الشارع المغاربي:
4/ارتجالية التّقسيم إلى أقاليم
إنّ”آمر” تقسيم تونس إلى أقاليم مرقّمة من واحد إلى خمسة قد حاول أنْ يتدارك على أنّ جوهرَ تقسيمه هو تنفيذ لرزنامة إنتخابية. وهي رزنامة قائمة على تصوّر لديه يراه فتحا مُبينا يساهم به “الفقراء والمهمّشون” في سَنّ القوانين. لقد حاول أن يتدارك على ذلك بأن وَصَل التقسيمَ بمقاصد” تنموية” وصلا كلاميا خالصا.
لنترك جانبا حقيقة أنّ انتشال “للفقراء والمهمشين” من حالهم أوكد لهم من”سَنّ القوانين”. ولنترك جانبا حقيقة أنّ سنّ القوانين هو رفاه لا قِبَلَ لَهُم به ، وأنّ فقرَهم وتهميشَهم لا يتركان لهم مجالَ أن يكون ذلك السَّنُّ من مشاغلهم . ولنسلّم على وجه الإفتراض بأنّ لذلك التقسيم أهدافا تنموية ممكنة. لِنسلّمْ بالأمر فنجادلَ فيه صاحبَه بالتي هي أحسن.
إنّ تقسيم البلاد تقسيما إقليميا “ذا أهداف تنموية” هو أولا شأن وطني مركّب، وثانيا شأن الكافة من التونسيين. أمّا أنه شأن وطني مركب فمِن جهة أنّ عناصر عديدة وشروطا شتّى تتداخل فيه. ومِن هذه العناصرِ والشروطِ العلاقاتُ بين الأقاليم والعلاقات بين الولايات التي فيها. وهي علاقات تقتضي التجانس أو التكامل تبعا لخطط التقسيم ووأهدافه التنموية التي يتوجّب تدبّرُها تدبّرا يسبق التقسيمَ وإشهاره وإقراره. ومن العناصرِ والشروطِ الغالبُ من الجوانب الجغرافية والسكانية والمهنية والإقتصادية وأسباب تلاؤمها أو تكاملها وعوامل التنمية المتحركة والكامنة والمهدورة، وأنماط الترابط بينها بمختلف أشكال النقل الذي كان يسمّيه الزعيمُ بورقيبة “الجهاز العصبي للبلاد”، ومدى شمول المسح العقاري في الأقاليم والولايات وخصائص التربة فيها ومعدّلات الأمطار ومصادر المياه والثروات الباطنية والمراكز الصناعية والخدمية والإدارية الخ…
فلما كان القطاع الخدمي يُكامِل على وجه الخصوص القطاعَ الصناعيّ، فقد وَجُهَ أن تنتميَ إلى الإقليمِ نفسِه ولايةُ تونس الخدمية وولايةُ بن عروس الصناعية بالغلبة. ولعل هذه الوجاهة لم يُصِبها صاحبُ التقسيم وإنما فرضها عليه تاريخُ التوسع في مدينة تونس الذي رسّخ مفهومَ “تونس الكبرى” بولاياتها الأربع التي يتعذّر ألّا تكون في إقليم واحد. لكنّ هذه الوجاهة تتهافت بأن تنتميَ إلى الإقليم نفسه ولايتا منوبة وزغوان. فبينهما لا محالة مشترك فلاحي. لكنّ الجانب الخدَمي الجامعي إنما تختصّ به ولايةُ منوبة اختصاصا يصلها غالبا بولاية تونس. وقد يمثّل المشترك الفلاحي بين منوبة وزغوان عاملا جامعا. لكنّ السلاسة المرورية بينهما ممتنعة. فهل رافق التقسيمَ تصوّرٌ يتدارك على المانع؟. لا أثَرَ لذلك إنجازا ولا تخطيطا، وهذا ما ينطلق إلى حد كبير على ما بين بقية الأقاليم وبين ولاياتها.
وأمّا أنّ هذا التقسيمَ هو شأن الكافة من المواطنين فلأنّ طابعه المركب تتقاطع فيه محاورُ التنمية والتواصل الإجتماعي والصحة والتعليم والتشغيل والإدارة. ففي الإدارة على سبيل المثال تُربك هذا التقسيمَ الإقليميَّ الترابيَّ التقسيماتُ الإدارية نحو الشرطة والحرس والشركة التونسية للكهرباء والغاز والشركة التونسية لاستغلال المياه وتوزيعها، فضلا على تقسيمات أخرى تتعلق بالمؤسسات المائية والغابات. فهذه التقسيمات إداريةُ الطابع عمليّته، وقد ألفها النواطن. لكنْ، حين تتيهُ هذه تقسيماتُ داخل تقسيم ترابي مختلف عنها، فقد يحتاج المواطن إلى”دليل أقاليم”.
إنّ كل تقسيم ترابي، وجيها كان أو مفتعلا، هو شأن مجتمع ودولة .فهو لا يَنفَرِض بإرادة فردية تُقارب إلى حد كبير المزاجيةَ الشخصية، وهي مزاجية تعيد على الورق صياغة الوقائع لتلائم قسرا ما ترى. فعلى رأي الاستاذ حمادي بن جاب الله، جعل هذا التقسيمُ التونسيين” في وضع الرعية”، فخالف” الجدوى” منه لأنه “لم يكن موضوع حوار معمق بين التونسيين”.
5/آفاق التقسيم العدَمية
الواضح في هذا التقسيم الذي أصدره رأس الحكم ، أمرا، أنه تقسيم انتخابوي، وأنّ وحدته الإننتخابية “القاعدية” هي العمادة ؛ العمادة التي يترشح باسمها المترشحون ترشحا فرديا خالصا. وها هنا بؤرة الإشكال الأولى وقاعدته العدَمية. فالترشح الفردي الوجوبي يقصي الاحزاب إقصاءً غير جائز قانونيا وغير سليم سياسيا.
أما أنه غير جائز قانونيا فاستنادا على أنّ مرسوم الأحزاب ينصّ على حقّها في خوض الإنتخابات وطنيا وجهويا ومحليا. وقَصْرُ الترشح على الأفراد هو إقصاء مُلتوٍ للأحزاب، بصرف النظر عن أيّها يقدِر اليوم على الترشيح في كل العمادات، وعلى نيل ثقة ناخبيها، وبصرف النظر عن إشهار هذا الحزب أو ذاك المشاركةَ أو المقاطعة. وإنّ في فردية الترشح الوجوبية مصادرةً على حق المواطنين في التنظم الحزبي، وعلى حقهم في الترشح بإسم الأفكار التي بمقتضاها انتسبوا إلى الأحزاب وقرّروا أن يترشحوا باسمها.
وإنّ في استبعاد الترشح باسم الأحزاب استبعادا للإستصفاء المسبق للمترشحين، وهو ما سيترك فراغا ستشغله على الأرجح ترشّحاتُ ” زعيط ومعيط ونقّاز الحيط”. ففي “الإنتخابات التشريعية” الأخيرة، وقد كانت الدائرة الإنتاخبية أوسع وكان إقصاء الأحزاب غير قاطع، تسرّب إلى البرلمان مَن تخجل منهم جدرانُه، فكيف إذا كانت الدائرة الإنتخابية في ضيق العمادة!؟.
من المرجح جدا أن هذا الضيق الذي يَسهُل التحكمُ في إرادته الناخبة سيفسح مجال الفوز “للوجاهات المحلية المحذوفة” التي لا تستنكف عن استعمال شتى الطرق لجلب الأصوات. وما يزيد هذا الإحتمالَ ترجيحا أن الإقبال على الإقتراع سيكون بالعشرات أو ببضع المئات، سواء استئناسا بالكيانات التي أعلنت المقاطعة أو استئناسا بازورار المواطنين عمّا يرسم رأسُ الحكم، وبانشغالهم بأعباء الحياة التي ثقُلَت عليهم .
كل ذلك يجزم مسبقا أن آفاق هذا المنهاج الإنتخابي والتقسيمي هي العدمية التي ستنضاف إلى عدمية الغرفة الأولى. ذلك أن الإرادة المحلية الناخبة التي لا ضمانة لحسن أدائها، ستتوقف ادوارُها عند الطابق القاعدي أو الأرضي من طوابق” البناء الشاهق”. وسيكون المنتخَبون محليا منتخَبين بناء على عصبيات قبلية أو عروشية أو زبونية. ولن يستطيع إلى منافسة هؤلاء سبيلا مَن سيتسلحون في ترشّحهم بالعِلم والكفاءة والنزاهة.. وإن الفائزين في هذا الطور القاعدي من الشخصيات المحذوفة، كليا أو غلبةً، ستكون منهم كلُّ الطوابق اللاحقة. سيكون منهم طابق المعتمديات وطابق الولايات وطابق الأقاليم وطابق” المجلس الوطني”. سيكون هؤلاء أحجارَ كل الطوابق.
وسيكون اختيار هذا الحجر أو ذاك، في هذا الطابق أو ذاك، بمعيار القرعة، نعم القرعة. و”بالبناء الشاهق” ستتراكب طوابقه وتتعالى بضربات الحظ. وقد تُفضي ورقة الحظ إلى أن يعلوَ الطوابقَ العليا من البناء “أزعطُ المزعوطين وأمعط المَمعوطين”. وسيكون لهؤلاء فذاذةُ أن يكتسحوا مشاكل البلاد اكتساحا في ظرف ثلاثة أشهر. لأنهم، مقروعين، سيتركون أدوارهم بعد كل ثلاثة أشهر، لمقروعين آخرين وهكذا يستمر التقريع بينهم تباعا.
وعلى ذلك قس طابق الإقليم الذي سيجتمع أعضاؤه تباعا في كل مقر ولاية كل ستة أشهر. ولم يضبط الآمرُ المشرعُ نظامَ التعاقب بين الولايات ضبطا دقيقا. فالقرعة هي ضمنيا أداة المعيار، فهي الحل والعقد. وهي الضامنة لكون هؤلاء الجهابذة سيغيرون إلى الأفضل وجهَ البلاد في ظرف ستة أشهر، ولا حاجة إلى ضبط ما ستكون عليه صلتهم بالسلط الجهوية ومصالحها الإدارية. فالشعار هو المثل الفرنسي: ” نقرّر الطريق أثناء المسير”. الحاصل، إني أرغب في البكاء عويلا وفي لطم وجهي لطما.
*نشر باسبوعية “الشارع المغاربي” الصادرة بتاريخ الثلاثاء 3 اكتوبر 2023