الشارع المغاربي – الوظائف التاريخية لسلاح المديونية والتجارة المختلة : إخضاع تونس واحتلالها/ بقلم : أحمد بن مصطفى

الوظائف التاريخية لسلاح المديونية والتجارة المختلة : إخضاع تونس واحتلالها/ بقلم : أحمد بن مصطفى

9 أكتوبر، 2018

الشارع المغاربي : أثار الكشف عن الحقائق المفزعة لمعضلة المديونية بتونس ردود فعل مطمئنة من السلطات الحاكمة فأعلنت عبر تصريحات لوزير المالية أن تقليص نسبة الديون إلى اقل من سبعين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هو من ابرز أهداف قانون المالية للسنة القادمة و لكنها كشفت بنفس المناسبة أن الحكومة ستقترض 10 مليار دينار سنة 2019 مخصصة أساسا لسداد القروض المستحقة على تونس و البالغة 9 مليار دينار.

و مثلما حصل في الأعوام الماضية يرجح أن تتجاوز الأرقام الحقيقة لخدمة الديون مستقبلا التوقعات الرسمية سيما في ظل الانفلات المستمر والمتسارع للمديونية الخارجية و لقيمة الدينار مع الإشارة إلى تصريحات كان قد أدلى بها سنة 2015 وزير المالية آنذاك و مفادها أن كلفة الديون تزداد بثلاثين مليون دينار كلما تراجعت قيمة الدينار بعشر مليمات فقط قياسا بالدولار.

الإصرار على إغراق تونس في المديونية و اخضاعها للضغوط الخارجية
و على صعيد متصل أعلن عن افراج البنك العالمي على قرض بقيمة 500 مليون اورو لتونس مما يؤكد أن المؤسسات المالية الدولية و المقرضين الرئيسيين لبلادنا معنيين فقط بضمان استرداد القروض القديمة بدلا من مساعدة تونس على استعادة توازناتها المالية و الخروج من الأوضاع المالية الدقيقة و الخطيرة التي تردت فيها وهو التمشي الوحيد العقلاني و المسوؤل الذي كان من المفترض أن يتصدر أولويات الحكومة و الطبقة السياسية الفاعلة بتونس في هذه المرحلة الحرجة و المفصلية من تاريخها.

لكنهم اختاروا سياسة الهروب إلى الإمام و الخضوع لإرادة فرنسا و حلفائها المصرين على مزيد إغراق تونس في تبعية مالية خانقة تستهدف إبقاءها في دائرة نفوذهم من خلال تكريس تبعيتها المالية و الاقتصادية و تكبيلها بالاتفاقيات غير المتكافئة و المضرة بمصالحنا الحيوية و في طليعتها اتفاق التبادل الحر الشامل و المعمق الذي يخطط للتسريع بالتوقيع عليه لحرمان المعارضة و الشعب التونسي من فرصة الاعتراض عليه و إسقاطه بالطرق الديمقراطية من خلال الحوار الوطني بمناسبة الاستحقاقات الانتخابية القادمة .

و هكذا يتضح أن فرنسا بمعية دول مجموعة السبع و الاتحاد الأوروبي يعملون بنسق حثيث على توظيف المديونية و بقية أدوات السيطرة و منها خاصة التجارة المختلة و الامتيازات المفرطة الممنوحة للمستثمرين الأجانب لتكريس وصايتهم غير المعلنة على سياسة تونس و خياراتها الاقتصادية و الدبلوماسية دون أن يثير ذلك ردود فعل من الحكومة و الطبقة الحاكمة المهمومة فقط بالاستمرار في سلطة وهمية مجردة من مقومات السيادة، غير عابئة بالمخاطر الناجمة عن مثل هذه السياسات الانتحارية و ما جنته على تونس عبر تاريخها المعاصر و الحديث من كوارث و هيمنة و احتلال.

و في حقيقة الأمر هناك أوجه شبه عديدة بين الأجواء السياسية و الدبلوماسية و الأوضاع الاقتصادية و المالية السائدة حاليا بتونس، و تلك التي ميزت المرحلة السابقة لفرض الوصاية المالية الدولية تمهيدا لاتفاق الحماية الذي مهد للاحتلال الفرنسي المباشر لتونس.

القواسم المشتركة بين الوضع الحالي و المرحلة السابقة لفرض الاستعمار على تونس
من المهم تسليط الأضواء على القواسم المشتركة التي تجمع بين المرحلتين سعيا لتذكير التونسيين بضرورة استخلاص العبر من دروس التاريخ و من أخطاء الماضي كما نسعى في ذات الوقت لإيصال رسالة إلى القوى المهيمنة، و إلى إتباعهم و عملائهم في الداخل و الخارج، مفادها أن التاريخ لن يعيد نفسه و أن الشعب التونسي قادر بفضل قواه الحية و الوطنية على تقديم التضحيات القصوى في سبيل الدفاع عن حقوقه و سيادته واستقلالية قراره.
و تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى إن سياسة التداين المفرط الحالية و سوء التصرف في الموارد المقترضة و التواطئ مع القوى المهيمنة ضد مصالح تونس و استشراء الفساد صلب الطبقة السياسية و صلب مؤسسات الدولة فضلا عن سياسة الانفتاح الاقتصادي و التجاري المفرط – المتعارضة نصا و روحا مع مقتضيات الدستور التونسي الجديد – هي ذات الخصائص التي ميزت فترة الحكم التي أدت سنة 1869 إلى حالة الإفلاس و تنصيب “الكومسيون” المالي تمهيدا لمرحلة الاحتلال المباشر.
وقد سبق تنصيب الوصاية المالية على تونس خضوع محمد باي للضغوط السياسية و العسكرية الفرنسية و البريطانية التي أدت إلى التوقيع سنة 1857 على عهد الأمان وهو عبارة عن وثيقة إصلاحية في شكل إعلان لحقوق الإنسان تحصلت بموجبه الأقلية الفرنسية الأوروبية اليهودية على امتيازات و استثناءات و مكاسب كبيرة تكاد تكون متماثلة في عديد الجوانب مع تلك المضمنة باتفاق الآليكا و منها حرية التجارة الداخلية و الخارجية و حق ممارسة كافة المهن الصناعية و الفلاحية و الخدمية و حق امتلاك العقارات و الأراضي وغيرها من الامتيازات الأخرى.

و الملاحظ إن فرنسا باعتبارها اكبر الدائنين في تلك المرحلة مثلما هو الشأن حاليا، كانت حريصة باستمرار قبل الاستقلال و بعده على التحكم في المشهد السياسي التونسي و فرض السياسات التي تخدم مصالحها و نواياها الاستعمارية من خلال اختراق المؤسسات و الضغط لتعيين بعض المسؤولين الفاسدين الخاضعين لنفوذها و تعليماتها و زرعهم في أعلى مستوى القرار.
هذا و ساهمت فرنسا أيضا في القضاء على أول محاولة لإرساء نظام سياسي دستوري في تونس بسعيها لتجميد العمل بدستور 1861 لأنها كانت حريصة، وفقا لرواية المؤرخ الحبيب بولعراس، على استمرار الحكم الفردي للباي الذي يسهل الضغط عليه و التحكم فيه بخلاف المنظومة الدستورية و المؤسساتية التي تم إرساءها بموجب الدستور.

وما أشبه البارحة باليوم حيث انقضت فرنسا و مجموعة السبع مباشرة بعد الثورة لفرض استمرارية نفس السياسات و أساليب الحكم و الأطر المنظمة للعلاقات مع تونس بما يخدم هيمنتها و سيطرتها على مقدراتنا و خياراتنا الكبرى مما ساهم بقسط كبير في حالة الانهيار الاقتصادي و المأزق السياسي و الدستوري الحالي. هذا فضلا عن فشل الانتقال الديمقراطي بسبب تعطيل الدستور و الحيلولة دون استكمال البناء المؤسساتي و الديمقراطي بتونس و إعطاء الأولوية للاندماج مع أوروبا على حساب المشروع الإصلاحي السياسي و المجتمعي و الاقتصادي الذي اقره الشعب التونسي من خلال دستوره الجديد.

الجذور التاريخية للهيمنة الفرنسية الأوروبية الغربية على تونس .
يجدر التذكير بأن نجاح فرنسا في فرض الاحتلال على تونس جاء بعد حصولها على التزكية والضوء الأخضر من الأطراف الأوروبية الرئيسية المتصارعة على النفوذ في المنطقة وذلك في إطار مؤتمر برلين المنعقد سنة 1878 بألمانيا لتقاسم مناطق النفوذ على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتداعية. و قد جردت معاهدة باردو الموقعة بتاريخ 12 ماي 1881 تونس من سيادتها في مجالات الدفاع والسياسة الخارجية ثم جاءت معاهد المرسى الممضاة بتاريخ 8 جوان 1883 التي منحت فرنسا الحق في إدارة الشؤون الداخلية لتونس.

وبذلك فتح المجال لانتقال جالية أوروبية وفرنسية هامة واتسع هذا الوجود السياسي والعسكري والبشري طيلة 75 سنة من الاحتلال الاقتصادي والاستيطاني الذي كرّس الهيمنة الفرنسية المطلقة على تونس.

وقد سبق لتونس أن خضعت منذ القرن السادس عشر وتحديدا سنة 1535 إلى احتلال إسباني دموي تركز في المناطق الساحلية، واستمر لمدة أربعين سنة قبل خضوعها سنة 1574 إلى سيطرة الامبراطورية العثمانية وذلك في إطار النزاع الدائر آنذاك بين تركيا وإسبانيا للسيطرة على الحوض الغربي للمتوسط.
وبعد تركيز سلطة البايات بتونس، برزت لديهم نزعة استقلالية متزايدة إزاء الباب العالي، وقد سعت فرنسا لتشجيع هذا التوجه الانفصالي للاستفراد بتونس ثم الانقضاض عليها بعد احتلال الجزائر سنة 1830 خدمة لاهدافها الاستعمارية في المنطقة، كما شرعت مبكرا منذ القرن السابع عشر في بسط سيطرتها على مفاصل الاقتصاد التونسي مستغلّة منظومة الامتيازات للأجانب (capitulations) التي منحتها الامبراطورية العثمانية لفائدة الجاليات الفرنسية والأوروبية في مناطق نفوذها.
وبموجب هذا النظام لا تخضع الجالية الأوروبية للقوانين والمحاكم التونسية وتحظى بحماية حقوقها الاقتصادية والاجتماعية المكتسبة علما أنه تم في مرحلة لاحقة إدراج هذه الامتيازات الاستثنائية و توسيعها في وثيقة عهد الأمان المشار اليها وكذلك في دستور 1861 وأيضا إتفاقيات الحكم الذاتي الموقعة سنة 1955.
والملاحظ ان إتفاقيات الحكم الذاتي هذه ظلت سارية المفعول بموجب بروتوكول الاستقلال لسنة 1956 الذي نص على تعديلها في مفاوضات لاحقة لملاءمتها مع مقتضيات الاستقلال التام مع الإشارة إلى عدم إجراء هذه المفاوضات بسبب التوتر الذي ساد العلاقات بين البلدين بعد الاستقلال. و في المقابل سعت فرنسا و المجموعة الأوروبية و الكتلة الغربية عموما للحفاظ على تونس و الضفة الجنوبية في دائرة نفوذها السياسي و الاقتصادي وهو ما تحقق بالفعل بإتباع الاساليب و السياسات التالية:
ـ السعي لإفشال الإستراتيجية التونسية لإزالة الاستعمار الاقتصادي لمرحلة الستينات و استغلال أزمة المديونية لبداية الثمانينات لإخضاع تونس للبرامج المشروطة لصندوق النقد الدولي و تكريس تبعيتها للتمويلات الخارجية وهو ما تكرر أيضا بعد الثورة.
– السعي إلى ضمان استمرار منظومة اقتصاد السوق والتبادل الحر المختل مع تونس كخيار وحيد لإدارة الشأن الاقتصادي بتونس و في علاقاتها الخارجية الثنائية و المتعددة الإطراف و ذلك من خلال إتفاقيات التبادل الحر المبرمة سنتي 1969 و 1976 مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية.
ـ العمل على مواصلة التحكم في السياسات و الخيارات الاقتصادية التونسية مع السعي لإدراج الامتيازات والحوافز الممنوحة للأجانب بالقوانين التونسية المحفزة للاستثمارات انطلاقا من قانون 1972 الذي حشر تونس في أنشطة المناولة لفائدة الصناعات الأجنبية، وصولا إلى اتفاقية 1995 للتبادل الصناعي مع الاتحاد الأوروبي و كذلك الآليكا ومجلة الاستثمارات الجديدة.
ـ الحفاظ على نظام اللزمات (Système des concessions) الذي يسمح لفرنسا وللقوى الصناعية العظمى بااحتكار استغلال الثروات الطبيعية والنفطية و الفلاحية والقطاعات الاقتصادية الأكثر ربحية من خلال عقود طويلة الأمد تتيح لها تحقيق أرباح طائلة و تحويلها الى الخارج على حساب المصلحة الوطنية التونسية.
– الحفاظ على الازدواجية الاقتصادية الموروثة عن الفترة الاستعمارية القائمة على تواجد منظومة اقتصادية تونسية متخلفة تكنولوجيا و علميا في منافسة غير عادلة مع المنظومة الفرنسية الأوروبية العصرية و المتقدمة تكنولوجيا وهي المسيطرة على الأسواق التونسية و الأنشطة و القطاعات ذات القيمة المضافة العالية.
– العمل على إضعاف الدولة التونسية و تجريدها من مصادر تمويلها الذاتية و من وظائفها الاقتصادية والاجتماعية و لإنسانية مع السعى للسيطرة على قطاع الإعمال التونسي و على الثروات البشرية التونسية المقتدرة و المتعلمة و تحويل وجهتها لإدماجها عبر اتفاقيات الشراكة المختلة في الدورة الاقتصادية الأوروبية أو في القطاعات الاقتصادية التونسية المربحة الخاضعة للهيمنة الغربية.

و هكذا يتضح أنه لا يمكن في تقديري التوصل إلى حلول جذرية و حقيقة للمأزق السياسي و المؤسساتي و عدم الاستقرار المزمن و تعثر الانتقال الديمقراطي فضلا عن الأوضاع الاقتصادية المنهارة التي تشهدها تونس، إلا من خلال مراجعة للعلاقات الخارجية مع شركائنا الرئيسيين و ذلك من خلال آليات الحوار الثنائية و المتعددة الإطراف المتوفرة مع فرنسا و مجموعة السبع.
لكن الأولوية القصوى تكمن في هذه المرحلة في وضع حد للازمة السياسية بهدف إنقاذ الانتقال الديمقراطي و فتح المجال للانتخابات و لتداول سلمي و حقيقي على السلطة لا يقتصر على تغيير الأشخاص بل يشمل تغيير السياسات ويمكن الشعب التونسي من استرداد حقه في تقرير مصيره و وضع حد للهيمنة الأجنبية التي أوصلت تونس إلى هذا الحد من الانهيار السياسي و الاقتصادي.

بقلم : احمد بن مصطفى  : سفير سابق و باحث في القضايا الدبلوماسية و الإستراتيجية

 


اقرأ أيضا

الشارع المغاربي


اشترك في نشرتنا الإخبارية



© 2020 الشارع المغاربي. كل الحقوق محفوظة. بدعم من B&B ADVERTISING