الشارع المغاربي – لطفي النجار: بعد 160 عاما من استحداث منصب «شيخ مدينة تونس» بمقتضى مرسوم محمد باي الصادر سنة 1858 ، وبعد أن تداول على بلدية تونس العاصمة 31 رئيسا، تصعد اليوم سيّدة محسوبة على الحركة الإسلامية لتصبح «شيخة المدينة» بعد أن حصلت على ثقة الناخبين وثقة أغلبية أعضاء المجلس البلدي لمدينة تونس. للحدث وجوه متعدّدة يمكن تقليبها وتفكيكها لمحاولة قراءة وتفكيك معانيه بعيدا عن كلّ توتّر إيديولوجي أو انحياز أرعن ينحرف بنا عن بلوغ دلالات هذا الحدث ورصد الاستنتاجات الموضوعية لما حصل.
يطرح فوز سعاد عبد الرحيم بمنصب «شيخ المدينة» جملة من الإشكالات والإحراجات النّظرية التي يمكن اختزالها في مفارقة عجيبة تجعلنا أمام نوعا من السكيزوفرانيا التي صارت عرضا مزمنا في واقعنا التونسي، أو فصاما أصاب بنيتنا الذهنية. فنحن نعتزّ حقيقة أن تكون بلادنا مرّة أخرى صاحبة الريادة والسبق في أن تتبوّأ إمرأة رئاسة بلدية عاصمة لأوّل مرّة في العالم العربي، وهذا استثناء تونسي يضاف إلى قائمة استثناءاتها منذ قرون المسجّلة في الإصلاح و التجديد والتشريع والاجتهاد. ولكنّ الاستثناء التونسي يأتي هذه المرّة ملتبسا حاملا لمذاق «التكتيك» السياسي والحزبي مغموسا بروح «التدافع». لم يكن فوز سعاد عبد الرحيم فوزا «نسويا» واضحا، رغم محاولات تسويقه كنصر للمرأة التونسية من طرف أنصار الحركة الداعمة للسيّدة عبد الرحيم، نظرا لخلوّ رصيد «شيخة المدينة» من كلّ نضال معلوم من أجل حرية المرأة التونسية أو من مواقف أو تصريحات تذود عن المكاسب الحداثية التي غنمتها نساء تونس في دولة الاستقلال والتي ما فتئنا يناضلن من أجل دعمها وتثبيتها. ما عرف عن «شيخة المدينة» هو صمتها عند التلويح بأن تكون المرأة التونسية «مكمّلة» للرجل ذات يوم في المجلس التأسيسي وأن يفرد فصل في الدستور ينفي استقلاليتها وفرديتها ويجعلها تابعا، ليواجه هذا المقترح النهضوي بهبّة شعبية مناهضة ورافضة أيّ مسّ من حرية المرأة وكلّ تهديد لمكتسباتها…لم نسمع حينها السيّدة عبد الرحيم التي كانت في الضفّة المقابلة الرافعة لمشروع مناوئ ومضاد للحرية والمساواة التامّة بين الرجل والمرأة على أساس المواطنة ولا شيء غير المواطنة، بل صدمنا بحديث «أخلاقوي» «للشيخة» تغازل فيه قواعد حركة النهضة وأجنحتها المحافظة تصف فيه «الأمّهات العازبات» بأنّهن «عار» دون تشخيص موضوعي لحالاتهن وإيجاد الحلول الوقائية والرعاية لهنّ وهي الصيدلانية المحترفة.
استثناء ولكن…
هو فعلا «الاستثناء المفارقة» الذي يفرض علينا ألّا نقف عند عتبة «الإشادة» و»التسويق» الحزبي لهذا «النصر» كما صفّق له أنصار حركة النهضة حين إعلان النتيجة النهائية لفرز أصوات أعضاء المجلس البلدي لمدينة تونس . هو في جوهره «نصر» حزبي لفصيل سياسي ولا يمكن تصنيفه أبدا كفوز تونسي عامّ يشمل كلّ نساء تونس وإنجاز مجتمعي لمشروع تحديثي ينحت ويشيّد حجرا حجرا عبر أجيال متعاقبة منذ قرن ونصف على الأقل.
هذا في جانب المقاربة السياسية لحدث انتخاب سعاد عبد الرحيم ك»شيخة لمدينة تونس»، أمّا في الجانب المهني أو لنقل في مضمار الكفاءة، فإنّنا نرى أنّها ليست الأنسب لتحمّل مسؤولية بحجم رئاسة بلدية العاصمة وذلك لأسباب تتعلّق بإمكاناتها وقدراتها الذاتية التي عرفناها بعد 14 جانفي.
السيّدة سعاد عبد الرحيم لا تملك مؤهّلات سياسية كقوّة الخطابة والقدرة على الإقناع، كما لم نعرف عنها مسيرة نضالية زمن الاستبداد سوى مرورا قصيرا بالاتحاد العام التونسي للطلبة جناح حركة النهضة في الجامعة في بداية التسعينات سرعان ما غابت وانسحبت لتنضمّ إلى منظومة الصمت وتكفي نفسها شرّ النضال وسجونه. عادت السيّدة عبد الرحيم بعد 14 جانفي لتصبح عضوة في المجلس التأسيسي، ثمّ فشلت في أن تفوز بمنصب وزاري كما فشلت في أن تدخل البرلمان في انتخابات 2014 ، ومنيت بهزائم متتالية دفعتها إلى ترك النهضة والقفز من قارب الحركة في زمن صعب عاشته النهضة عندما عرفت عزلة وضغطا داخليا وإقليميا ودوليا للخروج من الحكم والقبول بالحوار الوطني.
لم تجد «شيخة المدينة» قبولا عامّا عند ترشيحها على رأس القائمة الانتخابية لتونس العاصمة داخل حركة النهضة التي التجأت إليها على أساس حسابات داخلية خاضعة لتكتيكات سياسية معروفة وليس لكفاءة أو كاريزما تملكه السيّدة عبد الرحيم.
في كلمات موجزة «شيخة المدينة» الفائزة ليست في مستوى الحجم السياسي لمحرزية العبيدي مثلا أو لسامية عبّو أو الراحلة مي الجريبي أو غيرهنّ من القيادات المعروفات يمينا ويسارا، هي سيّدة عرف عنها طول النفس والبراغماتية التي ترجمت في محطّات عديدة إلى نوع من «الزئبقية» السياسية التي أحسنت اليوم استثمارها جيّدا لأنّها قرأت بذكاء حاجة النّهضة في السياقات الراهنة إلى مواصفات توفّرت فيها…أهمّها سفورها ولا شيء غيره تقريبا في ميزان منصب هام بحجم «شيخ» العاصمة.