الشارع المغاربي – لطفي النجار : إنّ المتأمّل للنتائج التي تحصّلت عليها حركة النهضة خلال ثلاث محطّات انتخابية ( 2011 ـ 2014 ـ 2018) يخرج دون عناء كبير بملاحظة بسيطة: النهضة تخسر في كلّ محطّة عددا ضخما من الأصوات. لنتأمّل معا الأرقام : انتخابات المجلس التأسيسي 2011، فازت الحركة ب1500649 صوتا أي بنسبة 36 فاصل 97 بالمائة من جملة 4053905 ناخبين. انتخابات مجلس نواب الشعب 2014، خسرت النهضة أكثر من نصف مليون صوت لتتحصّل على 947014 صوتا وبنسبة 27 فاصل 29 بالمائة من ثلاثة ملايين ناخب تقريبا. هذا التراجع الكبير لحركة النهضة بين محطّي التأسيسي والتشريعي فسّر حينها بvote utile» وتمّ تبرير الهزيمة لدى الأنصار بالتكتيك الانتخابي الذي اعتمده النداء لتحقيق النصر.
التقديرات الأوّلية المعلنة أخيرا في محطة 2018 (الانتخابات البلدية) تؤكّد مسار الانحدار للنهضة وفق وتيرة واحدة تقريبا، أي خسارة نصف مليون صوت (يزيد أو ينقص قليلا) مقارنة بنتائج 2014 وخسارة أكثر من مليون صوت إذا اعتمدنا المقارنة مع حصيلة الحركة في 2011. إذ لم تجن النهضة أكثر من 400 ألف صوت في الانتخابات الحالية (وفق التقديرات الأولية طبعا) وبنسبة 27 بالمائة من مجموع مليون ونصف المليون ناخب. لغة الأرقام لا تتوقّف إذا تابعناها ويمكن أن تزيدنا أكثر لو أمعنّا التمحيص ودقّقنا النّظر في الأعداد، فالنسبة المائوية التي تحصّلت عليها النهضة أخيرا ( 27 بالمائة وطنيا) هي من مجموع ثلث الناخبين ( 33 بالمائة، أي مليون ونصف ناخب وهو العدد الجملي المعلن رسميا، أي ثلث المسجّلين في القائمات الانتخابية المقدّر ب5 فاصل 3ملايين مسجّل). بتبسيط موجز ودون استغراق ممل في الأرقام: للنهضة 400 ألف صوت في محطّة 2018 من جسم انتخابي يقدّر ب 5 ملايين مسجّل، ومن جسم «بشري» موجود على الأرض يفوق 8 ملايين تونسي وتونسية تتوفّر فيهم شروط الناخب، لم تعمل هيئتا الانتخابات والأحزاب السياسية والمجتمع المدني المعني للدفع بهم إلى التسجيل وممارسة حقّهم وواجبهم الانتخابي، رغم التحشيد والتعبئة الهائلة التي قادها رئيس الحركة راشد الغنوشي شخصيا خلال الحملة، ورغم «النسخة» المتكيّفة مع إكراهات خصوصية الواقع التونسي التي حاولت النهضة ترويجها، خاصّة إثر هزيمتها في انتخابات 2014.
حربوشة النهضة «لايت» لم تمر
بعيدا عن الأرقام، وفي مقاربة سياسية أوّلية لما حدث لحركة النهضة من تقهقر متواصل في رصيدها الانتخابي، يمكن رصد بعض الملاحظات:
ـ أولها، أنّ «حربوشة» النهضة «لايت» لم تمر، بالرغم من ترشيح بعض «السافرات» في قائماتها ومحاولة مغازلة جزء محسوب على العائلة الحداثية، حتى وصل الأمر إلى استثمار صور «الدجين المقطّع» التي كانت ترتديه إحدى المرشّحات كدليل على الاختراق الناجح للنهضة لمعسكر الحداثيين و جماعة «النمط» كما كان يسميهم الأنصار. ورغم «مرونة» الخطاب ومحاولة «تونسة» الممارسة شكلا وصورة كأن يتحوّل الشيخ إلى الأستاذ فجأة بربطة عنق وبدلة أنيقة.
ـ ثانيها : خسارة النهضة لنصف مليون ناخب هذه المرّة يضع نقاط استفهام حول مقولة قيادييها لمّا يردّدون في العلن أنّ لهم «مخزون انتخابي لا يتزعزع». النتائج الحاصلة تفنّد هذه المقولة وتجعلها في مرمى الشكّ والريبة. فالنهضة وفي نسختها «الجديدة» قد تبيّن الآن أنّها مرفوضة لاسيّما من طرف جزء واسع من المتعاطفين مع الحركة الإسلامية والأنصار والناخبين «المفترضين» لها، إذ مثّلت هذه النسخة الجديدة «النهضة لايت» غريبة لدى هذا الطيف من التونسيين، ممّا تسبّب في خيبة ظنّ كبرى في قيادة ربّت أجيال من قواعدها ولمدّة عقود على خطّ ومبادىء زاغت عنها شيئا فشيئا، بل وتعمّدت نقيضها.
ـ ثالثها، أنّ حملة الغنّوشي التي قرئت على أنّها اختبار أوّلي لانتخابات رئاسية قادمة قد فشلت، ووجب التفكير في بدائل أخرى ممكنة، وأنّ الترويج لشعبية الرجل مبالغ فيها، بل أنّ ضررها أكثر من نفعها والدليل هذا التقهقر لرصيد الحركة رغم الحملة الصاخبة.
ـ رابعها، أنّ مواصلة هذا النهج في «التكتيك» السياسي يمكن أن تدفع ثمنه الحركة باهظا في قادم المحطّات، وأنّ الاستمتاع بمقولة «المخزون الذي لايتزعزع» أو «الحزب الأكبر والأكثر تنظيما وانضباطا» والرهان على تشتّت الآخرين، ومن ثمّة صمّ الآذان عن كلّ نقد ورجم الخصم السياسي بشبهة الاستئصال مما سيكون مكلفا سياسيا.
ـ خامسها، أنّ التصويت كان فعليا ضدّ نسخة «النهضة لايت» التي فشلت في إقناع «التوانسة»، رغم تغيير الجلد، ورغم «عناد» الناطق الرسمي للحركة عماد الخميري الذي صرّح لـ«الشارع المغاربي» قائلا: «بالعكس نحن نعتبر أنّنا نجحنا بـ«النهضة الجديدة» (انظر نص الحوار في هذا العدد).
ـ سادسها، وهي ملاحظة عامّة ولكنّها الأكثر حساسية ودقّة لأنّها تتعلّق بمستقبل حركة النهضة. بعد أن قطعت الحركة «نصف الطريق» تقريبا في «نسختها المعدّلة» وفق تكتيك يحاول أن يوفّق بين إكراهات الداخل و إشترطات الخارج، تجد «النهضة الجديدة» نفسها في نقطة «اللّاعودة» تقريبا. إمّا مزيدا من الترجّل في هذا النّهج و استنزاف «المخزون» ومواصلة رحلة «التكيّف» مع ما تقتضيه من خسائر في الطريق ، وإمّا العودة على الأعقاب حيث «المجهول» أو ربّما «المغامرة الخطرة»؟…