الشارع المغاربي – الكاتب عيسى‭ ‬الجابلي‭ ‬لـ "الشارع المغاربي": الدّولة‭ ‬وهياكلها‭ ‬الثقافية‭ ‬تمارس‭ ‬جريمة‭ ‬ضد‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬مع‭ ‬سبق‭ ‬الإصرار‭ ‬والترصّد

الكاتب عيسى‭ ‬الجابلي‭ ‬لـ “الشارع المغاربي”: الدّولة‭ ‬وهياكلها‭ ‬الثقافية‭ ‬تمارس‭ ‬جريمة‭ ‬ضد‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬مع‭ ‬سبق‭ ‬الإصرار‭ ‬والترصّد

قسم الأخبار

17 يونيو، 2023

الشارع المغاربي-حاورته:عوطف البلدي: هو‭ ‬كاتب‭ ‬وقاصّ‭ ‬يبني‭ ‬عوالم‭ ‬مغايرة‭ ‬بطريقته‭ ‬الخاصّة‭ ‬لا‭ ‬بطريقة‭ ‬الأسلاف‭. ‬يكتب‭ ‬القصة‭ ‬القصيرة‭ ‬وأدب‭ ‬الطفل‭ ‬بعمق‭ ‬وباقتدار‭. ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬لفت‭ ‬انتباه‭ ‬النقّاد‭ ‬ولجان‭ ‬إسناد‭ ‬الجوائز‭ ‬فأهّلته‭ ‬كتاباته‭ ‬للفوز‭ ‬بـ‭ ‬4‭ ‬جوائز‭ ‬مهمّة‭ ‬منها‭ ‬جائزة‭ ‬مصطفى‭ ‬عزوز‭ ‬العربية‭ ‬لأدب‭ ‬الطفل‭ ‬التي‭ ‬حازها‭ ‬منذ‭ ‬أيام‭ ‬عن‭ ‬روايته‭ “‬أجنحة‭ ‬الياسمين‭” .. ‬هو‭ ‬الكاتب‭ ‬عيسى‭ ‬الجابلي‭ ‬الذي‭ ‬يستلهم‭ ‬كتاباته‭ ‬وقصصه‭ ‬من‭ ‬حكّائي‭ ‬وحكّاءات‭ ‬قريته‭ ‬بئر‭ ‬الحفي‭.‬‭ ‬

يراه‭ ‬المقرّبون‭ ‬كاتبا‭ ‬جيّدا‭ ‬ونراه‭ ‬كذلك‭ ‬مع‭ ‬إضافة‭ ‬بعض‭ ‬الصفات‭ ‬منها‭ ‬صفة‭ “‬الناقد‭ ‬اللاذع‭” ‬الذي‭ ‬يكتب‭ ‬بحدّة‭ ‬المشرط‭ ‬وبحنكة‭ ‬الاكاديمي‭. ‬ورغم‭ ‬تمكنه‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬إلا‭ ‬أنه‭ ‬مقلّ‭ ‬فيه‭. ‬حول‭ ‬الجائزة‭ ‬وتجربته‭ ‬وكتاباته‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الحوار‭.‬

ترشّحت‭ ‬مؤخرًا‭ ‬مع‭ ‬ما‭ ‬يناهز‭ ‬150‭ ‬مشاركًا‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬دولة‭ ‬وحزت‭ ‬على‭ ‬الجائزة‭ ‬العربية‭ ‬مصطفى‭ ‬عزوز‭ ‬لأدب‭ ‬الطفل‭ ‬عن‭ ‬روايتك‭ ‬الأولى‭ ‬لليافعين‭ ‬‮«‬أجنحة‭ ‬الياسمين‮»‬،‭ ‬لو‭ ‬تحدثنا‭ ‬أولاً‭ ‬عن‭ ‬طقوس‭ ‬وأسباب‭ ‬كتابة‭ ‬تلك‭ ‬الرواية؟

هي‭ ‬رواية‭ ‬كتبتها‭ ‬لولديّ‭. ‬كانا‭ ‬حينها‭ ‬في‭ ‬عطلة،‭ ‬وكانا‭ ‬مزعجيْن‭. ‬عقدنا‭ ‬معاهدة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نسمّيها‭ ‬‮«‬الهدوء‭ ‬مقابل‭ ‬الحكي‮»‬،‭ ‬أي‭ ‬أن‭ ‬يهدآ‭ ‬ويمارسا‭ ‬ألعابًا‭ ‬لا‭ ‬تثير‭ ‬الزوابع‭ ‬في‭ ‬المنزل‭ ‬مقابل‭ ‬تسليمهما‭ ‬رواية‭ ‬خلال‭ ‬أسبوع‭ ‬أو‭ ‬عشرة‭ ‬أيام‭ ‬على‭ ‬أقصى‭ ‬تقدير‭. ‬لمّا‭ ‬جلست‭ ‬إلى‭ ‬طاولة‭ ‬الكتابة‭ ‬أحسست‭ ‬بأنّني‭ ‬في‭ ‬ورطة‭ ‬لأنّ‭ ‬ذهني‭ ‬خالٍ‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬فكرة‭. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬خطرت‭ ‬في‭ ‬ذهني‭ ‬أوّل‭ ‬جملة‭. ‬حينها‭ ‬تورّطت‭ ‬فعلاً،‭ ‬وأصبح‭ ‬الموضوع‭ ‬جدّيًّا‭. ‬لمّا‭ ‬أنهيت‭ ‬الفصل‭ ‬الأوّل‭ ‬خرقا‭ ‬المعاهدة‭ ‬وعاد‭ ‬القصف‭ ‬على‭ ‬أشدّه‭ ‬في‭ ‬المنزل‭: ‬صياح‭ ‬ومقابلات‭ ‬كرة‭ ‬قدم‭ ‬بالوسائد‭ ‬ومطاردات‭ ‬وخصام‭ ‬وهراش‭ ‬بالأيدي‭ ‬وزوابع‭ ‬عنيفة‭ ‬ما‭ ‬إن‭ ‬تهدأ‭ ‬حتّى‭ ‬تندلع‭ ‬من‭ ‬جديد‭. ‬ولكنّني‭ ‬جعلت‭ ‬إنهاءها‭ ‬تحدّيًا‭ ‬شخصيًّا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬انتهيت‭ ‬منها‭ ‬في‭ ‬مدّة‭ ‬وجيزة‭. ‬طبعتها‭ ‬على‭ ‬الورق‭ ‬وسلمتها‭ ‬إليهما،‭ ‬فأقبلا‭ ‬عليها‭ ‬يقرآنها‭ ‬بنهم‭. ‬كنت‭ ‬جالسًا‭ ‬قريبًا‭ ‬منهما‭ ‬أراقب‭ ‬ردود‭ ‬أفعالهما‭. ‬بكى‭ ‬نبراس‭ ‬في‭ ‬موقف‭ ‬ما‭. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬انتهيا‭ ‬من‭ ‬قراءتها‭ ‬أثنيا‭ ‬على‭ ‬الأحداث‭ ‬والشخصيّات،‭ ‬لأنّهما‭ ‬كانا‭ ‬بطلَيْ‭ ‬الرواية،‭ ‬فقد‭ ‬جعلتهما‭ ‬بطلين‭ ‬وذكرتهما‭ ‬بالاسم‭ ‬فيها‭. ‬احسّا‭ ‬بسعادة‭ ‬بالغة،‭ ‬سرعان‭ ‬ما‭ ‬انتقلت‭ ‬إليّ‭ ‬فملأت‭ ‬قلبي‭ ‬فرحًا‭.‬

إنتاج‭ ‬غزير‭ ‬وجائزة‭ ‬وحيدة‭ ‬مختصة‭ ‬تقريبًا‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬نقل‭ ‬الأهمّ‭ ‬قيمة‭ ‬ومصداقية‭ ‬ولجنةً‭.. ‬فيمَ‭ ‬تكمن‭ ‬قيمتها؟

قيمة‭ ‬الجائزة‭ ‬المعنوية‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬قيمتها‭ ‬الماديّة‭ ‬مقارنة‭ ‬بجوائز‭ ‬عربية‭ ‬أخرى‭ ‬تخصّص‭ ‬مئات‭ ‬الملايين‭ ‬لجوائز‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّها‭ ‬معروفة‭ ‬بنزاهتها‭ ‬العائدة‭ ‬إلى‭ ‬اللجنة‭ ‬المشرفة‭ ‬ولجنة‭ ‬التحكيم‭ ‬وطريقة‭ ‬التحكيم‭ ‬في‭ ‬حدّ‭ ‬ذاتها‭ ‬إذ‭ ‬أن‭ ‬اللجنة‭ ‬تصلها‭ ‬نصوص‭ ‬دون‭ ‬أسماء‭ ‬ولا‭ ‬تعلم‭ ‬اللجنة‭ ‬بالأسماء‭ ‬إلاّ‭ ‬يوم‭ ‬إعلان‭ ‬النتيجة،‭ ‬حتّى‭ ‬أنّ‭ ‬الأستاذة‭ ‬سعدية‭ ‬بن‭ ‬سالم‭ ‬كانت‭ ‬تسألني‭ ‬قبل‭ ‬الإعلان‭ ‬عن‭ ‬النتائج‭ ‬بعشر‭ ‬دقائق‭ ‬عن‭ ‬عنوان‭ ‬روايتي،‭ ‬لأنها‭ ‬تعرف‭ ‬العنوان‭ ‬الفائز‭ ‬ولكنها‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬صاحبه‭.‬

الجائزة‭ ‬اعتراف‭ ‬من‭ ‬لجنة‭ ‬ما‭ ‬بقيمة‭ ‬عمل‭ ‬أدبيّ‭ ‬فنيًّا‭ ‬ودلاليًّا‭. ‬وقد‭ ‬سعدت‭ ‬سعادة‭ ‬بالغة‭ ‬لإحساسي‭ ‬بنزاهة‭ ‬اللجنة‭ ‬أولاً،‭ ‬ولأنّني‭ ‬لم‭ ‬أكتب‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الجائزة‭ ‬ثانيًا‭. ‬إذ‭ ‬كتبتها‭ ‬للولدين‭ ‬لإسعادهما‭ ‬وتخفيف‭ ‬الضّغط‭ ‬عليهما،‭ ‬ولم‭ ‬أفكّر‭ ‬حتّى‭ ‬في‭ ‬نشرها‭.‬

أمّا‭ ‬عن‭ ‬غزارة‭ ‬إنتاج‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال،‭ ‬فهي‭ ‬مسألة‭ ‬إيجابيّة‭ ‬تعكس‭ ‬اهتمام‭ ‬النّاس‭ ‬بأدب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين،‭ ‬ولكنّها‭ ‬سلبيّة‭ ‬لأنها‭ ‬تعكس‭ ‬استسهالاً‭ ‬لهذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبيّ‭ ‬وتسيّبًا‭ ‬وانفلاتًا‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬يفترض‭ ‬فيه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬أكثر‭ ‬تنظيمًا‭ ‬وتأطيرًا‭. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬الأسف‭ ‬لدينا‭ ‬فكرة‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬أذهان‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬الكتاب‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬الكتابة‭ ‬للطفل‭ ‬مسألة‭ ‬سهلة،‭ ‬فيكفي‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬معلمًا‭ ‬أو‭ ‬أستاذًا‭ ‬أو‭ ‬مربّي‭ ‬طفولة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬موظفًا‭ ‬في‭ ‬وزارة‭ ‬الشؤون‭ ‬الاجتماعية‭ ‬أو‭ ‬المرأة‭ ‬والأسرة‭ ‬لتكتب‭ ‬للأطفال،‭ ‬بل‭ ‬إنّ‭ ‬كثيرين‭ ‬يدخلون‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬لأنّهم‭ ‬لم‭ ‬يستطيعوا‭ ‬أن‭ ‬يكتبوا‭ ‬للكبار‭ ‬أو‭ ‬لأنهم‭ ‬لم‭ ‬يستطيعوا‭ ‬أن‭ ‬يكونوا‭ ‬شيئًا‭ ‬يذكر،‭ ‬فاقتحموا‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬اقتحامًا‭ ‬وراحوا‭ ‬يُمطرون‭ ‬الأطفال‭ ‬والناشئة‭ ‬بكوارث‭ ‬وجرائم‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬‮«‬كتب‮»‬‭ ‬لو‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬يحترم‭ ‬نفسه‭ ‬لحاكم‭ ‬أصحابها‭ ‬جزائيًّا‭ ‬بتهمة‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬الطفولة‭.‬

لماذا‭ ‬تكتب‭ ‬لليافعين‭ ‬وماهي‭ ‬نظرتك‭ ‬للطفل؟‭ ‬

أكتب‭ ‬للأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬لأنني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربتي‭ ‬مع‭ ‬ولديّ‭ ‬لاحظت‭ ‬النقص‭ ‬الذي‭ ‬تعانيه‭ ‬المكتبة‭ ‬التونسية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال،‭ ‬فلو‭ ‬حذفنا‭ ‬ما‭ ‬أشرت‭ ‬إليه‭ ‬سابقًا‭ ‬وسحبناه‭ ‬من‭ ‬المكتبات‭ ‬لوجدنا‭ ‬أن‭ ‬عدد‭ ‬الكتب‭ ‬المقبولة‭ ‬أو‭ ‬الجيدة‭ ‬قليل‭ ‬جداً‭ ‬ونادر،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬الكتاب‭ ‬المتخصصين‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬قليلون‭ ‬جدًّا‭ ‬وإنتاجهم‭ ‬لا‭ ‬يغطّي‭ ‬احتياجات‭ ‬هذه‭ ‬الفئة‭ ‬وهي‭ ‬الفئة‭ ‬الأكثر‭ ‬إقبالا‭ ‬على‭ ‬القراءة‭. ‬أما‭ ‬السبب‭ ‬الثاني‭ ‬فهو‭ ‬مطالعتي‭ ‬لمئات‭ ‬القصص‭ ‬والروايات‭ ‬المتنوعة‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬كنت‭ ‬طفلاً،‭ ‬ولا‭ ‬شكّ‭ ‬في‭ ‬أنّ‭ ‬ذلك‭ ‬التراكم‭ ‬القرائيّ‭ ‬قد‭ ‬دفعني‭ ‬عن‭ ‬وعي‭ ‬أو‭ ‬عن‭ ‬غيره‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭. ‬ولنظف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬الأسباب‭ ‬الذاتية‭ ‬التي‭ ‬ذكرتها‭ ‬سابقًا‭ ‬في‭ ‬علاقة‭ ‬بطفليّ‭ ‬نبراس‭ ‬وضياء‭.‬

تعتبر‭ ‬الكتابة‭ ‬للطفل‭ ‬ولليافعين‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬الكتابات‭.. ‬كيف‭ ‬تجاوزت‭ ‬هذه‭ ‬الصعوبات؟

فعلاً‭ ‬هي‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬الكتابات‭ ‬وأخطرها‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬سلباً‭ ‬أو‭ ‬إيجاباً‭. ‬وقد‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬سببًا‭ ‬في‭ ‬خوفي‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬والتردد‭ ‬في‭ ‬خوضه‭. ‬أقصد‭ ‬خوف‭ ‬الإحساس‭ ‬بالمسؤولية‭ ‬الجسيمة‭ ‬التي‭ ‬يواجهها‭ ‬كاتب‭ ‬يقرر‭ ‬الكتابة‭ ‬للأطفال‭ ‬واليافعين‭. ‬نحن‭ ‬الكبار‭ ‬أغبياء،‭ ‬أغبياء‭ ‬بمعنى‭ ‬أننا‭ ‬نقرأ‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يقع‭ ‬بين‭ ‬أيدينا‭. ‬أمّا‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعون‭ ‬فإنهم‭ ‬أكثر‭ ‬جرأة‭ ‬على‭ ‬التخلّي‭ ‬عن‭ ‬الكتب‭ ‬الرديئة،‭ ‬فلا‭ ‬يجدون‭ ‬حرجًا‭ ‬في‭ ‬التخلي‭ ‬عن‭ ‬كتاب‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تشدهم‭ ‬صفحاتها‭ ‬الأولى،‭ ‬ولا‭ ‬يتردّدون،‭ ‬بجرأة‭ ‬الأطفال،‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬آرائهم‭ ‬وتقييم‭ ‬الكتب‭ ‬الرديئة‭ ‬بوضوح‭ ‬لأن‭ ‬المجتمع‭ ‬لم‭ ‬يعلمهم‭ ‬النفاق‭ ‬والتزلّف‭ ‬بعد‭. ‬اما‭ ‬نحن‭ ‬الكبار‭ ‬فلنا‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬الكذب‭ ‬والمدح‭ ‬المخادع‭ ‬والثناء‭ ‬الزائف‭ ‬لأسباب‭ ‬عديدة‭.‬

أما‭ ‬عن‭ ‬كيفية‭ ‬تغلّبي‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المصاعب،‭ ‬فقد‭ ‬خضت‭ ‬في‭ ‬2018‭ ‬ورشة‭ ‬تدريبية‭ ‬لمدة‭ ‬عام‭ ‬تقريبًا‭ ‬نظمتها‭ ‬مؤسسة‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬راشد‭ ‬آل‭ ‬مكتوم‭ ‬للمعرفة‭ ‬ضمن‭ ‬برنامج‭ ‬دبي‭ ‬الدولي‭ ‬للكتابة،‭ ‬وقد‭ ‬أشرفت‭ ‬علينا‭ ‬خبيرة‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬أعتبرها‭ ‬من‭ ‬أبرز‭ ‬المتخصصين‭ ‬العرب‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجنس،‭ ‬هي‭ ‬الأستاذة‭ ‬وفاء‭ ‬ثابت‭ ‬المزغني‭. ‬خلال‭ ‬الورشة‭ ‬التي‭ ‬أدارتها‭ ‬بحنكة‭ ‬صحّحت‭ ‬لديّ‭ ‬كثيرًا‭ ‬من‭ ‬المفاهيم‭ ‬الخاطئة‭ ‬وتعلّمت‭ ‬كيفية‭ ‬بناء‭ ‬قصة‭ ‬للأطفال،‭ ‬ودربتنا‭ ‬على‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬النصوص‭ ‬والرسوم‭ ‬والخطوط‭ ‬والألوان‭ ‬وأنواع‭ ‬الشخصيات‭ ‬والحبكات،‭ ‬وأطلعتنا‭ ‬على‭ ‬تجارب‭ ‬عالمية‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين،‭ ‬وما‭ ‬تعلمته‭ ‬خلال‭ ‬تلك‭ ‬الورشة‭ ‬يعادل‭ ‬شهادة‭ ‬أستاذية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المحتوى‭ ‬المعرفي‭ ‬الذي‭ ‬اكتسبته‭.‬

ولم‭ ‬أكتف‭ ‬بذلك‭ ‬بل‭ ‬عثرت‭ ‬على‭ ‬ورشة‭ ‬للكتابة‭ ‬أشرفت‭ ‬عليها‭ ‬الكاتبة‭ ‬المتميزة‭ ‬ماريا‭ ‬دعدوش‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الانترنت،‭ ‬أما‭ ‬الورشة‭ ‬الثالثة‭ ‬فقد‭ ‬خضتها‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬الفارط‭ ‬وأشرفت‭ ‬عليها‭ ‬الكاتبة‭ ‬المتميزة‭ ‬والمدربة‭ ‬ريما‭ ‬كردي‭. ‬أكسبتني‭ ‬هذه‭ ‬الورشات‭ ‬الثلاث‭ ‬معارف‭ ‬ومهارات‭ ‬كثيرة،‭ ‬وتكونت‭ ‬لديّ‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬تقييم‭ ‬النصوص‭ ‬والتعامل‭ ‬معها‭ ‬بعين‭ ‬ناقدة‭ ‬لا‭ ‬بمجرد‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬العاطفة،‭ ‬واكتشفت‭ ‬أن‭ ‬قصصاً‭ ‬كثيرة‭ ‬تسوّق‭ ‬للأطفال‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬جرائم‭ ‬في‭ ‬حقهم‭. ‬اكتفي‭ ‬هنا‭ ‬بمثال‭ ‬واحد‭: ‬مثل‭ ‬القبّرة‭ ‬والفيل‭ ‬لأبن‭ ‬المقفع‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يغرس‭ ‬في‭ ‬الطفل‭ ‬سوى‭ ‬مبدإ‭ ‬‮«‬العين‭ ‬بالعين‭ ‬والسن‭ ‬بالسن‭ ‬والبادئ‭ ‬أظلم‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬قرون‭ ‬بعيدة‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬فيها‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬القانون‭ ‬بل‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬القوي‭ ‬يأكل‭ ‬الضعيف‮»‬‭ ‬ويغرس‭ ‬فيه‭ ‬مبدأ‭ ‬الانتقام‭ ‬من‭ ‬الآخرين‭ ‬إذا‭ ‬أساؤوا‭ ‬إلينا،‭ ‬والتغرير‭ ‬بهم‭ ‬للإيقاع‭ ‬بهم،‭ ‬ولنا‭ ‬أن‭ ‬نقيس‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬عديد‭ ‬القصص‭ ‬الأخرى‭ ‬المستلهمة‭ ‬من‭ ‬‮«‬التراث‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬كتب‭ ‬أساساً‭ ‬للكبار‭.‬

هل‭ ‬ثمة‭ ‬شروط‭ ‬معيّنة‭ ‬لنجاح‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الكتابات؟

ليست‭ ‬هناك‭ ‬شروط‭ ‬واضحة‭. ‬والسبب‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬عائد‭ ‬إلى‭ ‬التسمية‭ ‬نفسها،‭ ‬فنحن‭ ‬نقول‭ ‬‮«‬أدب‭ ‬الطفل‮»‬،‭ ‬والحال‭ ‬أن‭ ‬الطفل‭ ‬أطفال،‭ ‬والأسلم‭ ‬هو‭ ‬الجمع‭ ‬لأن‭ ‬عالم‭ ‬الأطفال‭ ‬عالم‭ ‬متنوع‭ ‬جداً،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فنحن‭ ‬لا‭ ‬نكتب‭ ‬إلى‭ ‬طفل‭ ‬بعينه،‭ ‬لأنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬صناديقَ‭ ‬متشابهة،‭ ‬بل‭ ‬إنهم‭ ‬العالم‭ ‬الأكثر‭ ‬ثراء‭ ‬وتنوعًا‭ ‬واختلافًا‭ ‬حد‭ ‬التناقض‭ ‬أحيانًا‭. ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬دأب‭ ‬نقاد‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬إلى‭ ‬تقسيمه‭ ‬حسب‭ ‬الفئات‭ ‬العمرية،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬تقديري‭ ‬تقسيم‭ ‬محدود‭ ‬لأنه‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬الأطفال‭ ‬بنظرة‭ ‬تسطيحية‭ ‬وتبسيطية،‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬من‭ ‬تبدأ‭ ‬مراهقته‭ ‬في‭ ‬الحادية‭ ‬عشرة‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬يدخلها‭ ‬آخرون‭ ‬في‭ ‬السادسة‭ ‬عشرة‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬في‭ ‬العشرين،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬فينا‭ ‬من‭ ‬يحافظ‭ ‬على‭ ‬نزعته‭ ‬الطفولية‭ ‬حتى‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬الأربعين‭ ‬أو‭ ‬الخمسين،‭ ‬والدليل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬أننا‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬متقدم‭ ‬نستمتع‭ ‬أحيانًا‭ ‬بسلاسلَ‭ ‬وأفلامًا‭ ‬طفولية‭. ‬فكيف‭ ‬نقسّم‭ ‬الفئات‭ ‬العمريّة‭ ‬ذاك‭ ‬التقسيم‭ ‬الصارم؟

إذن‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬وغيره‭ ‬كثير،‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬وضع‭ ‬خطاطة‭ ‬ناجعة‭ ‬أو‭ ‬وصفة‭ ‬جاهزة‭ ‬ومثالية‭ ‬لنجاح‭ ‬هذا‭ ‬اللون‭ ‬من‭ ‬الأدب،‭ ‬ولكنني‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تجربتي‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬أحداث‭ ‬القصة‭ ‬مشوقة،‭ ‬وشخصياتها‭ ‬حيوية‭ ‬وفاعلة‭ ‬ولها‭ ‬مواقفها‭ ‬ورؤاها‭ ‬الخاصة‭ ‬وآراؤها‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬يحصل‭ ‬حولها‭. ‬كما‭ ‬أحرص‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬بلغة‭ ‬رفيعة‭ ‬تحترم‭ ‬ذكاء‭ ‬الطفل‭ ‬وقدرته‭ ‬على‭ ‬الفهم‭. ‬أما‭ ‬الطفل‭ ‬الذي‭ ‬أكتب‭ ‬له‭ ‬فهو‭ ‬الطفل‭ ‬الرقميّ‭ ‬الذي‭ ‬يقيم‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬تتبدّل‭ ‬‮«‬حقائقه‮»‬‭ ‬كلّ‭ ‬ثانية‭ ‬أو‭ ‬ثانيتين،‭ ‬طفل‭ ‬يقطن‭ ‬واقعاً‭ ‬معقّدا‭ ‬وسريعاً‭ ‬جداً‭. ‬ثم‭ ‬إنه‭ ‬طفل‭ ‬الألفية‭ ‬الثالثة،‭ ‬وأعتقد‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الحالي‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬يعيش‭ ‬الواقع‭ ‬الأصعب‭ ‬على‭ ‬مرّ‭ ‬التاريخ،‭ ‬الأصعب‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬تعقيده‭ ‬وكثرة‭ ‬مشاكله‭ ‬حتى‭ ‬ليشعر‭ ‬الأطفال‭ ‬أنهم‭ ‬يتحركون‭ ‬فوق‭ ‬أرض‭ ‬ملغومة‭ ‬بالأمراض‭ ‬والأوبئة‭ ‬والكوارث‭ ‬الطبيعية‭ ‬والمخدرات‭ ‬والجريمة‭ ‬ومساوئ‭ ‬العالم‭ ‬الرقمي‭ ‬وخطورتها‭ ‬البالغة‭ ‬على‭ ‬تفكيرهم،‭ ‬ثم‭ ‬إنني‭ ‬أعتبر‭ ‬هذا‭ ‬الجيل‭ ‬الحالي‭ ‬الأذكى‭ ‬على‭ ‬الإطلاق‭ ‬لقدرته‭ ‬رغم‭ ‬ما‭ ‬سبق‭ ‬على‭ ‬التأقلم‭ ‬وإثبات‭ ‬الذات،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬نفهمه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الآن،‭ ‬إذ‭ ‬كثيراً‭ ‬ما‭ ‬نحاول‭ ‬أن‭ ‬ننتصب‭ ‬أوصياء‭ ‬عليه‭ ‬في‭ ‬لباسه‭ ‬وتفكيره‭ ‬ونظرته‭ ‬إلى‭ ‬العالم،‭ ‬ونحاول‭ ‬أن‭ ‬نقدم‭ ‬له‭ ‬نماذج‭ ‬تُحتذى،‭ ‬والحال‭ ‬أنه‭ ‬جيل‭ ‬يكفر‭ ‬بالنماذج‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬نوعها‭ ‬دينياً‭ ‬وسياسياً‭ ‬وثقافياً،‭ ‬ويسعى‭ ‬لهدمها‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تمثله‭. ‬وهذا‭ ‬أكبر‭ ‬خطإ‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬كتاب‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬نظري‭. ‬إذ‭ ‬يقدمون‭ ‬دومًا‭ (‬مسكونين‭ ‬بهاجس‭ ‬السلطة‭ ‬وامتلاك‭ ‬المعرفة‭ ‬والتجربة‭ ‬والخبرة‭) ‬نماذج‭ ‬جاهزة‭ ‬لأطفال‭ ‬همّهم‭ ‬دفنها‭.‬

وكيف‭ ‬تنظر‭ ‬لنسق‭ ‬تطور‭ ‬هذا‭ ‬الادب‭ ‬ولرموزه‭ ‬من‭ ‬الكتّاب‭ ‬التونسيين‭ ‬والعرب‭ ‬؟

هناك‭ ‬اهتمام‭ ‬متزايد‭ ‬بأدب‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬والعالم‭ ‬العربي،‭ ‬وهناك‭ ‬تراكم‭ ‬لأسباب‭ ‬يطول‭ ‬شرحها‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬ماديّ‭ ‬بما‭ ‬أنّ‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬هم‭ ‬الفئة‭ ‬الأكثر‭ ‬إقبالاً‭ ‬على‭ ‬المطالعة،‭ ‬بما‭ ‬أن‭ ‬الكبار‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬يقرؤون‭ ‬ويريدون‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬أطفالهم‭ ‬ويحبوا‭ ‬المطالعة،‭ ‬وبالتالي‭ ‬فإن‭ ‬كتب‭ ‬الأطفال‭ ‬تحقق‭ ‬نسب‭ ‬مبيعات‭ ‬وتدرّ‭ ‬أرباحاً‭ ‬على‭ ‬دور‭ ‬النّشر،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬كثرة‭ ‬الجوائز‭ ‬عربياً،‭ ‬والاهتمام‭ ‬الكبير‭ ‬بأدب‭ ‬الأطفال‭ ‬في‭ ‬الغرب‭. ‬هذه‭ ‬الأسباب‭ ‬وغيرها‭ ‬كثير‭ ‬وجهت‭ ‬اهتمامنا‭ ‬بأدب‭ ‬الأطفال‭ ‬فتحقق‭ ‬تراكم‭ ‬نسبي‭ ‬في‭ ‬كتب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين،‭ ‬ولكن‭ ‬ذلك‭ ‬سلبي‭ ‬أيضاً‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬هب‭ ‬ودب‭ ‬صار‭ ‬يكتب‭ ‬للأطفال،‭ ‬رغم‭ ‬أن‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬الكتب‭ ‬هي‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬جرائم‭ ‬شنيعة‭ ‬ترتكب‭ ‬ضدهم‭.‬

أيّة‭ ‬جرائم‭ ‬ومن‭ ‬المسؤول‭ ‬عنها؟

نعم‭ ‬هناك‭ ‬أخطاء‭ ‬كثيرة‭ ‬تصل‭ ‬حد‭ ‬الجرائم‭ ‬في‭ ‬تقديري،‭ ‬فقد‭ ‬قرأت‭ ‬قصصا‭ ‬مصوّرة‭ ‬موجهة‭ ‬للأطفال‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬عنف‭ ‬وقطع‭ ‬رؤوس‭ ‬وانتحار‭ ‬وغيرها‭ ‬مما‭ ‬لا‭ ‬يتلاءم‭ ‬مع‭ ‬أي‭ ‬طفل،‭ ‬ومنها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬قصة‭ ‬‮«‬عليسة‮»‬‭ ‬التي‭ ‬كتبها‭ ‬متفقّد‭ ‬عام‭ ‬للتربية‭ ‬ويدرّسها‭ ‬المعلمون‭ ‬للتلاميذ‭ ‬في‭ ‬حصة‭ ‬المطالعة‭ ‬وهم‭ ‬في‭ ‬عمر‭ ‬الثامنة،‭ ‬وهي‭ ‬قصة‭ ‬جريمة‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬لأنها‭ ‬تتضمن‭ ‬مشهدا‭ ‬يصور‭ ‬انتحار‭ ‬عليسة‭ ‬حرقاً‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القصّة،‭ ‬وهذه‭ ‬خطيئة‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الطّفل‭ ‬الذي‭ ‬سيقترن‭ ‬في‭ ‬ذهنه‭ ‬معنى‭ ‬البطولة‭ ‬والرمزية‭ ‬التاريخية‭ ‬والاعتبارية‭ ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬سلبي‭ ‬هو‭ ‬الانتحار،‭ ‬ثم‭ ‬نتساءل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بعد‭: ‬لماذا‭ ‬يقدم‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬على‭ ‬الانتحار؟

كيف‭ ‬تنظر‭ ‬الهياكل‭ ‬المشرفة‭ ‬على‭ ‬الثقافة‭ ‬لهذا‭ ‬القطاع‭ ‬؟

تمارس‭ ‬الدّولة‭ ‬وهياكلها‭ ‬الثقافية‭ ‬من‭ ‬وزارات‭ ‬وغيرها‭ ‬جريمة‭ ‬ضد‭ ‬الاطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬مع‭ ‬سبق‭ ‬الإصرار‭ ‬والترصّد،‭ ‬ذلك‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تفرض‭ ‬أية‭ ‬رقابة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬المنشورات،‭ ‬ولم‭ ‬تفكّر‭ ‬في‭ ‬بعث‭ ‬هيكل‭ ‬رقابي‭ ‬تخضع‭ ‬كل‭ ‬المنشورات‭ ‬المقروءة‭ ‬والمكتوبة‭ ‬والمسموعة‭ ‬والمرئية‭ ‬لموافقته‭ ‬المسبقة‭ ‬قبل‭ ‬إصدارها‭ ‬رسمياً‭. ‬هذا‭ ‬معمول‭ ‬به‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬تحترم‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬مثلاً‭. ‬وحتى‭ ‬عربياً‭ ‬تعتبر‭ ‬الإمارات‭ ‬أنموذجا‭ ‬يحتذى‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المجال‭ ‬لأنّها‭ ‬أسست‭ ‬مجلسا‭ ‬وطنياً‭ ‬لأدب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين،‭ ‬وكثّفت‭ ‬من‭ ‬ورشات‭ ‬الكتابة‭ ‬وطورت‭ ‬مسابقاتها‭ ‬العديدة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الشأن‭. ‬أما‭ ‬نحن‭ ‬فهل‭ ‬سمعت‭ ‬يوما‭ ‬وزيرا‭ ‬أو‭ ‬رئيسا‭ ‬يتحدث‭ ‬عن‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‭ ‬واليافعين؟‭ ‬أين‭ ‬وزيرة‭ ‬المرأة؟‭ ‬هل‭ ‬ترينها‭ ‬في‭ ‬نشاط‭ ‬مثلاً؟‭ ‬جاءت‭ ‬لتملأ‭ ‬جيوبها‭ ‬نقوداً‭ ‬وترحل‭. ‬وما‭ ‬الذي‭ ‬قدمته‭ ‬وزيرة‭ ‬الثقافة‭ ‬غير‭ ‬مجالس‭ ‬التأديب‭ ‬التي‭ ‬تذبح‭ ‬بها‭ ‬مثقفين‭ ‬وشعراء‭ ‬وكتاباً؟‭ ‬هم‭ ‬غير‭ ‬معنيين‭ ‬بهذا‭ ‬الشأن‭ ‬الذي‭ ‬أعتبره‭ ‬مسألة‭ ‬سيادية‭ ‬أهم‭ ‬من‭ ‬وزارة‭ ‬الدفاع‭ ‬نفسها‭. ‬هل‭ ‬يفكر‭ ‬رئيس‭ ‬الجمهورية‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬كهذا؟‭ ‬هو‭ ‬يخوض‭ ‬معركة‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬السميد‭ ‬والزيت‭ ‬والمقرونة‭ ‬ويسب‭ ‬ويشتم‭ ‬ويزمجر‭ ‬ولا‭ ‬يجيد‭ ‬الابتسام‭ ‬إلاّ‭ ‬لمسؤولين‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬تونس‭.‬

هل‭ ‬تعتبره‭ ‬قطاعا‭ ‬منظّما‭ ‬أم‭ ‬عشوائيا‭ ‬أم‭ ‬تجاريا‭ ‬بالأساس؟

هو‭ ‬أكثر‭ ‬القطاعات‭ ‬فوضوية‭ ‬يغلب‭ ‬عليه‭ ‬الجانب‭ ‬التجاري‭ ‬أساساً‭ ‬لأن‭ ‬كتب‭ ‬الأطفال‭ ‬تدرّ‭ ‬الأرباح‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬جودة‭ ‬الكتب‭ ‬شكلاً‭ ‬ومضموناً‭. ‬يتعامل‭ ‬الكتّاب‭ ‬معه‭ ‬باستسهال‭ ‬سخيف،‭ ‬وتتعامل‭ ‬معه‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬بوصفة‭ ‬فرصة‭ ‬لمزيد‭ ‬تكديس‭ ‬الأموال‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الجودة‭.‬

لماذا‭ ‬تنفر‭ ‬أغلب‭ ‬دور‭ ‬النشر‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأدب؟‭ ‬وهل‭ ‬ثمة‭ ‬محتكرون‭ ‬له؟

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬هو‭ ‬الكلفة‭ ‬لأن‭ ‬كتب‭ ‬الأطفال‭ ‬تحتاج‭ ‬أولا‭ ‬إلى‭ ‬كاتب‭ ‬متمرس‭ ‬خضع‭ ‬لتكوين‭ ‬معرفي‭ ‬وخاض‭ ‬ورشة‭ ‬تدريبية‭ ‬كي‭ ‬يتجنب‭ ‬المآزق‭ ‬والمنزلقات،‭ ‬كما‭ ‬تحتاج‭ ‬رسامين‭ ‬متخصصين‭ ‬في‭ ‬الرسم‭ ‬للأطفال،‭ ‬وهذا‭ ‬الاختصاص‭ ‬نادر‭ ‬في‭ ‬تونس‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معدوماً،‭ ‬كما‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬مصممين‭ ‬للكتب‭ ‬والأغلفة،‭ ‬ومحررين‭ ‬أدبيين‭ ‬متخصصين‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬يجعل‭ ‬من‭ ‬كتاب‭ ‬الطفل‭ ‬مرتفع‭ ‬السعر،‭ ‬وقصة‭ ‬مصورة‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬صفحة‭ ‬قد‭ ‬يبلغ‭ ‬سعرها‭ ‬50‭ ‬ديناراً‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬أكثر‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬احترمت‭ ‬ضوابط‭ ‬النشر‭ ‬حرفياً،‭ ‬لهذا‭ ‬السبب‭ ‬يقبل‭ ‬الناشرون‭ ‬عادة‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬كتب‭ ‬تافهة‭ ‬ورديئة‭ ‬لا‭ ‬روح‭ ‬فيها‭.‬

ولماذا‭ ‬يترفّع‭ ‬النقّاد‭ ‬عن‭ ‬التعاطي‭ ‬مع‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‭ ‬واليافعين‭ ‬ويعتبرونه‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية‭ ‬علما‭ ‬انه‭ ‬أنتج‭ ‬أعمالا‭ ‬عظيمة‭ ‬مثل‭ ‬‮”‬أليس‭ ‬في‭ ‬بلاد‭ ‬العجائب‮‬‭ ‬و”بينوكيو‮”‬‭ ‬و”جزيرة‭ ‬الكنز”؟

النقّاد‭ ‬لم‭ ‬يلحقوا‭ ‬بعد‭ ‬بركب‭ ‬أدب‭ ‬الكبار‭ ‬المتسارع‭. ‬تجاوزتهم‭ ‬الأحداث‭ ‬والنصوص‭ ‬وغلبهم‭ ‬التيار،‭ ‬فما‭ ‬بالك‭ ‬باهتمامهم‭ ‬بأدب‭ ‬الأطفال‭ ‬واليافعين‭ ‬الذي‭ ‬يقتضي‭ ‬تخصصاً‭ ‬لا‭ ‬وجود‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬التونسية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الآن‭ (‬تصوري‭!!!)‬

شاركت‭ ‬بورشات‭ ‬تكوينية‭ ‬في‭ ‬أدب‭ ‬الطفل‭.. ‬فيم‭ ‬تكمن‭ ‬أهميتها‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليك؟

ما‭ ‬تعلمته‭ ‬في‭ ‬ورشات‭ ‬الكتابة‭ ‬للطفل‭ ‬سدّ‭ ‬نقصاً‭ ‬كبيراً‭ ‬في‭ ‬تكويني،‭ ‬فنحن‭ ‬لم‭ ‬نتعرض‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬مطلقا‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬الجامعة‭. ‬لذلك‭ ‬أضاءت‭ ‬الورشات‭ ‬الطريق‭ ‬أمامي‭ ‬وعلمتني‭ ‬كيفية‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬أدب‭ ‬الأطفال‭ ‬وخصوصياته‭ ‬شكلا‭ ‬ومضمونا‭. ‬ولو‭ ‬أتيحت‭ ‬لي‭ ‬فرصة‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬مزيد‭ ‬من‭ ‬الورشات‭ ‬فلن‭ ‬أتردد‭ ‬لأنني‭ ‬واع‭ ‬بمسؤوليتي‭ ‬تجاه‭ ‬الأطفال،‭ ‬وأكتب‭ ‬كي‭ ‬أسدّ‭ ‬فراغاً‭ ‬وأمنع‭ ‬ما‭ ‬فيه‭ ‬من‭ ‬كوارث،‭ ‬ولست‭ ‬مستعداً‭ ‬لأن‭ ‬أرتكب‭ ‬كوارث‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬أطفال‭ ‬تونس‭ ‬وبناتها‭.‬

ثمّة‭ ‬خلط‭ ‬أو‭ ‬ربّما‭ ‬جهل‭ ‬متعلّق‭ ‬بأدب‭ ‬الطفل‭ ‬والناشئة‭ ‬واليافعين‭.. ‬كيف‭ ‬نعالج‭ ‬هذا‭ ‬الخلط؟

هو‭ ‬جهل‭. ‬ناتج‭ ‬عن‭ ‬ذهنية‭ ‬كارثية‭ ‬لدى‭ ‬المبدع‭ ‬العربي‭ ‬عموماً،‭ ‬وهي‭ ‬ادعاء‭ ‬امتلاك‭ ‬المعرفة‭. ‬يتصور‭ ‬أنه‭ ‬يعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬فهو‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬الكتابة‭ ‬وبناء‭ ‬الجسور‭ ‬وتعبيد‭ ‬الطرقات‭ ‬وقيادة‭ ‬الطائرة‭ ‬وطبخ‭ ‬المقرونة‭ ‬الإيطالية‭ ‬والتجارة‭ ‬وزراعة‭ ‬الأسماك‭ ‬في‭ ‬أحواض‭.. ‬إنه‭ ‬محيط‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬ولذلك‭ ‬كلما‭ ‬لمته‭ ‬على‭ ‬استسهاله‭ ‬جنساً‭ ‬أدبياً‭ ‬بادرك‭ ‬بالقول‭ ‬ساخراً‭: ‬‮«‬هذا‭ ‬سهل‭. ‬هذا‭ ‬بسيط‮»‬‭. ‬هذا‭ ‬الجهل‭ ‬النرجسي‭ ‬المقيت‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يمنعه‭ ‬من‭ ‬البحث‭ ‬على‭ ‬شبكة‭ ‬الأنترنيت‭ ‬عن‭ ‬ورشة‭ ‬تدريبية‭ ‬أو‭ ‬مقال‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬قراءة‭ ‬قصة‭ ‬بالفرنسية‭ ‬أو‭ ‬الأنقليزية‭ ‬ليجمع‭ ‬منسوبا‭ ‬قرائيا‭ ‬محترما‭ ‬يمكنه‭ ‬من‭ ‬الكتابة‭ ‬بأقل‭ ‬أخطاء‭ ‬للأطفال‭ ‬واليافعين‭. ‬وهي‭ ‬إعاقة‭ ‬مستديمة‭ ‬لا‭ ‬ينجو‭ ‬منها‭ ‬إلاّ‭ ‬الذين‭ ‬يتعاملون‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬الجنس‭ ‬الأدبي‭ ‬بذهنية‭ ‬احترافية‭ ‬وعقل‭ ‬مسؤول‭.‬

خضت‭ ‬تجربة‭ ‬الكتابة‭ ‬للكبار‭ ‬ولليافعين‭ ‬ما‭ ‬الفرق‭ ‬بينهما؟

كلاهما‭ ‬لعب‭. ‬ولكن‭ ‬اللعب‭ ‬مع‭ ‬الكبار‭ ‬أسهل‭ ‬بكثير‭ ‬من‭ ‬اللعب‭ ‬مع‭ ‬الصغار‭. ‬الصغار‭ ‬أخطر‭ ‬وأسمى‭ ‬وأرفع‭ ‬وأذكى‭ ‬بمراحل‭ ‬وأشواط‭ ‬مما‭ ‬نتصور‭. ‬هم‭ ‬أذكى‭ ‬منا‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس‭. ‬اتحدّث‭ ‬عن‭ ‬الأطفال‭ ‬الرقميين‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬المعرفة‭ ‬المفتوحة‭. ‬لقد‭ ‬مكنتهم‭ ‬الأجهزة‭ ‬الرقمية‭ ‬من‭ ‬كسر‭ ‬أحادية‭ ‬المعرفة‭ ‬التي‭ ‬تأتي‭ ‬من‭ ‬الوالدين‭ ‬والأستاذ‭ ‬والمعلم‭ ‬سابقا‭. ‬وتمكنوا‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬المعرفة،‭ ‬فحطموا‭ ‬كل‭ ‬النماذج‭ ‬وراحو‭ ‬يبنون‭ ‬أنفسهم‭ ‬بأنفسهم‭. ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يفهمه‭ ‬سياسيونا‭ ‬البؤساء‭ ‬الذين‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬مقيمين‭ ‬في‭ ‬حقبة‭ ‬الزعيم‭ ‬القائد‭ ‬الذي‭ ‬يملي‭ ‬على‭ ‬الشباب‭ ‬اختياراته‭ ‬ليتبعوه‭ ‬ويصبحوا‭ ‬‮«‬أنصاره‮»‬‭. ‬الأجيال‭ ‬الحالية‭ ‬لا‭ ‬قادة‭ ‬لها،‭ ‬لا‭ ‬زعيم‭ ‬لها،‭ ‬لا‭ ‬تيار‭ ‬لها‭. ‬إنهم‭ ‬ليسوا‭ ‬أنصار‭ ‬أحد‭ ‬سوى‭ ‬أنفسهم‭ ‬أي‭ ‬أنصار‭ ‬قناعاتهم‭ ‬وأفكاره‭ ‬التي‭ ‬بنَوْا‭.‬

نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 13 جوان 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING