الشارع المغاربي-حاورته عواطف البلدي: لم يخف المفكر يوسف الصديق قلقه مما يحدث هنا والآن على كل الاصعدة ثقافيا وسياسيا وحتى اقتصاديا.. الصديق تحدّث هذه المرة بـ”قلب مفتوح” كما لم يتحدث من قبل، معبّرا عن مخاوفه مما تمر به البلاد وما يعاني العباد، ناقلا غربته داخل وطنه، ضاربا عرض الحائط كل ما هو زائف في بلد لا يملك من الحقيقة الا ما آل اليه اليوم من وضع بائس ويائس..
“الشارع المغاربي” حاورت الرجل وحاولت الخوض في منافيه الثلاثة وتتبع نظرته إلى عالميْ الثقافة والسياسة ومن يسودُهُما..
في ما تمثلت مشاركتك بالدورة التأسيسية للمنتدى الدولي “إنسانيات – تونس 2022” ؟
استقطبت هذه الدورة حوالي 1400 مشاركا (فلاسفة وعلماء اجتماع وعلماء نفس) من 35 بلدا من بلدان عربية وأجنبية ومن تونس، ومع ذلك لما تكن موفقة ربما يعود الأمر إلى مسألة التنظيم..
لماذا؟
أولا لم تستقطب الرأي العام رغم اهميتها وعدد المفكرين المشاركين بها ونوعية المواضيع المطروحة والمحاور التي تم الاشتغال عليها وبدلا من ان تستقطب هذه الندوات مئات الاشخاص كان عدد الحاضرين تقريبا في كل محاضرة لا يتجاوز 50 شخصا رغم ان اغلب الضيوف كانوا من بلدان كبرى واصحاب اعمال مهمة جدا في جميع الميادين (في التحليل النفسي وفي الفلسفة وفي علوم الاجتماع وفي السياسة).. شخصيا واكبت تظاهرات أقل بكثير من هذه التظاهرة في كثير من البلدان (فرنسا او اسبانيا او ايطاليا او انقلترا..) ومع ذلك كانت تستقطب شخصيات من كل مكان وقد شاركت في ندوات علمية واكاديمية مع شخصيات كان لا يتجاوز عددهم 50 او 60 شخصية علمية واكاديمية كانت تستقطب الناس والصحافة وتلفت اهتمام الطلبة والباحثين. بالنسبة لي لتونس كان الحدث كبيرا بالنظر الى عدد المشاركين وقيمتهم العلمية والجامعية والاكاديمية الا انها فشلت. بالنسبة لي اطلعت على عدد من الموظفين المشاركين من تونس سواء عمداء جامعات او اساتذة اخص بالذكر منهم الدكتور والجامعي هشام الريفي والوزيرة السابقة شيراز العتيري وهي من بين منظمي هذه التظاهرة اضافة الى وزيرة الثقافة وهي من المنظمين ايضا ووزير التعليم العالي ومديرة مركز الترجمة .. عدد كبير وحدث مهول كان من المفترض ان تهتز لهما دولة كاملة باطيافها حتى تبدو تونس قادرة على احتواء تظاهرات مشابهة وحتى تبرهن للجميع انها قادرة على احتواء تظاهرات في حجم القمة الفرنكوفونية واكبر ولكن للاسف لم يحدث هذا.. بالنسبة لي هذه التظاهرة كانت يمكن ان تكون اهم من قمة الفرنكوفونية لكن صرت الان اخشى ان تكون هذه القمة فاشلة هي ايضا مثل تظاهرة “انسانيات”.
حسب رأيك كيف نقيس هذه التظاهرة على تظاهرات لاحقة بتونس؟
طالما فشلت هذه التظاهرة فإن بقيت التظاهرات ومن بينها القمة الفرونكفونية ستفشل أيضا على مستوى التنظيم خاصة التناقض بين مستويات السلط.
لو تقدم لنا فكرة عن مشاركتك بالتظاهرة؟
شاركت بمحاضرتين كانت الأولى بإحدى معاهد ولاية منوبة وكان موضوعها حول نفسية الشباب وأزماته كالمراهقة ومشاكل الانتحار والحرقة بالنسبة لي كانت حصة مهمة جدا شارك فيها أكاديميون كبار على غرار نادية بن إسماعيل والصدّيق الجدي لكن للاسف على اهمية الموضوع كان الحضور بالقاعة هزيلا جدا .
وماذا عن المداخلة الثانية؟
المحاضرة الثانية شاركني فيها الاستاذ محمد محجوب وطرحنا سؤال “ماذا علينا ان نحضر اليوم لازمات الفكر في قضايا المجتمعات التي تداخلت فيها السياسة؟ وتحدثت خلال المحاضرة عن المنافي الثلاث بالنسبة للمفكر العربي الاسلامي ، في تونس وفي غيرها من البلدان العربية. ويتمثل المنفى الاول في كون ان كلمة “فيلسوف” نفسها هزلت واحتُقرت . عبارة بيدباء الفيلسوف ذاك المفهوم الذي ظهر لاول مرة في كتاب ابن المقفع “كليلة ودمنة” هُمِّش وهمّشت معه الفلسفة وأصبحت قريبة جدا من مفهوم الكفر مع احتكار كلمة كبرى في الفلسفة واقصد هنا كلمة فقيه التي اصبحت حكرا على المشتغلين بالمسألة الدينية بينما تعني عبارة الفقيه في العربية الخبير. أما المنفى الثالث فهو منفى آني حيث لا يُعترف بالمفكر العربي الاسلامي في جميع اصقاع العالم العربي على غرار ناصر حامد ابو زيد عبد الله العروي من المغرب محمد اركون من الجزائر ومحمد اقبال من باكستان ومحمد شحرور جميعهم أصبحوا في مأزق نفسي وعلمي كبيرين وهو إما ان يُعترف به في الاكاديمية الخارجية ويصبح نجما أو لا يعترف به داخل وطنه.. أنا محرج لانني نجم في فرنسا ونجم في امريكا لا يتردد كارتر في دعوتي مثلا لمركزه وقد اراه اعترافا مزيفا يدعو الى الحيرة لانني في بلدي غير معترف بي حتى مجرد اعتراف بسيط من مدير معهد ثانوي .. اذن كيف يعترف بي مركز كارتر وقمم القرار في العالم على غرار فرنسا والسويد او انجلترا؟
بمَ تفسر هذه المفارقة؟
بالنسبة لي انا أعيش بمنفى لانني عندما اعود الى بلدي اعود بالضرورة الى منفيين اولين منفى أني متهم بالزندقة والكفر ومنفى ثان وهو أنني كلما قمت بعمل الا ويندرج في الاثارة وفي الخروج عن الذات وعن الاصالة. أقول لكِ شيئا أسعدني جدا خلال محاضرتي ذلك التفاعل مع ما قدمت انا والاستاذ محمد محجوب من مناقشين نشتمّ عنهم رائحة توجهاتهم في ما يتعلق بالاسلام الديني ومع ذلك كانوا قمة في الادب وفي ادارة الحوار والاستفسار المحترم.. وهذا ما عمّق حيرتي في الحقيقة خاصة خلال المحاضرة الثانية التي طرحت مسألة مهمة جدا وهي سؤال “هل أن القرآن مخلوق أو خالد؟” هذه التظاهرة قامت بتعبئة اكاديميين واشخاص معينين مهتمين بالشأن الثقافي والفكري وغيّبت وسائل الاعلام والجمهور بأعداد كبيرة فأصبحت أشبه بجلسات سرية تنظمها عصابة.. وانا اوجه اصابع الاتهام هنا للسلط العلمية والاكاديمية والثقافية في تونس..
ولكن من المفروض توجيه اللوم للمنظمين؟
اوجه الاتهام لمن عيّنهم.. وزارتا التعليم العالي والثقافة وربما وزارة التربية لا اظن ان المنظمين وحدهم قادرون على دعوة 1400 مفكرا من دول مختلفة.. كان معنا بالندوة واحد من أكبر العلماء التونسيين هو مهدي الزاهي الباحث بجامعة بلجيكا وهو من المشاركين في كتاب “قرآن المؤرخين” الذي سيترجم قريبا إلى العربية.
لننتقل إلى الشأن السياسي ..
“حكاية فارغة” قلتها لزملائك مرات عدة وأعيدها انا كمواطن تونسي يحب البلاد كما لا يحب البلاد احد مثلما قال اولاد احمد .. أشعر أنني مقصى من بلادي ومن تاريخي وحتى من المستقبل الآني بين أهلي وعائلتي..
بم تفسّر هذه الغربة وانت في بلدك؟
استحواذ شخص واحد على القرار .. موش معقول.. انا الآن بصدد المحاولة بأن أحظى بالاستقبال منه حتى اخبره بما يدور بذهني..
هل نحن اليوم في وضعية انتقال ديمقراطي أم في مرحلة استثنائية أم ماذا تحديدا؟
نحن في اللامرحلة.. لاننا لو كنا في مرحلة معينة مهما كانت يائسة او بائسة سلبية ولو كنا في مرحلة معينة لخوّل لنا التساؤل ولظفرنا بالجواب مهما كان اليوم يختلف الامر ولا اريد ان اعمم هذه الحالة واحتج عليها لاني اعلم ان السؤال لن يصل الى المسامع ولن يحظى بجواب ابدا.. لذا انا في موقف كانسان يبحث عن الماء في جهته ولكنه هو في مكان يعلم ان المكان لا بئر فيه ولا جدول ولا عين ولا شيء الى ان يجنّ او يختل عقله.. او يصرخ صرخة يائسة تماما ويسقط ميتا من العطش.. صار هذا موقفي الان.. اضافة الى انني اشعر وكأني شخص استعد جيدا لامتحان كبير في المواطنة ولكن الموضوع الذي سئل حوله لم يدرسه في البرنامج ومجبر من اعادة الورقة بيضاء.. انا الانا محروم من المشاركة الابسط في المواطنية الا اذا قمت بالتمرد والفوضى وانا لا انصح احدا ولا نفسي باللجوء الى هذا الفعل رغم انه الافق الوحيد.. وفي الحقيقة انا اخاف هذا القرار لان قرار التمرد يجب ان بكون له افقا وبرنامجا…
هذه اللامرحلة كما تفضلت بتسميتها هل يمكن تسميتها ببداية حكم ديكتاتوري ؟
حتى الحكم الدكتاتوري الذي تتخذ من خلاله القرار وتقاومه وتتمرد عليه غير موجود .. يا أخي اخرج الى الناس وقل لهم ان حكمي دكتاتوري.. لكن كل المؤشرات الى حد الان تبين غير ذلك.. وقد التقيت مؤخرا بأمين محفوظ في ندوة بجهة سوسة وهو يفكر في نفس ما افكر … فمن غير المعقول تعيين مستشار لا تأخذ باستشارته بل تطرح كل ما اشار به عليك في المزبلة…
إلى أي مدى يمكن أن يأخذنا حكم قيس سعيّد؟
الى ما يحمد عقباه..
كيف؟
سيأخذنا إلى الكارثة .. لأن الاهم من مسرحية “اني اعلم وانتم لا تعلمون” والاخطر من هذا هو ما نعرف من كفاءته في كثير من الميادين الحياتية .. الكفاءة لدى قيس سعيد صفر ، منعدمة في الاقتصاد وفي تتبع مسالك الفساد وفي مسالك الاقتصاد الموازي والاشياء التي هي اليوم ملحّة على تونس وحلّها مسألة حيوية.. ويجب ان تحلّ اليوم بكفاءات معينة.. ما يحزنني اليوم وجود كفاءات كبيرة في الاقتصاد بجزئياته وفي كل الميادين والاختيارات الاقتصادية ويتحدثون بما يتحدث به غير المختصين ومن بين هؤلاء غير المختصين نجد قيس سعيد هو ليس مختصا وليس له باع في هذا ابدا ..
حسب رأيك كيف نخرج من هذا المأزق؟
لا توجد حلول للأسف.. التونسي اليوم لم يعد يتحمل مصاريف أسبوع واحد. يجب أن اولا اظفر بأجوبة من قيس سعيّد .. وأسأله عدة أسئلة من قبيل لماذا بقينا في حالة الاستثناء بعد الاستفتاء والدستور الجديد.. ومتى تنتهي حالة الاستثناء حتى ننتبه الى الاوضاع المادية؟…
ولكن بعد الاستفتاء تأتي الانتخابات..
فعلا فهذه التجربة أيضا تشوبها نقاط استفهام بالجملة… كيف يمكنني ان امثل لو ترشحت مثلا عن جهتي توزر وكنت مهتما بقضايا الخطر على التمور والواحة والبيئة كيف يكون نائب الشعب التونسي .. الشعب الذي يريد .. أنا لا أريد باسم أهل الجريد وأهل توزر بل أريد ككل النواب أريد أن أريد باسم تونس كلها وما جهتي الا جزء منها ولا تحل مشاكل جزء إلا إذا كان ثمة أفق لحل مشاكل الكل ..
كيف تنظر للانتخابات القادمة .. هل ستنتهي الى كابوس مثلا؟
بالنسبة لي البرلمان أُفرِغ من كل مقومات البرلمانات وسيصبح نادي اجتماعات أو معبد لعبادة وثن وشخص صامت وللتهليل به والتصفيق..
تقصد قيس سعيد بالوثن ؟
“ما نقصد حتى شي”.. وانما اقصد ذاتية الحكم بقرطاج.. كنت اتمنى ان يكون من حوله اشخاص يعبّرون عمّا نريد في كل مرة .. “مش معقول” نريد أن يكون لدينا ناطق رسمي في الاقتصاد وفي جميع القطاعات..
كيف تنظر إلى مستقبل تونس؟
أصبح لدي ما يسمّى بإيمان العجائز في الوطن. أصبحت أفضل كلمة تطمئنني هي “الله يحفظ تونس” دعوة صالحة.. وأتحدى اي شخص او اي كفء بأي ميدان ان يقول انا اعرف مستقبل تونس..
حتى على ضوء ما قدّم الرجل؟
بل قولي على ظلمة ما قدّم وعلى سواد ما يتراءى لنا.. لو كان على ضوء.. لما حاولنا التحليل والتفكير أما على سواد ما يتراءى لنا لا يوجد مستقبل..
نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 4 اكتوبر 2022