الشارع المغاربي – حاورته: عواطف البلدي : عبد القادر بن الحاج نصر كاتب قصصي وروائي من الطراز الأول، خاض تجارب الكتابة الدرامية فتألّق في “الحصاد” و”الحمامة والصقيع” و”ريحانة”، وفاز خلال مسيرة الكتابة التي سلكها منذ عقود بجوائز عديدة ويُعتبر من أهم الروائيين التونسيين اليوم. “الشارع المغاربي” التقاه وخاض معه في حديث عن الأدب والرواية والنقد والسياسة وأوضاع اتحاد الكتّاب والتلفزة والمسلسلات التونسية المنتجة في السنوات الأخيرة، وأعماله وآخر إصداراته ومشاريعه.
انت قصّاص وروائي وكاتب مسلسلات تلفزيونية.. ايّة كتابة يستسيغها بن الحاج نصر؟
لقد ألّفت ونشرت 14 رواية ومنذ يومين صدرت لي الرواية الخامسة عشر بعنوان ” أحزان الجمهورية الثانية ” عن دار ” زخارف للنشر”.. أمّا المجموعات القصصيّة فعددها عشرة آخرها ” شاشية اسطمبولي ” لم يمرّ وقت طويل على صدورها.. وبالنسبة للمسلسلات التي أنتجت لي وبثّتها مؤسسة التلفزة الوطنية فهي ستّة، ولي مسلسلان ينامان في أدراج هذه المؤسسة ” جمل جنات” في ثلاثين حلقة و ” موسم الحبّ والغضب ” في ثلاثين حلقة كذلك.
لماذا يصرّ بن الحاج نصر على الواقعية في زمن تعددت فيه التجارب في الكتابة؟
ألا ترين أنّ شأن الكتابة السردية شأن معقد، فهناك من يبحث عن الشهرة من خلال الأشكال والمضامين وهناك من لا يملك نفسا قصصيّا يتيح له الكتابة بأريحيّة وتواصل فيختار الاقتصار على ما يسمّى تجارب ما إن تبدأ حتى تنتهي، وهناك من لا يبحث من خلال الكتابة السرديّة عن أداء واجب مفروض على الكاتب القيام به إزاء الأدب كفنّ متجدّد وإزاء المجتمع، إنّما يكتب ليقال إنّه كاتب، يحوّل النصّ الى حقل تجريب مفتعل سرعان ما تتجاوزه الحركة الأدبيّة التي لا تعرف السكون ولا الوقوف في المحطات، ولا تحتفظ الا بالأعمال التي تحمل أبعادا أدبية وفنية أساسها الحفر المتعمّق في الشكل والمضمون بالاستفادة من مدوّنة الرواية العالمية. إنّ التجربة ضرورة، ومن لا يعتمد التجريب في الكتابة الأدبيّة يصبح متأخّرا عن القافلة ومعزولا.. لكن أيّة تجربة وأيّ تجريب؟ أولست معي في أنّ التجربة القصصيّة الوحيدة في تونس التي نجحت ولفتت انتباه المثقفين فتفاعلوا معها بالقبول والرفض هي تجربة عز الدين المدنيّ في ” الانسان الصفر”. أنا في كتاباتي يا سيّدتي لا أعلم أنّني أنتهج الواقعية التي ترمين إليها وإنّما أنطلق من واقع النّاس وواقع الأحداث والهموم والمعاناة لأكتب أدبا وأرسم فنّا أحاول أن أسأل نفسي كلّ مرّة عند البداية والنهاية هل أنا أكرّر نفسي أم آتي بالجديد.
هل مازال بإمكان الواقع ادهاشنا في هذا الزمن المعقّد؟ ام اننا في حاجة الى خيال أرحب؟
الواقع هو مصدر دهشة الانسان العاديّ وأقصد بذلك واقعنا الاجتماعي والسياسي والثقافي بفعل التغيّرات التي نعيشها، وهو دهشة الروائيّ والقاصّ لكن الإبداع يتجاوز الظاهر ليبحث في ما وراء الأحداث والوقائع، والمبدع لا يصوّر جسدا عليه ملامح حزن وفي العينين دموع إنّما يسافر في اللاّظاهر وفي اللاّمرئي من الظاهر والمرئيّ، إنّه يلامس الجذور ليبدع النصّ الأدبيّ. لقد صمدت الكتابة الواقعية وكانت دائما هي الأقوى والأكثر انتشارا وقبولا لدى القارئ، ولنعد للتدليل على ذلك الى الرواية في فرنسا وروسيا وأمريكا اللاتينية خلال المائة عام الأخيرة..أقول هذا وإنّني لم أؤمن بمدرسة أدبية محددة أو بمثال أدبيّ محدد أو بأسلوب أو منهج أو شكل، إذ تجدني خلال عملية الكتابة خارج هذه الحدود المفتعلة أحيانا.
تُحيلنا عناوين جل رواياتك ومناخاتها الى رموز موغلة في الخصوصية التونسية.. وقد يفسّره البعض بـنوع من الشوفينية؟
أليس هذا تاج أحمله وأفتخر به بين الكثيرين؟.. منذ روايتي الأولى ” الزيتون لا يموت” وحتى روايتي الأخيرة ” أحزان الجمهورية الثانية ” وأنا اقترب من الناس وهمومهم حتى يكاد يكون نبضهم هو نبضي ومعاناتهم معاناتي وقضاياهم قضيّتي..أنا الوطن وكتاباتي ترسم ملامح أبناء هذا الوطن عبر المراحل التي عشتها أو قرأت عنها في كتب التاريخ منذ عهد المشير أحمد باي، أنظري رواية ” جنان بنت الري ” الى زمننا هذا، انظري رواية ” أحزان الجمهورية الثانية” .. وطنيّ أنا وأفتخر بذلك.
هل في القول بالطفرة الروائية الحالية كمّا ونوعا تقليل من قيمة ما قدّم أبناء جيلك؟
أنا لا أحيا في الزمن الماضي ولا أكتب بأدواته ولا أتناول قضايا الماضي البعيد إلاّ من أجل إسقاطها على واقع بعينه، ومثل ذلك رواياتي ” جنان بنت الريّ ” و ” مملكة باردو” و ” الزيتون لا يموت ” . ليس هناك في الكتابة الروائية أجيال وإنّما جيل يكتب ويبدع، ومادام الكاتب يبدع فلن يكون معزولا ولن يعزله أحد. إنّ الطفرة الروائيّة والشعريّة في أيّة مرحلة من المراحل يجب أن ننظر إليها بتفاؤل فهناك لا شك مبدعون مجتهدون وفنانون لكن المخيف ألّا ترقى بعض الانتاجات السردية الى مستوى الفن لأنّ بعض أصحابها لم يقرؤوا ” بوشكين ” و”هامينغ واي ” و ” البير كامينغ ” و ” كاتب ياسين ” و” نجيب محفوظ “.. إنّ الخوف لديّ هو انت تتمّ الإساءة إلى جماليّة الرواية من أدعياء الكتابة السرديّة مثلما أساء الى الشعر ادعياء الشعر.
يرى بعض النقاد اننا بصدد مواكبة زخم كبير في الرواية التونسية خلال السنوات الاخيرة على حساب القصة القصيرة والشعر. ما رأيك؟
في السنوات الأولى من الثورة نشرت روايتي ” هنشير اليهودية” لتأتي بعدها ثلاث مجموعات قصصية متتالية: ” زطلة يا تونس ” و” حكايا باريس ” و” شاشية اسطمبولي “، وفي الأسبوع الماضي صدرت لي رواية ” أحزان الجمهورية الثانية”. إنّني أؤمن بأن القصة القصيرة بخير والدليل على ذلك مجلّة “قصص” أقدم المجلات العربيّة التي تعنى بالقصة القصيرة والتي ما تزال فاعلة ويتجمّع حولها أعداد من القصّاصين من كل المشارب والاتجاهات، أمّا الشعر فيظل الفن الذي لا تتقلّص مادّته رغم رداءة أغلب الأشعار وعدم اطلاع أصحابها على المدوّنة الشعرية وعلى قوانين الإيقاع والموسيقى.
الابداع متقدّم على الحركة النقدية في تونس لمَ هذا الضمور النقدي؟لم يعود ذلك حسب معايشتك للساحة الادبية؟
لولا ما تقدّم الجامعة التونسية للإبداع من عناية وإحاطة عبر أطروحات الدكتورا والماجستير، ولولا بعض الحلقات الأدبية التي يؤثثها الأساتذة الجامعيّون بمحاضرات متعمقة حول الحركة الأدبيّة لظلّ الإبداع بلا سند يشد أزر أصحابه ويساعدهم على التعريف بآثارهم وقيمتها الأدبيّة والفنيّة. أعلم أن ليس لدينا نقّــاد إلاّ في المناسبات المتباعدة ذلك لانّ من لديهم القدرة على محاورة النصوص الأدبيّة لم يجدوا فضاءات تشجعهم على الكتابة النقديّة كما ان النّاقد حين يبذل مجهودا علميّا في إنجاز عمل نقديّ لا يجد أمامه لا مجلاّت متخصّصة ولا مقابلا مادّيا عكس ما هو متوفّر في بلدان كثيرة من حولنا.
كيف يقيّم بن الحاج نصر اداء اتحاد الكتاب التونسيين؟
أحيانا أتساءل هل لدينا اتحاد كتّاب! والحقيقة انّ تساؤلي ليس بريئا لأنّ ارتباطي بالاتحاد ككاتب وكعضو مشترك فيه منذ إنشائه معدوم تماما فآخر رسالة تلقيتها من هذه المؤسسة العتيدة تعود الى رئاسة المرحوم ” الميداني بن صالح “.. منذ ذلك التاريخ لم أتلق دعوة لحضور ندوة أو ملتقى او لقاء، ولم يطلب مني تجديد الانخراط، ولم تصلني بطاقة معايدة واحدة. ترى هل يحق لي بعد هذا أن أتساءل هل هناك اتحاد كتّاب مع احترامي للأسلوب الذي تتعامل به الهيئة ونهج عملها في تسيير شؤون الاتحاد؟ إنّ الخوف كلّ الخوف هو أن تتحوّل الاتحادات والنوادي إلى لوبيات محترفة تعمل من اجل جني المال لا غير.
وإدارة شكري المبخوت معرض الكتاب في 3 دورات متتالية؟
إنّني على يقين من أن الأستاذ شكري المبخوت من صفوة الأساتذة في جامعتنا وهو من خيرة المثقفين، وأعتقد أن وزارة الإشراف رأت فيه كفاءة تخوّل له أكثر من غيره إدارة معرض الكتاب طيلة هذه السنوات.. إنّ إدارة المؤسسات يتم تقييمها اعتبارا لنجاح الدورات السابقة او فشلها ولست مخوّلا لأصدر حكما على الإضافة التي ميّزت كلّ نسخة من المعارض السابقة، أمّا بالنسبة لهذه الدورة فلن أدّعي شيئا إذ لم أحضر فعاليتها مفضّلا البقاء في مسقط رأسي لأتمتع بالطبيعة وزخّات المطر والماء الذي يجري صافيا زلالا بين أشجار الزيتون واللوز والخوخ والخوف كل الخوف مرّة أخرى أن تكون هناك لوبيات محترفة تتحكم في دواليب الوزارة.
بعد “الحصاد” و”الحمامة والصقيع” ومسلسلات أخرى لم نعد نراك في التلفزة؟؟؟ !!!
لم ترني ولن تراني في المستقبل في هذا الفضاء.. بعض من في مؤسسة التلفزة طاردني بكل الأساليب القذرة لأنني رفضت أن أدخل بيت الطاعة بعد الرضوخ للمساومات الخسيسة.. إنّ الانسان ليثور من أجل الكرامة والأنفة وقد يسحق ويموت لكنه يموت حين يموت واقفا.
لك خبرة هامة في الكتابة الدرامية… ما هي النقاط المعطّلة لنهضة درامية في بلادنا؟ هل هي المحاباة والعلاقات أم ضعف في الخيال والكتابة؟
نعم لدي خبرة في الكتابة الدرامية وقد وفّقت في عدّة أعمال نالت إعجاب الجمهور، وخلال تواصلي مع مؤسسة التلفزة عرفت الكثير عمّا يجري في المكاتب المغلقة وفي الأروقة والزوايا فأدركت انّ العلاقات بين الكاتب وبعض الرموز الفاعلة وخاصة ” الفاسدة ” هي التي تفتح الأبواب لقبول الأعمال. أمّا من يشقّ عصا الطّاعة فهو معرّض لكلّ المؤامرات والدسائس، وكم تعرّضت لمثل هذه الممارسات فلولا الصّبر والإيمان بما أكتب لانسحبت منذ بداية الطريق.. أحد الرؤساء العاميّن قبل الثورة قال لي: ” هل تظنّ أنّني أهمّ عنصر فاعل في هذه المؤسسة، أؤكّد لك أنّ أربعة أو خمسة من الموظفين لديّ يفوقونني نفوذا وسلطة.”
ما هي المسلسلات التونسية التي لفتت انتباهك في السنوات الاخيرة؟
لم اتابع المسلسلات ما دمت لن أستفيد ولن افيد. أليس من الأجدر ان أطالع ديوان شعر أو كتابا في السياسة؟ وهذا ما أفعل يوميّا.
ما رأيك مثلا في عملي “تاج الحاضرة” وأولاد مفيدة” على قناة الحوار التونسي؟
مسلسل ” تاج الحاضرة ” لم أشاهده ولن اشاهده بعد ان قررت الابتعاد عن دائرة الكتابة الدرامية، أمّا ” أولاد مفيدة ” فقد شاهدت عدّة حلقات منه فأصابني إحباط وخيبة.. “أولاد مفيدة ” عمليّة غوص في الجريمة المنظّمة والمخدّرات والأعمال القذرة.. إنّ مثل هذه الأعمال لها جمهورها فهنيئا له.
وعمل “علي شورّب” على “التاسعة”؟
هذا المسلسل شاهدته من أجل شخصية علي شورّب التي ترسّخت في الذاكرة الشعبية. أعتقد أن هذا العمل حقق نجاحا نسبيّا وربما كان بالإمكان التعمق أكثر في سيرة علي شورّب للاقتراب أكثر من الحقيقة والوقائع التي يتفق أغلب الذين عايشوا علي شورّب على ملامحها.. لقد اقترب المسلسل من واقع أفلام الواسترن والمافيا أكثر من واقع تونس علي شورّب.
لماذا بقيت بعض اعمالك على الرف مثل “جمل البنات” و”موسم الحب والغضب”؟
وستظل هذه الأعمال على الرفّ.. لقد كنت أفكر في المسلسل الذي تقدم به المنصف لزعر وقبلته لجنة القراءة بالأجماع لكنّ إرادة بعض المتنفذين أخذت تؤخرّ عملية انتاجه الى يومنا هذا، ولمّا توفّي المنصف لزعر ظننت وظنّ أهل الدراما أنّ المؤسسة ستكرم فنّانها الكبير بإنتاج مسلسله… الموضوع على الرفّ إلا انّ الحسابات الخاطئة واللاأخلاقية ووازع الانتقام حتى من الفنانين الموتى فعلت فعلها.
وما الذي حدث في كواليس المؤسسة الوطنية تحديدا وهل من حقائق لم تكشف عنها بعد؟
ما أعلم أنّ قرار انتاج مسلسل “جمل جنات” اتخذ قبل الثورة بسنوات قليلة إلاّ انّ خلافا قام بين المخرج المتميّز ” حمادي عرافة ” ورئيس المؤسسة آنذاك فكان المسلسل ضحيّة هذا الخلاف، ثمّ حدثت صراعات بيني وبين رئيس المؤسسة نشرت تفاصيلها في الصحف. أمّا مسلسل ” موسم الحبّ والغضب” فالذي حال دون عرضه على لجنة القراءة – وهذا أمر غريب وشاذّ – هو خلاف بيني وبين أحد المتنفذين والى يومنا هذا لم يعرض المسلسل على لجنة القراءة. أمّا أصل الخلاف فمن العيب أن أكشف تفاصيله.. هكذا هي اخلاق بعض المتنفذين في مؤسساتنا.
كمتابع وقارئ للأدب العربي كيف تقيّم المشهد الادبي وأية تجارب مثيرة للاهتمام؟
لست متابعا جيّدا لما يجري على الساحة الأدبيّة العربيّة، إلاّ انّني من خلال بعض مطالعاتي أصبت بخيبة ذلك أنّ الأحداث الكبرى والثورات التي تحدث في المجتمعات تثير عادة في أهل الإبداع رجّة فكرية قويّة تنتج عنها كتابات جديدة في الأغراض والأساليب والأشكال مثلما حدث بعد حرب 1967 بين العرب وإسرائيل، لكنّ الثورات العربية “الفاشلة” لم تحرّك في المثقفين ساكنا إلاّ قليلا أو من رحم ربّك.
وأين تصنف التجربة التونسية؟
لا أرى تجربة إنّما كتابات تتشابه جلّها مضمونا وشكلا.. إنّ أغلب المبدعين في تونس والدول العربية قد يكون اليأس بلغ منهم مبلغا عظيما من صلاح الأنظمة فاستسلموا للواقع التعيس وتماهوا معه.
كيف ترصد الشأن السياسي والى اين نحن سائرون؟
أرصد الأحداث السياسية يوميّا منذ الثورة المباركة التي سرعان ما انقلبت الى فوضى عارمة.. ترى كيف سيكون حال البلاد في زمن يباع فيه ممثلو الشعب في البرلمان ويشترون داخل الأروقة؟ كيف سيكون حال البلاد وقد ارتكبت فيها أفظع الجرائم – اغتيال شكري بلعيد والحاج محمد الابراهمي -ولم يحاسب أحد من المجرمين حتى الآن ؟ كيف سيكون الحال وآلاف الجمعيات ومئات الأحزاب تتمعّـش من المال الفاسد تحت رعاية نظام سياسي ليست له استراتيجية سياسية واقتصادية واضحة ؟.. كيف سيكون حال البلاد ورئيس الحكومة ويباشر الحكم يُنشئ بإمكانات الدولة ومواردها حزبا سياسيا ؟ إنّ سياسة تقوم على سرقة جيوب الفقراء والفئات المتوسّطة وفتح أبواب الفساد أمام الاقطاعيّين والمستكرشين الجدد -وهم بالآلاف المؤلفة- مثل هذه السياسة لن تقود حتما الاّ للخراب، والشواهد والصور لو عددناها وعرضناها مخجلة لنا أمام أنفسنا وأما العالم.
صدر بالعدد الأخير من “الشارع المغاربي”