الشارع المغاربي – النهضة والنهضويون "الكلّهم كيف بعضهم"/ بقلم: معز زيود

النهضة والنهضويون “الكلّهم كيف بعضهم”/ بقلم: معز زيود

قسم الأخبار

14 يناير، 2022

الشارع المغاربي: ما انفكّت الأحداث الجارية في البلاد تُؤكّد، يومًا بعد يوم، العجز المتفاقم لدى قيادات حركة النهضة عن استيعاب الدروس الرهيبة للمرحلة الراهنة. فاكتفى هؤلاء بإعادة انتهاج خطاب المظلوميّة، وأثبتوا خصوصًا «أكذوبة» التمايز في صفوفهم وسائر ما كانوا يُروّجون له بشأن استقالاتهم من الحركة…

لو عدنا القهقرى إلى الخطاب الذي كان يسوقه بعض قيادات الصفّ الأوّل بحركة النهضة، على غرار عبد اللطيف المكّي وعبد الحميد الجلاصي وبدرجة أقلّ سمير ديلو، بشأن غياب الديمقراطيّة في تسيير الشؤون الداخليّة للحركة ومركزيّة القرار السياسي لدى زعيمها وشيخها ومرشدها وقائدها التاريخي راشد الغنوشي، لاكتشفنا أنّ الأمر برمّته يتعلّق على الأرجح بخلافات داخليّة وربّما بمصالح متضاربة أو بمكاسب ما أو بحرب مواقع… وعلى الأغلب فإنّ تصعيد تلك الخلافات إلى العلن استلزمته مناورات ظرفيّة تعود إلى اعتبارات تكتيكيّة، دون أن ترقى إلى مرتبة خلافات إستراتيجيّة في المواقف والتصوّرات والرؤى…

فرد في صيغة الجماعة!

ما يُلاحظ اليوم على مستوى مواقف القيادات الكبرى لحركة النهضة أنّها تكاد تكون متماثلة، وكأنّهم يُشكّلون صوتا واحدا ينبعث من أفواه متعدّدة. «هل حقّا كلّهم كيف كيف؟!» تساءلت، فأجابني ذلك الصوت الشعبي «كسكسلو يرجع لاصلو»!…

قد لا يُعدّ هذا الأمر إشكالا في حدّ ذاته، باعتبار أنّه من الطبيعي أن تنطوي الجماعات الأيديولوجيّة مثل جماعة الإخوان على ذاتها وتنغلق على نفسها للحفاظ على تماسكها. فكلّما تعرّضت لهجمات خارجيّة تستهدف بنيانها، تمضي في رشق زعانفها وأشواكها في وجه من لا ينتمي للجماعة أو يخالف توجّهاتها، وإن بدت ظاهريّا تعتمد خطابا يُسوِّق لعكس ذلك تمامًا. والحال أنّها تواجه الإقصاء بالإقصاء وتمارس الاستئصال لا فقط إزاء خصومها الذين يُبادلونها النهج ذاته ولكن أيضا حيال كلّ من لا يناصرها.

لا يخفى، في هذا المضمار طبعا، أنّ رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد قد سلك كلّ السبل التي بدت له ناجعة من أجل استبعاد خصمه اللدود ومنافسه الحقيقي على السلطة المتمثّل في حركة النهضة من أيّ خارطة سياسيّة مقبلة قد تحدّ من تفعيل توقه إلى الانفراد بالسلطة. انطلق ذلك منذ يوم 25 جويلية الماضي حين استخدم الفصل 80 من الدستور وبالغ في تأويل مقتضياته بما يُناسبه في اتّجاه إلغائه تمامًا. وهو ما أقدم عليه عمليّا بمقتضى الأمر الرئاسي عدد 117. فهو لم يكتف بتجميد البرلمان ونوّابه ورئيسه النهضوي، بل علّق أيضا العمل بالدستور إلى حين إلغائه نهائيّا. ثمّ البدء في استكمال حلقات الاستبعاد والإقصاء على غرار تفعيل قرارات محكمة المحاسبات حول التجاوزات والجرائم الانتخابيّة، فضلا عن المضيّ في تحشيد الجهاز القضائي للبتّ في عدد من القضايا العالقة. وهو ما انطلق الجهاز الأمني مؤخّرا في إعماله حيال وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري الذي يبدو أنّ الأجهزة الأمنيّة قد صنّفته رأس حربة في ضرب مشروع الرئيس قيس سعيّد ومحاولة إسقاطه بمناسبة ذكرى الثورة يوم 14 جانفي المقبل…

ودون الخوض في الحيثيّات الزجريّة المفرطة لاعتقال البحيري التي استفاض هذا وذاك في توصيفها سياسيّا وقانونيّا، فإنّ حركة النهضة، بكلّ قياداتها و»المنشقين» عنها و»المستقيلين» المفترضين منها، قد اصطفّت في خندق واحد للتجييش والتعبئة ضدّ غريمها الذي اتّضح أنّه أقدم على قطع شعرة معاوية بعد استهداف أبي سفيان!. ومن ثمّة أخذنا نُعاين كيف استحال البحيري حملا وديعًا في خطاب متناهي التشنّج يسوقه من ادّعوا سابقا الاستقالة عن حركة النهضة، إلى درجة الترويج لارتكاب السلطة «جريمة ضدّ الإنسانيّة لا تسقط بمرور الزمن»، وإلى توصيف كلّ من لا يصطفّ مدافعا عن «عذريّة» البحيري بأقذع الشتائم من قبيل «الخزي والعار».

وبصرف النظر عن الجوانب القانونيّة لملف البحيري أو لشبهات التهم التي سيقت مؤخرا ولا يمكن البتّ فيها إلّا بتوفّر شروط المحاكمة العادلة، فإنّ القاصي والداني يُدرك أنّ البحيري كانت له، خلال فترة حكم الترويكا بقيادة حركة النهضة، اليد الطولى في تدجين فئة غير هيّنة من القضاة عبر استبعاد جموع من «المناوئين» بمقتضى التقاعد الوجوبي والتحكّم في الحركة القضائيّة وممارسة سياسة الترهيب والترغيب إزاءهم. ولا يخفى أيضا أن تلك الممارسات قد شوّهت الجسد القضائي التائق إلى الاستقلاليّة، حتّى أصبحنا نتحدّث، في فترة ما، عن «قضاء البحيري» و»قضاء الشاهد» وكذلك عن قضاة آخرين تابعين لعدد من لوبيّات المال والأعمال أو حتّى العاملين منهم لحساب أصحاب مؤسّسات إعلاميّة معيّنة بتأثير من عدد من السياسيّين والمحاميات والمحامين الماسكين بقضاياهم…

ورغم كلّ هذه التوصيفات المعلومة والمتداولة على نطاق واسع، ينبري من كانوا يروّجون لاستقالاتهم المزعومة ولأخذهم مسافة من ممارسات «سيدي الشيخ» يوجّهون الطعنات إلى كلّ من يُخالفهم الرأي والتوصيف ويتوعّدونهم وكأنّهم يمسكون أبواب السماء.

هكذا تراهم أفرادًا تلبّسوا صيغة الجمع، فلا غالب في صميم نظرهم إلّا لفكر الجماعة الذي في حال مواجهته لأيّ تهديد خارجي تسقط كلّ الأقنعة، وتؤجّل الخلافات التي أوهموا الرأي العام بأنّها كانت تشقّ صفوفهم في انتظار إعادة توزيع المواقع وتحديد مراكز القوى على أساس المرجعيّات القديمة ذاتها.

معضلة «الاست_حمار» !

يُكثّف بعض قيادات حركة النهضة اليوم، ولا سيما من كان يروّج لوهم استقالته منها سابقا، انتقاداتهم اللاذعة لا إلى رئيس الجمهوريّة قيس سعيّد فحسب، باعتبار ذلك سلوكا سياسيّا طبيعيّا دفاعا عن وجودهم، ولكن أيضا إلى من يُسمّونهم بـ «العلمانيّين واليساريّين والحداثيّين المزعومين» وما إلى ذلك من التصنيفات التي يُوشّح بها غير النهضويّين.

يحاكمون النوايا ويُحدّدون أفق الحياة وتوجّهات النخب التي تستنكف عن مجاراتهم، وكأنّهم أوصياء على البلاد والعباد. يستهدفون من ينأى بنفسه عن ألاعيب خصمين لا يؤمن كلاهما إطلاقا بالديمقراطيّة التي لا يرونها سوى آليّة للوصول إلى الحكم والهيمنة على دواليب الدولة. فمن لم يسر في رحالهم يتحوّل بجرّة قلم طائش إلى متواطئ ومتشفّ دنيء وعديم الأخلاق. ثمّ يتوعّدونه بالانتقام وبأنّه سيلقى جزاءه بحكم القانون والسياسة والأخلاق حين يستعيدون نفوذهم.

لا يؤمنون بالحقّ في الاختلاف وبالاستقلاليّة، ولا يريدون من النخب الفكريّة والإعلاميّة إلّا ان تكون مجرّد «طراطير» مثلما تعوّدوا الفعل مع كلّ من تحالف معهم سابقا ثمّ نفضوه من حولهم عندما يستقرّ لهم الأمر ويستطيب.

ومن أشدّ المفارقات أنّهم يتحدّثون عن ضرورة الدفاع عن الديمقراطيّة والحقوق والحريّات، رغم ثبوت مسؤوليّتهم السياسيّة والأخلاقيّة في مهادنة الجماعات التكفيريّة التي لم تُفرّخ سوى الإرهاب والاغتيال والتجهيل… أغرقوا التونسيّين في معارك «الهويّة»، مقابل إهمال القضايا الحقيقّة الكفيلة لوحدها بتحسين واقع التونسيّين وتطوير الأوضاع الاقتصاديّة والاجتماعيّة للبلاد عموما. ومع ذلك يتشدّقون اليوم بالدفاع عن المقدرة الشرائيّة للمواطن المسكين في ظلّ الالتهاب المستمرّ للأسعار. كيف لمن لم يهتم سابقا، وهو في الحكم، بالأوضاع البائسة للطبقات الشعبيّة، أن يُبدي اليوم أدنى اهتمام بهموم الشعب الموجوع؟!.

من التجنّي طبعا تحميل حركة النهضة مسؤوليّة كلّ الخراب الذي أصاب البلاد بعد الثورة، فقد كان لحلفائها الظرفيّين نصيب من سياسات التدمير والتقسيم. وهل يمكن أن ننسى أنّهم كانوا يتمسّكون إلى آخر لحظة، قبل قرارات 25 جويلية وتزامنا مع طفرة انتشار جائحة كورونا القاتلة في البلاد، بدفع الدولة الموشكة على الإفلاس لمليارات التعويضات لأنصار الحركة وكذلك باختيار شخص تكفيري لعضويّة المحكمة الدستوريّة. عن أيّة ديمقراطيّة وحقوق وحريّات يتحدّثون إذن؟!

متى سيدركون أنّ زمن الاستغفال قد ولّى وأنّ المؤمن لم يعد يقبل أن يُلدغ من الجحر نفسه مرّتين وثلاثا وأكثر. فعشرة أعوام من الفشل والعجز والتدمير كانت كفيلة بنسف منسوب الثقة الذي كانوا يستخدمونه لاستقطاب التونسيّين وتشتيت صفوفهم…

لقد ثبت اليوم أنّ معركة حركة النهضة معركة سياسيّة يخوضها كافّة قياداتها المتماثلين إلى حدّ النخاع على مستوى المرجعيّات والخيارات والرؤى وفي استهداف الرافضين لوصايتهم. أمّا الدين والأيديولوجيا فلا يعدوان أن يكونا إلّا وسيلة لفرض الهيمنة على الجموع…

بات جليّا إذن أنّ المظلوميّة لم تعد تُؤدّي الغرض، فحلّ الابتزاز الأخلاقوي والعاطفي الساذج والتهديد والوعيد بمحاكمة التاريخ للصامتين عن الحقّ المزعوم… ولم يبق لهؤلاء إلّا الحديث عن ضرورة تجنّد الجميع للدفاع عن الحقوق والحريّات والديمقراطيّة المهدّدة وإنقاذها من براثن الحكم الفردي من أجل العودة إلى المنظومة السياسيّة الفاسدة السابقة!. أفلم يُعبّر أحد قيادات حركة النهضة مؤخرا خلال إحدى ندواتها الصحفيّة (سامي الطريقي) عن فخر حركته بالعشريّة الماضيّة. أمسى التباكي على الديمقراطيّة الضائعة وعن الحقوق المنتهكة مجرّد «ماعون صنعة» لا أكثر ولا أقلّ، كما يقول لسان حال المواطن التونسي المسكين.

ليس قدر التونسيّين اليوم أن يكونوا هدفا ومطيّة للمتلوّنين والحربائيّين وسائر المتحجّجين بالديمقرطية والحقوق والحريّات دون الإيمان بها إطلاقا، سواء من جماعة الإخوان المتمسّكة بمرجعيّاتها المتحجّرة والرافضة لسنّة التغيير أو من خصمهم المتأبّط بسلطة حكم الفرد الواحد القهّار اليوم. إنّه زمن «الاستبلاه» و»الاستغفال» و»الاستحمار» وسائر التوصيفات المقترنة بـ»الاست» التي تختبئ وراء أقنعة الاستقالة والاستقلاليّة الوهميّة، لتُبرّر استهداف كلّ من يرفض وصاية أصحاب معجم «الخزي والعار»…

نشر بأسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 11 جانفي 2022


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING