار في المناسبات وإن أردنا تكبير القول الاستثمار في الصناعة الرياضية عامة وفي صناعة كرة القدم تخصيصا .

لا يعني ما سبق ان ظاهرة كـ “الدخلة” عندما تعرّج على قضايا عادلة كأحداث غزة وفلسطين وعندما لا تخرج عن المألوف فهي تسرّ الناظر وتجلب المفخرة وكم من مقابلات تجمّلت بمحاسن تلك “الدخلات” لكن في الغالب الأعم صارت الدخلات واللافتات مصدرا للتهييج ولاحتقار الآخر وبث الفرقة والجهويات بين أبناء الشعب الواحد والبلد الواحد والمدينة الواحدة.

في السنوات الأخيرة راهنت جامعة الكرة في تونس على العقوبات المالية والتدرج فيها تصاعديا لتصل الى حرمان الجماهير من دخول الملاعب. وأبدأ من النهاية: هل لدينا فعلا ملاعب قادرة على توفير فرجة لائقة للمشجعين والمفتتنين بالرياضة؟

لنا فقط بضعة ملاعب متوسطة تعدّ على الأصابع وبنى أغلبها في تراجع وتدهور وهي لا تليق بتاريخ النوادي والجهات. من ذلك افتقار كامل الجنوب التونسي  والشمال الغربي والوسط الغربي الى ملعب أولمبي بمواصفات لاحتضان دورات دولية.

ان المراهنة على العقوبات المالية لم تقلص ظاهرة العنف ولم تحد منها بل أعطت أحيانا مفعولا عكسيا وأضرت بميزانية النوادي الرياضية ولم تنفع ميزانية الجامعة التي كانت سلبية هذه السنة في موازنتها المالية المعلنة للعموم. ان القائمين بإثارة الشغب والفوضى عبر الشمروخ أوقارورة الماء المعدني أوالحجارة لا يدفعون الخطايا وفي أغلب الأحيان لا يتعرف عليهم أحد لأنهم يحتمون بالجمهرة .

ماذا لوأصغت الجامعة (وكل الهياكل الرياضية لا في كرة القدم فحسب) الى المختصين النفسيين والاجتماعيين وعمّمت رقمنة تذاكر الدخول وجعلت سجلا للمشاغبين المشهورين يمنعهم من دخول الملاعب؟ وماذا لو منعت دخول  قوارير الماء المعدني؟ – علما ان تونس في المرتبة الثانية عالميا من حيث استهلاك المياه المعلبة – فعوض أن تتساقط هذه القوارير على رؤوس اللاعبين والحكام والمسيرين كان على جامعة الكرة ( وبقية هياكل الرياضات الأخرى) أن تقتدي بأغلب ملاعب العالم المحترمة وتمنح لزمات لمشربات داخلية في الملاعب تدر على الملاعب مداخيل وتجلب الماء المعدني في أوعية كبرى معروفة مواصفاتها وليس في علب وتبيعه للمتفرجين في كؤوس بلاستيكية (Goblets) من عاشر المستحيلات أن تصل الى أرضية الملعب؟ وماذا لوخضع كل مرتادي الملاعب الى رقابة الكترونية تحيل دون ادخال الشماريخ؟ أيهما أسهل منع دخولها أو معاقبة مستعمليها؟

وماذا لوجرّبت الجامعة اعادة حضور جماهير الفريقين في مقابلة الدربي وفي كل المقابلات ومنح حد معقول من التذاكر لجماهير الفرق الزائرة واقرار مبدأ المعاملة بالمثل مع تكثيف التأطير والتوعية؟

وماذا لو انفتحت هياكل التسيير الرياضي ونسقت أكثر مع شبكات الاعلام الرياضي للمضي في فهم الظواهر بعمق وأصغت الى تقارير مرصد الشباب وغيره من هياكل التفكير والاستشراف لايجاد حلول معروفة وناجعة سار بها العمل في مختلف أنحاء الملاعب بعد استخلاص الدروس ومنها حضور “الستاديتي ” للتأطير والردع ان لزم الأمر لكن بزي خاص وبطريقة حرفية مدروسة وذكية ليست عصية على أجهزتنا الأمنية؟

*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جوان 2024


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING