الشارع المغاربي – الناقد والروائي الفلسطيني - الأردني إبراهيم السعّافين: المثقّفون المطبّعون مُرتزَقة وأشباه مثقفين / حاورته:نجاح عز الدين

الناقد والروائي الفلسطيني – الأردني إبراهيم السعّافين: المثقّفون المطبّعون مُرتزَقة وأشباه مثقفين / حاورته:نجاح عز الدين

قسم الأخبار

18 فبراير، 2023

الشارع المغاربي: إبراهيم السّعافين (رئيس اللجنة) أكاديمي وناقد وشاعر ومسرحي وروائي أردني من فلسطين . أستاذ النقد الحديث بالجامعة الأردنية سابقا. حصل على ليسانس اللّغة العربيّة وآدابها عام 1966،والماجستير عام 1972،والدكتوراه عام 1978 من كلّية الآداب بجامعة القاهرة. عمل أستاذا في عديد الجامعات الأردنية والعربيّة وجامعة تنيسي الأمريكية. كما شغل منصب عضو مجلس أمناء في عدد من الجامعات ومؤسّسات الجوائز،وهوالرئيس المؤسّس لجمعيّة النّقاد الأردنيين وعضو مراسل للمجمع العلمي الهندي منذ عام1983. فاز بعديد الجوائز نذكر منها جائزة الدّولة التّقديرية في الآداب في الأردن عام 1993، وجائزة الملك فيصل العالمية عام 2001، كما فاز بجائزة فلسطين عن روايته “ظلال القَطمون سنة 2020”. له عديد المؤلّفات في النّقد والدّراسة والإبداع منها تطوّر الرّواية العربيّة الحديثة، (1980،1987)، المسرحيّة العربيّة الحديثة والتّراث، (2007،1990، 2013)، لهب التّحوّلات. درسات في الشّعر العربي الحديث (2007)،شعر محمود درويش. تحوّلات الرّؤية، تحوّلاتاللّغة(2018)، …وعناوين أخرى في المسرح والرّواية والشّعر والنّقد الأدبي.

“الشارع المغاربي” التقت النّاقد الرّوائي السعّافين إثر زياته مؤخّرا تونس فكان هذا الحوار.

من هو النّاقد؟

– من هو النّاقد؟ هذا سؤال تصعب الإجابة عنه، لكن النّاقد على أيّ حال شخص بصير بالحركة النّقدية العالميّة منذ نشأتها حتّى الآن. يعرف المناهج والاتّجاهات النّقديّة وعلى دراية بتفاصيلها، من حيث الأسس الفلسفية، والحوارات الّتي تدور بين هذه المناهج القديمةهذا هو الجديد أوّلا. إذن النّاقد شخص عالم. والجانب الآخر في عمله يتمثّل في أن يكون على معرفة بالنّصوص الإبداعيّة. لا يكفي أن يعرف النّظرية والاتّجاهات والاختلافات والأسس الفلسفية، فهو ذو بصر بالنّصوص الإبداعيّة على مرّ العصور. الأمر الثالث، وهو أمر مهمّ جدّا، أن يكون صاحب موهبة – وأنا أفضّل النقّاد الّذين خبروا العمل الإبداعي-ولم يقتصر الناقدعلى النّظرية أو المعرفة أو قراءة النّصوص وفي تراكم.لكن لا بدّ أن يكون – وهذا اجتهاد منّي قد لايوافقني عليه الكثير من النّاس- صاحب موهبة أي أن يكون النّاقد الّذي خبر الإبداع.

في رأيي الشّخصي، النّاقد هو العليم والعارف بالنّصوصالإبداعية والنّقدية، وهو الّذي خبر الأبجديّات.وفي رأيي يُعرف ناقدُالشّعر بالشعر أفضل من النّاقد الرّوائي.. الناقد الروائي الّذي يكتب الرّواية هو أفضل من الّذي لا يعرف كتابة الرّواية والقصّة.

هل يعني أنّك تؤمن بالاختصاص في النّقد؟

– نعم هو بهذا المفهوم. أقول إنّ النّاقد هو مبدع وصاحب موهبة. ويعرف هذه النّصوص جيّدا ويدرك مكامنها وأسرارها، لكن ليس كلُّ شاعر ناقدا، وليس كلّ كاتب قصّة قصيرة ناقدا للقصّة. فأنا لاأؤمن بالحتميات.

برأيك ماهي إشكاليّات الخطاب النّقدي؟

– إشكاليات الخطاب النّقدي تنبع من تعريف النّاقد، فحين أتحدّث عن الخطاب النّقدي أقول إنّالمشكلة تتمثّل في أنّ النّاقد ليس لديه هذه المواصفات الّتي أشرت إليها من قبل. إضافة إلى ذلك، هناك إشكاليات أساسية تتعلّق بموضوعيّة النّاقد، إذ نجد، مع الأسف، شِللّية(نسبة إلى الشّلّة) قد تكون قطريّة(نسبة إلى القُطْرُ) أو إيديولوجيّة وقد تكون مصلحيّة ماديّة. حيث نجد بعض النقّاد يجاملون المبدعين على حساب الموضوعيّة لوجود مصالح ومنافع، وقد نجد ناقدا يعلي من شأن مبدع لا تنطبق عليه شروطالإبداع لأنّه يستفيد منه أو من حزبه أو من شلّته. إن هذه الأمور خطيرة جدّا. أضيفي إلى ذلك كلّ ما أشرت إليه من صفات. وقد قلت في محاضرة،أثارت ضجّة لدى بعض النّاس،إنّ النّاقد قد يحتاج إلى رخصة أو شهادة، يعني إنه بحاجة إلى جهة معيّنة تمنحه شهادة لممارسة النّقد. في الغالب، وفي الوضع الرّاهن، في مجال النّقد نلاحظ اختلاط الحابل بالنّابل، ومع الأسف نقرأفي وسائل التّواصل الاجتماعي وفي المجلّات عبارات من قبيل “النّاقد الكبير”،و “المفكّر”و”العلّامة” وهو خلو من كلّهذه الأمور.

إذن أنت تتّفق مع من يرى أنّ التّكنولوجيات الحديثة تهدّد النّقد؟ مارأيك في الرّفع من شأن بعض الكتابات الضّعيفة عبر كثرة اللاّيكات مثلا؟

– هذا صحيح.فأنا أقرأ لبعض النّاس “شيئا”يكتبونه فتنهال عليهم الاستجابات وسرعان ما يطلقون عليهم بالمجان عبارات من قبيل: “هذا هو الشاعر، هذه هي القصّة، هذه هي العبقرية…”وهو ما يحدث لدى المتقبّل ارتباكا .

لكنّ وسائل التّواصل الاجتماعي ليست كلّها سيئة، إذ تتيح أحيانا لبعض المواهب الجيّدة فرصةلتبرز، لم تتحها لها وسائل نشر أخرى.إن الحقل الالكتروني يساعدها في ذلك. وأعيد وأؤكد أنّ هذه الوسائل في الأغلب العام تساعد على الفوضى، أي فوضى الأحكام. والتّقييم.

أتذكّر سابقا أنّ الّشخص الّذي ينشر في مجلّة معيّنة يبدأ في مرحلة التكريس لأنّ النّشر يكون بناء على تقييم نقدي حقيقي،فإذا كان أحدهم ينشر في مجلّة “الآداب” على سبيل المثال يقال فلان نشر قصّة أو قصيدة في مجلّة محترمة وتُتابع بالنّقد.

هذه الإجابة تحيلني إلى السّؤال التّالي: هناك من يعتبر أنّ ظاهرة الأعمال الأكثرمبيعا تنبئ بذوق شديد التّدنّي. فما هو رأيك؟

– هناك قضيّة مزدوجة. أوّلا، في مجال النّشر، هناك بعض النّاشرين الذين يقولون هذه الطّبعة السّادسة والسّابعة والطّبعة العاشرة، والطّبعة العشرون… والحقيقة أنّ الطّبعة عبارة عن أعدادمحدودة جدّا.حيث قد تتيح الوسائل للنّاشر أن ينشر نسخة واحدة من الكتاب. فالطبعة هي عبارة عن نسخة واحدة.

والجانب الثّاني جانب التّلقّي. إذ قد يكون العمل ضعيفا،لكنهيجدلدى بعض القرّاء صدى واستجابة.إذن القضيّة قضية تلقّي يقوم على الزّيف.وعموما، إنّ القضية تتعلّق بالدّعاية.

قيل إنّ العقل النّقدي عند العربي قد توقّف عن الإسهام في النّظرية المعرفيّة العالميّة منذ القرن الخامس عشر مكتفيا بالعيش على هامش العقل النّقدي الغربي. إلى أي مدى يصحّ ذلك؟

– أتصوّر أنّ الإسهام في النّظرية النّقدية العربية قليل، إذتوجد مستجدّات تخصّ المناهج الحديثة. وحين نتحدّث عن النّقد الجديد،أو البنيوية والتّفكيك لا نجد في هذا المجال إسهاما كبيرا جدّا من العرب، لكن علينا أن نعود مرّة أخرى إلى قراءة نقدنا العربي بمجمله لنجد عناصر مهمّة في النّظرية النّقدية العربية القديمة. ولئن كان إسهام النقّاد العرب قليلا، فإنّنا لا ننكر مساهمتهم في النّظرية النّقدية العالمية.إذ لا أحد يمكنه أن يتحدّث عن النّظرية النّقدية العالمية دون أن نذكر ناقدا شهيرا جدّا مثل إدوارد سعيد. ولم تقتصر النّظرية النّقدية العالميّة على شخص دون آخر بل ساهم فيها الجميع. وما يعتبر هو النّقد الحقيقي الّذي تحقّقه القراءة، فالنّقد التّطبيقي هو المهمّ. فقد قال روبل تشارلز في كتابه” البنيويّة في الأدب”: “إنّ البنيويّة لا تستطيع أن تقرأ قصيدة واحدة” معنى ذلك أنّ النّاقد هو الّذي يقرأ. وأنا حين كتبت كتابا عن إحسان عبّاس في النّقد، سمّيته “إحسان عبّاس ناقدا بلا ضفاف” قلت: “إنّ ما كتبه إحسان عبّاسفي النّقد ليس بالضّرورة إضافة نظريّات جديدة،لكنّه أثبت قدرة على القراءة”. إن قراءة النّص هي المهمّة، بل إنّهاأهم من النّظريّات. 

هل يعني ذلك استنباط كلّ شيء بمعاول النّص ذاته؟

بالضّبط، إنّ الّذي يقرأ النّص هو الّذي يقرأه قراءة عميقة، وهو الّذي يستنبط منه.

وماجعل أرسطو يكتب كتابه هو قراءته للنّصوص القائمة.

والدّليل على ذلك أنّ النّقد لاحق للسّرد.

– بالضبط، هذا كلام صحيح. النّظرية تابعة للنّص.وتحضرني مقولة لعزالدين إسماعيل أيّام الجمعية الأدبيّة المصريّة لمّا كتب صلاح عبد الصّبور مسرحية” مأساة الحلاج” حيث قال”: لقد أتاح لنا عبد الصّبور مجالا للنّقد”.

هل واكبت حركةُ التجديد في النّقد الحديث فنونَ السّرد في الرّواية العربية خاصّة بعد تسارع التّجريب؟

– أعتقد ذلك، أو أظنّ ذلك، أنا في الحقيقة لي وجهة نظر مختلفة عن الشّائع في حركةالتّجريب.

التّجريب له اتّجاهان: تجريب في النّصوصفي اتجاه النّظرية النّقدية الغربيّة.

وتجريب في النّصوص في اتّجاه التّراث.

بمعنى أنّ التّجريب لم يقتصر على العوالم الدّاخليّة للنّفس وعلى الجوانب الفنّيّة القائمة على التّشظي، ولكنّ التجريب سلك الاتّجاه إلى التّراث.فهناك الكثير من الرّوائيين والمسرحيّين والشّعراء الذين أفادوا من التّراث، ليس من خلال الدّعوة إلى العيش فيه، ولكن بتحويله، ونقله، واستلهامه، والتّفاعل معه شكلا ومضمونا. إذ التفت النقّاد إلى هذه النّاحية وكتبوا فيها، وربّما حرّضوا على الكتابة فيها،أوربّما أوهموا بذلك. وعلى سبيل المثال، إذا بنيتُ روايتي على الغموض أو التّشظّي أو الأسطورة،وغيرها من المسائل المجدّدة، فكأنّني جدّدت وجرّبت. والحقيقة أنّ العيش في أعماق النّفسالإنسانية يظلّ ضيّقا أمام الفضاءالإنساني وفضاء الحياة الأرحب. فالحياة أوسع بكثير من دهاليز النّفس،ولذلك فقد حاول أولئك الّذين عاشوا وجرّبوا أن يعتمدوا على تيّار الوعي والتّقطيع والتّشتيت.

كنت فسّرت كيف يتمّ التّجريب، وكيف يمكن التّعامل مع التّراث بوصفه أداة تفاعل واستلهام ولا للعيش فيه وتحويله إلى مادّة خصبة تلتصق بإنسانيّة الإنسان، إذا ما كان ذا فائدة للإنسانية. في هذا السّياق أطرح السّؤال التّالي: بعد عدّة كتب في حقل التراث، أيّ دور للتّراث في الأعمال الأدبيّة عامة بالإضافة إلى ما ذكرت؟

– كتبت عن مدرسة الإحياء والتّراث في الشّعر، فقد كان هدف الإحيائيين أن يفيدوا من الأساليب الّتي كانت مستخدمة في التّراث رغم الاختلافات بينهم، بعضهم استوحى نصوصا في شكل محاكاة، وبعضهم أفاد وجرّب أيضا داخل الإحياء. لكن هناك من كتب مثلا في القصّة أو في الرواية حيث التقط فكرة بسيطة في النّص القديم ووجّهه توجيهات جديدة لم يحاك فيه القديم، ولكنه وسّع فكرة ما في القديم إلى مفهوم آخر، مجال مفهوم الذّات والحديث في قضايا وجوديّة مثل قضيّة الحريّة، وقضيّة العدل على سبيل المثال،وفي قضايا أخرى كثيرة فقد استفاد من نقطة معيّنة ووسّعها باتّجاه قضايا وجوديّة جديدة كثيرة جدّا،هي قضايا مهمّة جدّا لم يكن يلتفت إليها القاصّ القديم في التّراث. المهمّ أن الرّوائي أو المسرحي التفت إليها بمعنى أنّه قرأها قراءة جيّدة، وانطلق منها إلى عالم أوسع. فكأنّه أحدث تصالحا مع التّراث ولم يكن ذلك من باب التّراجع إلى الوراء، بل أصبحنا نقرأ التّراث قراءة جديدة،فعلى سبيل المثال حين جاء ألفرد فرج (ت. 2005) وكتب مسرحيّة “على جناح التّبريزي وتابعه قفة” (1969)، وفي هذه المسرحية تحدّث عن قضايا كثيرة جدّا مثل قضية الوهم، قصّة رجل يحتاج إلى الطّعام، لكن سيّده أمره أن يتخيل الطّعام أمامه وهو بذلك يريده أن ينتقل من عالم الطّين إلى عالم الخيال. هذه الفكرة موجودة في ألف ليلة وليلة في أحد نصوصها، لكنّ الكاتب وظّفها توظيفا جديدا، فقد قال عنها ألفريد فرج:”قصدت أن أصوغ الحكايات من نغمات شعبيّة صافية وساذجة، بالدّق على أوتار عربية خالصة، غير أني لابد هنا أن ألفت النّظر إلي أن الإنسان منذ ألف عام حين صاغ حواديت ألف ليلة وليلة وقبلها، وقبل أن يتمخض ذهنه عن الأفكار الاشتراكيّة والعدل الاجتماعي، كان يحلم دائما في جِدّه وهزله بالعدل المادي. إنّ ثنائي التبريزي وقفة حلم جميل أبهجني، وأردت أن أبهج به غيري”.

هل الرّواية العربيّة بخير إذن؟

أنا لا أيأس ولا أقول إنّ الرواية ليست بخير. لكنّهاتقف الآن وسط فوضى وركام من الأعمال الإبداعيّة الهابطة. إذ مرّت الرّواية العربية بمراحل جيّدة لوجود ظروف أحاطت بهاوجعلت من النّقد الروائي موضوعيّا، ومعبّرا عن أشواق النّاس وأشواق الأمّة والإنسانيّة. حين كان النّقد يحتفي بروايات معيّنة كانت هناك معايير معيّنة تلتزم بشروط التّفوّق والتّميّز. الآن لا أقول إنّه لا توجد رواية جيّدة، لكنّنا قد نجد رواية جيّدة لا يتناولها النّقد فيصاب صاحبها باليأس ولا يستمرّفي العمل الإبداعي، كما نجد أنّ النّقد يتناول رواية بالتّمجيد حتّى يصاب صاحبها بالغرور. أمّا الناحية الثالثة فتتمثّل في أنّ بعض النّقد يُوجّه نحو الرّوايات الهابطة لأسباب مختلفة كما قلت سابقا إمّا إيديولوجية أو شخصية أو ماديّة…ولذلك يختلط الحابل بالنّابل. حيثنجد روائيا جيّدا إلى جانب روائي ضعيف المستوى. نحن في حاجة إلى مراجعة حقيقيّة وباستمرار. وقد تكمن المشكلة -على الأقلّ ألاحظها وقد أكون مخطئا وألاّ أدّعي العصمة- في أنّ الحركة النّقدية في الجامعات قد ضعفت جدّا. فقد يقدّم شخص على أنّه ناقد “خطير”في حين أنّه لا يعرف أسس النّقد البسيطة وهو يتحرّك في كلّ اتّجاه.

جيل عربي جديد يجنح إلى التّشظي، والتّفكيك، وتداخل الأزمنة. فهل وفّق في ذلك؟ وهل يمكن مقارنة نصوصه بنصوص عالمية؟

أظنّ أنّ حركة التّجريب في الرّواية بهذا المفهوم قد تراجعت كثيرا في العالم كلّه سواء في العالم الغربي أو لدينا. وكنت قد كتبت فصلا في كتابي “اتّجاهات الرّواية العربيّة المعاصرة” الّذي صدر عن مؤسّسة كتارا، قطر2019 سمّيته” الواقعيّة الجديدة” وبيّنت فيه أنّ الموجة الأساسيّة للرّواية الحالية تتّجه نحو الواقع. ولكنها لم تتخلّ عن المكتسبات الجديدة الّتي ظهرت في التّجريب فلم تعد الّرواية منغلقة على مجاهل النّفس،كما لم تقتصر على تلك الألعاب الشّكلية الّتي احتفى بها التّجريب بل أصبحت الآن منفتحة على الحياة.

لم تعد الكتابة في عصر العولمة موهبة بقدر ما أصبحت صناعة، انتحالا وتركيبا من كتّاب من آسيا ومن إفريقيا الأنكلوسكسونية والفرونكفونية أو من أروبا أو من أمريكا أو من أفلام مختلفة. فماذا تقول في هذه الظاهرة؟

صحيح هذه صورة من صور التدليس والتّلبيس. الرّواية أو القصيدة أو المسرحية هي رؤية بالأساس،وفيها شاغل داخلي لدى الكاتب يشغله، ثمّ بعد ذلك يبحث عن الطريقة الّتي يشكّل بها هذه الرؤية، ثمّ يفيد -ولا حجر على الإفادة- من أي فيلم رآه أو أيّة رواية قرأها وتكون كل هذه يبده لا أن يكون عالة على مثل هذه الأعمال فيفقد الأصالة. وإذا كان التّشكيل جاهزا فهذا أمر في غاية الخطورة. وكما تفضّلت بذكره، هناك من يتابع أفلاما معيّنة كتقنية المونتاج والتّقطيع، أو يقتنص الفكرة الأساسيّة من الفيلم، أو يفيد من بداية رواية معيّنة أوخاتمتها أوتقسيم رواية معيّنة إلى فصول.لكنّ هذا يظلّ عملا سطحيا وليس عملا فنيّا حقيقيا.

ما رأيك في القول التّالي ” إنّنا في زمن الرّواية، و زمن القصّة القصيرة قد انتهى؟

هذه قولة قالها صديقي جابر عصفور.  وهوليس مختصّا في القصّة القصيرة ولا في الرّواية، قالها ردّا على ما قاله أدونيسحين كتب “زمن الشعر”فلا زمن أدونيس زمن الشعر، ولازمن جابر عصفور زمن الرّواية.بل كلّ زمن يحتضن كلّ الأجناس. وفي رأيي الشّخصي القصّة القصيرة لم تنته أبدا، بل إنّ القراءة بشأن عام ضعفت، وهناك ضعف في قراءة الأدب. لكنّنيأرىأنّ إمكانية القراءة الأوفر هي للقصّة القصيرة، وربّما أيضا ساعدت وسائلالتواصل الاجتماعي كثيرا في نموّ مثل هذه الظّاهرة. فأنا أحيانا عندما ألاحظ شيئا يسهل عليّ أن أكتب قصّة قصيرة من أن أكتب رواية، لأنّ الرواية تحتاج وقتا طويلا… وقصّة زمن الرّواية تحتاج إلى تساؤل هل إنّها تقرأ بهذا الشّكل؟  أنا أذكر أني سألت في يوم من الأيّام الطلّاب فقالوا لي أنت لا تدرّسنا الأدب الأردني الحديث، أنت تدرّسنا الأدباء الآخرين. فسألتهم عن أبرز ثلاثة الأدباء في الأدب الأردني من قرأ لهم فوجدت أنّه لا أحد قرأ لهم. إذن إنّ المشكلة في القراءة وعدد القرّاء لدينا ضئيل. فعندما تقول زمن الرّواية تقول أين القرّاء في النّهاية؟

جابر عصفور ليس مختصّا في الرّواية، وليس مؤهّلا لأن يطلق مثل هذا الحكم. أمّا بصفته جابر عصفور فيتاح له أن يقول مايشاء.

بصفتك مشاركا في لجان تحكيم البوكر وكتارا لماذا تُنسى أغلب الرّوايات المتوّجة ولا تحظى بعناية كبيرة ترجمة وتوزيعا ولا تُرشّح للحصول على جوائز عالميّة؟

في اعتقادي الجوائز مفيدة ومهمّة في تنشيط الحركة الإبداعية،لكن يجب أن ننظر إلى هذه الجوائز من زوايا مختلفة. لجنة التحكيم تقدّم رأيهافي ما تقدّم أمامها. وليس كلّ ما يعرض عليها جيّد،كما أنّ ما لم يعرضأمامها غير جيّد.لكنّ هذه الجوائز تخضع للجنة تحكيم، وقد لا يكون بعض أعضائها من أصحاب المستويات المرموقة فيفوز بالجائزة من لم يستحقّها.

ومن يفوز يترجم له حكما ولكن ليس كل من يترجم له يجد تقبّلا وإشعاعا عاليا من البيئة الجديدة من النّاطقين بالفرنسية أوالانجليزية أوالصينية. أي يمكن أن يكون الحكم على العمل الإبداعي الفائز قطريّا أو أيديولوجيا، لذلك لا يجد القبول العالمي،فهناك شروط للتّلقي، وحتّى أنزع نفسي من هذا الموضوع،يمكن بطبيعة الحال أن تكون لجنة التّحكيم غير مختصّة.

ما الحلّ في رأيك؟

يظلّ الإشكال قائما، حقيقة لا أعرف. لديك على سبيل المثال مجلس أمناء مختصّ، أو ربّما هيأة معيّنة(لجنة عليا) أحيانا قد يكون غير مختصّ.

كما أنّ الروائييّن الجديرين بالتّميّز لا يقدّمون دائما رواياتهم للجان تحكيم الجوائز. ولذلك نقولإنّ العمل المتميّزهو الّذي يفوز.

فليس كلّ من يكتب أعمالا يقدّمها للمسابقات، ثمّ إنّ هذه الرّوايات الّتي تفوز ليست بالضرورة متفوّقة جدّا بحيث أنّها تكرّس الرّوائي أن يكون روائيّا متميّزا.

ما قلته الآن يحيلني إلى سؤال جديد: هل يمكن أن تكون الجوائز مقياسا فعليّا للنّهوض بالمشهد السّردي والادبي عامّة؟

الجوائز سلاح ذو حدّين. قد تقدّم لنا روايات جيّدة،كما قد تكرّس روائيين متوسّطي القيمة. فالجوائزمجرّد اجتهاد.  طبعا لا أبرئ هذه الجوائز من غايات مختلفة. فالجوائز ليست دائما موضوعيّة. وإن كانت موضوعيّة، فليس كلّ الفائزين يمكن أن يكرّسوا روائيين حقيقيين،أعني يمكن أن يحظوا بنجومية معيّنة ولكنّها نجوميّة لا تلبث أن تخفت وتتلاشى، لأنّها لا تقوم على نصوص إبداعيّة، يقولون عنها إنّها عابرة للأزمان، يعني أنّه نصّ يسطع ثمّ يخفت.

– أنتقل الآن من النّقد والسّرد والتّجريب والجوائز لأسألك بصفتك مثقفا تنطلق من زاوية نظر ووعي ثاقب، ولك الخيار في الإجابة أو الامتناع عن الإجابة. ما موقفك كمثقّف عربي من فلسطين من التّطبيعالعربي مع الكيان الصّهيوني؟

بطبيعة الحال،أنا ضدّ التّطبيع قلبا وقالبا. وأعتقد أنّ التّطبيع ليس في مصلحة أي بلدعربي.وكلّ البلدان الّتي طبّعت تعيش وضعا اقتصاديّا منهاراوصعبا، وكلّ البلدان الّتي طبّعت لم تجن فائدة من وراء ذلك. كنت أسمع أنّه من المبادرات الصحيّة أنّ الرخاء الاقتصادي سيعمّ كل البلدان، في حينأنّ البلدان الّتي طبّعت كالمغرب ومصر والأردن وغيرها تشكو وضعا اقتصاديا صعبا. ولم أرَفي ذلك من مصلحة.إنّ مطامعالكيان الصهيوني كبيرة جدّا، وأستحضر هنا شخصية شايلوك المرابي اليهودي في رواية “تاجر البندقية” لشكسبير. فالكيان الصهيوني لا يريد حلّاعلى الإطلاق، شعاره “هل من مزيد”، يريد دائما التّوسّع والسيطرة، يريد المال، ويهدّد العالم،أمّا أنا فأرى أنّه هو مصدر تهديد العالم. وقد أشرت في روايتي ” ظلال القَطمون” (عمّان، 2020) إلى أنّ الكيان الصهيوني ضدّ اليهود في النّهاية،وليس من مصلحة أن يقام له كيان وهو مصدر تهديدطول الوقت، لا يستريح حتّى وإن ازدادتوسّعا. الآن الكيان الصهيوني في فلسطينغير قادر على كسب الأمن فكيف له التّوسع؟ والّذين يبحثون عن الأمانمع الكيان الصهيوني لن يجدوه لأنّ الصهاينة بطبيعتهم لا يؤتمن جانبهم، كما أنّ الكيان الصهيوني ليس منسجما حاليّا، ولا يوجد مجتمع صهيوني متماسك ومترابط، إذ تسودالعنصريّة بين أفراده(فالأشكنازأكثر ثراء وأفضل تعليم من السفرديم)، فضلا عن أنّه كيان قائم على القتل .

أرى أنّه لا يمكن التطبيع مع هذا الكيان.ولا أتصوّر أنّ شعبا عربيّا يمكن أن يطبّع مع هذا الكيان الدّموي والوحشي بلا أسس أخلاقيّة.

في السّياق نفسه، ماهو موقفك من المثقّفين المتّهمين بالتّطبيع؟

شخصيّا أعتقد أنّه لدينا أزمة ثقافة ومثقّفين. أسمع كلاما كثيرا عن هذا الموضوع، وبعضهم حاول الآن أن يتحدّث في التّاريخ وأن يزوّر، كما أسمع أحيانا،وتحت غطاء الدّعوةالعلميّة يقولون مثلا إنّ مكّة ليست مكّة الّتي توجد في الحجاز، أو أنّ المسجد الاقصى ليس هو المسجد الأقصى المعلوم لدينا جميعا. ولكن في النّهاية أعتقد أنّ الصهاينة يهتمّون بتطوير أساطيرهم من أجل أهداف معيّنة. ولو كانت لدينا أساطير، حتّىإن لم تكن حقائق، فعلينا أن نتمسّك بهاونتبنّاها من أجل قضيتنا. برنارد لويس(ت.2018) المؤرّخ الصّهيوني البريطاني قال: ” من أجل قضيتي، لا أبحث في القضايا التّاريخيّة،أنا أعزّز الأسطورة من أجل قضيّتي”.

أمّا هؤلاء المثقّفين المطبِّعين فلهم اتّجاه آخر، وهذه مأساتهم مع المال. فمعظمهم يُشترون بأثمان بخسة.

كنت أعرف نماذج هائلة جدّا من المثقّفين،وبعضهم نماذج رائعة،ولا يمكن شراؤهم بالمال.لكنّ المال الآن خرّب الذّمم.وأنا لا أسميهم مثقّفين، هم مرتزقة، وأشباه مثقّفين، بل إنّهم منتحلو ثقافة.

*نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 14 فيفري 2023


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING